كان عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما مِمَّن أوتيَ عِلمَ التَّأويلِ؛ فقد دَعا له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُعَلِّمَه اللهُ التَّأويلَ، فرُزِقَ من ذلك عِلمًا كَثيرًا؛ ولذا سُمِّيَ بحَبرِ القُرآنِ وتُرجُمانِ القُرآنِ، وقد فسَّرَ كثيرًا من آياتِ القُرآنِ، وبَيَّنَ مَعانيَها وما أُريدَ بها وأسبابَ نُزولِها، وفي الحَديثِ يَقولُ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: آيةٌ في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لا يَسألُني النَّاسُ عنها، أي: لم يَسألْني أحَدٌ مِنَ النَّاسِ عن تَفسيرِها وعن سَبَبِ نُزولِها. ولا أدري أعَرَفوا ولا يَسألوني عنها، أي: لا أعرِفُ إن كانوا قد عَلِموا تَفسيرَها ومَعناها؛ ولِذلك لم يَسألوني، أم أنَّهم جَهِلوها فلا يَسألوني عنها؟ فسُئِلَ: ما هيَ؟ أي: عِندَ ذلك سَألَه أصحابُه عن هذه الآيةِ. فبَيَّنَ لهمُ ابنُ عبَّاسٍ هذه الآيةَ وسَبَبَ نُزولِها، فقال: لمَّا نَزَلَت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}
[الأنبياء: 98] . ومَعنى الآيةِ: إنَّكُم أيُّها المُشرِكونَ وما تَعبُدونَه مِن دونِ اللهِ مِنَ الأصنامِ ستَكونونَ وَقودًا وحَطَبًا لجَهَنَّمَ. شَقَّ ذلك على أهلِ مَكَّةَ، أي: اشتَدَّ وعَظُمَ على أهلِ مَكَّةَ هذه الآيةُ؛ حَيثُ جَعَلَت آلِهَتَهم في النَّارِ. وقالوا: شَتَمَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنا، أي: سَبَّ مُحَمَّدٌ مَعبوداتِنا مِنَ الأصنامِ والأوثانِ. فجاءَ إلى أهلِ مَكَّةَ ابنُ الزِّبَعْرى. فقال لهم: ما شَأنُكُم؟ أي: ما خَبَرُكُم، وما الذي يُهمُّكُم؟ قالوا: شَتَمَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنا! قال ابنُ الزِّبَعْرى: وما قال؟ أي: وأيُّ شَيءٍ قاله مُحَمَّدٌ حتَّى يَشُقَّ ذلك عليكُم؟ فقالوا: قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}. فقال ابنُ الزِّبَعْرى: ادعوه لي، أي: ادعوا لي مُحَمَّدًا فإنِّي أُريدُ أن أسألَه. فدَعا مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: فذَهَبوا ودَعَوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولمَّا حَضَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم عِندَهم، قال ابنُ الزِّبَعْرى: يا مُحَمَّدُ، هذا شَيءٌ لآلِهَتِنا خاصَّةً أم لكُلِّ ما عُبِدَ مِن دونِ اللهِ؟ أي: هذه الآيةُ التي فيها ذِكرُ أنَّ المَعبوداتِ مِن دونِ اللهِ تَكونُ وَقودًا للنَّارِ خاصَّةٌ بآلِهَتِنا نَحنُ فقَط أم عامَّةٌ لجَميعِ المَعبوداتِ التي عُبِدَت مِن دونِ اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: بَل لكُلِّ ما عُبِدَ مِن دونِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، أي: هيَ عامَّةٌ لكُلِّ المَعبوداتِ. فقال ابنُ الزِّبَعْرى لأهلِ مَكَّةَ: خَصَمْناه، أي: غَلَبناه بالحُجَّةِ، ورَبِّ هذه البِنْيةِ! أي: الكَعبةِ، ثُمَّ قال ابنُ الزِّبَعْرى: يا مُحَمَّدُ، ألستَ تَزعُمُ أنَّ عيسى عَبدٌ صالِحٌ، وعُزَيرًا عَبدٌ صالِحٌ، والمَلائِكةَ عِبادٌ صالِحونَ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: بَلى، أي: أجَلْ، هم عِبادٌ صالِحونَ. فقال ابنُ الزِّبَعْرى: فهذه النَّصارى تَعبُدُ عيسى، وهذه اليَهودُ تَعبُدُ عُزَيرًا، وهذه بَنو مُلَيحٍ -وهيَ إحدى القَبائِلِ في العَرَبِ- تَعبُدُ المَلائِكةَ! والمَعنى: أنَّه على قَولِك يا مُحَمَّدُ فإنَّ عيسى وعُزَيرًا والمَلائِكةَ سَيَكونونَ حَصَبًا لجَهَنَّمَ أيضًا؛ لأنَّهم عُبِدوا مِن دونِ اللهِ! فضَجَّ أهلُ مَكَّةَ، أي: صاحوا وارتَفعَت أصواتُهم فرَحًا لِما قاله ابنُ الزِّبَعْرى، ولكَونِه غَلَبَ -بزَعمِهم- النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ يَقولُ ابنُ عبَّاسٍ: فنَزَلَت، أي: بَعدَ تلك الآيةِ: {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}
[الأنبياء: 101] ، أي: مَن عُبِدَ مِن دونِ اللهِ، وكان قد سَبَقَ لهمُ الجَنَّةُ، فهؤلاء غَيرُ داخِلينَ في النَّارِ، بَل هم عنها مُبعَدونَ. ونَزَلَ أيضًا قَولُه تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}
[الزخرف: 57] . وهو الضَّجيجُ، أي: يَرتَفِعُ لهم ضَجيجٌ وجَلَبةٌ فَرَحًا وضَحِكًا بما سَمِعوا مِنِ ابنِ الزِّبَعْرى مِن إسكاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بجَدَلِه، وقد عَلِموا أنَّ المُرادَ مِن قَولِه: {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}
[الأنبياء: 98] ، هؤلاء الأصنامُ.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ إخبارِ العالِمِ عَمَّا عِندَه مِنَ العِلمِ حتَّى يُسأَلَ.
وفيه بَيانُ ما أوتيَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما مِنَ العِلمِ بكِتابِ اللهِ.
وفيه بَيانُ سَبَبِ نُزولِ الآيةِ.
وفيه ما كان عليه المُشرِكونَ مِنَ الِاعتِراضاتِ على القُرآنِ الكَريمِ وعِنادِهم .