الموسوعة الحديثية


- في قولِهِ تعالى وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ... إلى قولِهِ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ قالَ جاءَ الأقرعُ بنُ حابسٍ التَّميميُّ وعيينةُ بنُ حصنٍ الفزاريُّ فوجَدوا رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ معَ صُهيبٍ وبلالٍ وعمَّارٍ وخبَّابٍ قاعدًا في ناسٍ منَ الضُّعفاءِ منَ المؤمنينَ فلمَّا رأوْهم حولَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ حقروهم فأتوْهُ فخلوا بِهِ وقالوا إنَّا نريدُ أن تجعلَ لنا منْكَ مجلسًا تعرفُ لنا بِهِ العربُ فضلَنا فإنَّ وفودَ العربِ تأتيكَ فنستَحيِ أن ترانا العربُ معَ هذِهِ الأعبُدِ فإذا نحنُ جئناكَ فأقمْهم عنْكَ فإذا نحنُ فرغنا فاقعد معَهم إن شئتَ قالَ نعَم قالوا فاكتُب لنا عليْكَ كتابًا قالَ فدعا بصحيفةٍ ودعا عليًّا ليَكتبَ ونحنُ قعودٌ في ناحيةٍ فنزلَ جبرائيلُ عليْهِ السَّلامُ فقالَ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ثمَّ ذَكرَ الأقرعَ بنَ حابسٍ وعيينةَ بنَ حصنٍ فقالَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ثمَّ قالَ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قالَ فدنَونا منْهُ حتَّى وضعنا رُكبنا على رُكبتِهِ وَكانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يجلسُ معَنا فإذا أرادَ أن يقومَ قامَ وترَكنا فأنزلَ اللَّهُ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ولا تجالسِ الأشرافَ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا يعني عيينةَ والأقرعَ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا قالَ هلاكًا قالَ أمرُ عيينةَ والأقرعِ ثمَّ ضربَ لَهم مثلَ الرَّجلينِ ومثلَ الحياةِ الدُّنيا قالَ خبَّابٌ فَكنَّا نقعدُ معَ النَّبيِّ فإذا بلغنا السَّاعةَ الَّتي يقومُ فيها قُمنا وترَكناهُ حتَّى يقومَ
الراوي : خباب بن الأرت | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح ابن ماجه | الصفحة أو الرقم : 3346 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حريصًا على أنْ يدخُلَ النَّاسُ جميعُهم في دِينِ اللهِ، وكان يَدْعو الزُّعماءَ والمُطاعينَ في أقوامِهم ويتألَّفُهم؛ رجاءَ أنْ يدخُلوا في الإسلامِ، ويدخُلَ معهم أقوامُهم.
وفي هذ الحديثِ تَفسيرٌ وبيانٌ لأسبابِ نُزولِ بعضِ الآياتِ الَّتي تَتناولُ هذا الموضوعَ؛ وفيه يقولُ خَبَّابُ بنُ الأرَتِّ في قولِه تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]: "جاء الأقرعُ بنُ حابِسٍ التَّميميُّ، وعُيينةُ بنُ حِصْنٍ الفَزاريُّ"، أي: إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان الأقرعُ أحدَ المُؤلَّفةِ قُلوبُهم وأحدَ الأشرافِ، وكان عُيينةُ سيِّدَ بني فَزارةَ وفارِسَهم، "فوَجَدوا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع صُهيبٍ وبِلالٍ وعمَّارٍ وخبَّابٍ، قاعدًا في ناسٍ من الضُّعفاءِ من المُؤمنينَ، فلمَّا رَأَوهم حولَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَقَروهم"، أي: استحْقَروهم وعَدُّوهم ممَّن لا يُؤْبَه بهم، وامْتَنعوا عن مُجالسَتِهم، "فأَتَوه فخَلَوا به"، أي: انفَرَدوا بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحدَهم، "وقالوا: إنَّا نُريدُ أنْ تجعَلَ لنا منك مَجلِسًا"، أي: مَجلِسًا خاصًّا بنا في وقتٍ خاصٍّ، "تَعرِفُ لنا به العربُ فَضْلَنا"، أي: نُمَيَّزُ به عند القَبائلِ والوُفودِ؛ "فإنَّ وُفودَ العربِ تأتيك، فنَسْتَحي أنْ ترانا العربُ مع هذه الأعبُدِ" جَمْع عبْدٍ، والمعنى: أنَّهم فُقراءُ وضُعفاءُ، وفيهم مَن كان عبْدًا، والمُرادُ أنَّهم: يَسْتَحون من مُجالسَةِ هؤلاء؛ خَشيةً مِن إنكارِ العربِ عليهم وتقليلِ شَأْنِهم، قالوا: "فإذا نحن جِئْناك فأقِمْهم عنك"، أي: اطْرُدْهم عن مَجلِسِك وأبعِدْهم عنه، "فإذا نحن فرَغْنا فاقْعُدْ معهم إنْ شِئْتَ"، أي: جالِسْهم بعدَ أنْ نَنْتِهيَ معك ونقومَ عنك، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "نعمْ"، أي: أجابَهم النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى ما طَلَبوا؛ رجاءَ إيمانِ قَومِهم بإسلامِهم؛ لأنَّهما كانا سيِّدَينِ مُطاعَينِ في قَومِهم، فنظَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى هذه المصلحةِ الدَّعويَّةِ.
"قالوا: فاكْتُبْ لنا عليك كتابًا"، أي: عَقدًا ورسالةً توضِّحُ مثلَ تلك الشُّروطِ، قال خَبَّابٌ رضِيَ اللهُ عنه: "فدعا"، أي: النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "بصَحيفةٍ"، أي: ليكتُبَ لهم فيها ما شَرَطوا، والصَّحيفةُ: الورقةُ المكتوبةُ أيَّا كان نوعُها؛ مِن جِلدٍ، أو جَريدٍ، أو ما شابَه، "ودعا عليًّا ليكتُبَ"؛ وذلك لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان لا يكتُبُ، قال خَبَّابٌ رضِيَ اللهُ عنه: "ونحن قُعودٌ في ناحيةٍ"، أي: أنَّ الصَّحابةَ الفُقراءَ والمواليَ كانوا جالسينَ في ناحيةٍ من نواحي المكانِ الَّذي يُعْقَدُ فيه هذا العقدُ، "فنزَلَ جِبرائيلُ عليه السَّلامُ، فقال"، أي: بقولِه تعالى: "{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]، ثمَّ ذكَرَ الأقرعَ بنَ حابسٍ وعُيينةَ بنَ حِصْنٍ فقال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا} [الأنعام: 53]"، أي: ابْتَلَيْنا هؤلاء، "{بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، ثمَّ قال: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]"، يُريد ضُعفاءَ الصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عنه ممَّن تكابَرَ عليهم الأقرعُ وعُيينةُ، قال خَبَّابٌ رضِيَ اللهُ عنه: "فدَنَونا منه"، أي: اقْتَربوا من رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حُضورِ الأقرعِ وعُيينةَ، "حتَّى وضَعْنا رُكَبَنا على رُكبتِه"، وفي هذا إشارةٌ إلى شِدَّةِ اقترابِهم من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
قال خَبَّابٌ رضِيَ اللهُ عنه: "وكان رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يجلِسُ معنا، فإذا أراد أنْ يقومَ"، أي: يذهَبَ لبعضِ شَأنِه، "قام وترَكَنا"، أي: قد يتقدَّمُ عنَّا في القِيامِ، "فأنزَلَ اللهُ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]، ولا تجالِسِ الأشرافَ"، أي: في قولِه تعالى: {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28]، يعني: عُيينةَ والأقرعَ، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، قال: هلاكًا، وهذا تفسيرُ منه لقولِه: {فُرُطًا}، وقيل معناها: ضَياعًا، أو نَدَمًا، أو سَرَفًا، أو خِلافًا للحقِّ. قال: أمْرُ عُيينةَ والأقرعِ؛ قال خَبَّابٌ رضِيَ اللهُ عنه: "ثمَّ ضرَبَ لهم مثَلًا لرُجلينِ ومثل الحياةِ الدُّنيا"، أي: ضرَبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بهم مثلًا في القُرآنِ، وهو الَّذي في قولِه تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف: 32] الآياتِ.
قال خَبَّابٌ رضِيَ اللهُ عنه: "فكنَّا نقعُدُ مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإذا بلَغْنا السَّاعةَ الَّتي يقومُ فيها"، أي: فإذا وصَلْنا إلى الوقتِ المُعتادِ الَّذي يريدُ أنْ يذهَبَ فيه، "قُمْنا وتَرْكناه حتَّى يقومَ"، أي: فجعَلَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يتأخَّرُ عنهم في القِيامِ؛ استجابةً لأمرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وهو عند الصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم مِن حُسنِ الأدَبِ وعدَمِ التَّعنُّتِ مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحديثِ: النَّهيُّ عن أنْ يُعَظَّمَ أحدٌ لجاهِه وغِناه ومكانتِه، وأنْ يُحْتَقَرَ أحدٌ لضَعفِه أو فَقرِه.
وفيه: الحثُّ على مُجالسةِ الصَّالحينَ وتَقديمِهم على غيرِهم، حتى ولو كانوا أغنياءَ.