كان التَّابعونَ يَحرِصونَ على طَلَبِ العِلمِ وسَماعِ الحَديثِ، ويَقصِدونَ اللِّقاءَ والسَّماعَ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ لكَونِهمُ الذينَ صَحِبوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسَمِعوا مِنه، ومِن ذلك أنَّ مُطَرِّفَ بنَ عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ، وهو أحَدُ كِبارِ التَّابعينَ، بَلَغَه عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه حَديثًا، فأحَبَّ أن يَلقاه حَتَّى يَسمَعَ مِنه ذلك الحَديثَ، فذَهَبَ إليه حَتَّى لَقيَه وقال له: يا أبا ذَرٍّ، بَلَغَني عنك حَديثٌ، أي: حَديثٌ تُحَدِّثُ به عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكُنتُ أُحِبُّ أن ألقاك فأسألَك عنه، أي: كُنتُ حَريصًا على لُقياك لسَماعِ هذا الحَديثِ. فقال أبو ذَرٍّ: قد لَقِيتَ فاسأَلْ، أي: إنَّك الآنَ قد لَقيتَني فاسأَلْني عن ذلك الحَديثِ الذي تُريدُه. فقال مُطَرِّفٌ: بَلَغَني أنَّك تَقولُ: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ثَلاثةٌ يُحِبُّهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وثَلاثةٌ يُبغِضُهمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، أي: هناكَ ثَلاثةُ أصنافٍ مِنَ النَّاسِ يَحصُلونَ بصِفاتِهم على مَحَبَّةِ اللهِ، وثَلاثةُ أصنافٍ آخَرونَ يَحصُلونَ بصِفاتِهم على بُغضِ اللَّهِ. فقال أبو ذَرٍّ: نَعَم، أي: نَعَم، سَمِعتُ ذلك مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فما إخالُني، أي: ما أظُنُّني أنِّي أكذِبُ على خَليلي مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. والخُلَّةُ أعلى دَرَجاتِ المَحَبَّةِ، ثَلاثًا يَقولُها، أي: أنَّ أبا ذَرٍّ كَرَّرَ: ما إخالُني أكذِبُ على خَليلي، ثَلاثَ مَرَّاتٍ؛ وذلك لشِدَّةِ تَأكُّدِه مِمَّا سَمِعَه مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومِن حِرصِه على ألَّا يَكذِبَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال مُطَرِّفٌ: مَنِ الثَّلاثةُ الذينَ يُحِبُّهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، أي: فأخبِرْني عن هؤلاء الثَّلاثةِ الذينَ ذَكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ اللَّهَ يُحِبُّهم. فقال أبو ذَرٍّ: رَجُلٌ غَزا في سَبيلِ اللهِ، أي: خَرَجَ في الغَزوِ والجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، فلَقيَ العَدوَّ مُجاهدًا مُحتَسِبًا، أي: طالبًا الأجرَ والثَّوابَ مِنَ اللهِ، فقاتَل حَتَّى قُتِل، أي: حَتَّى استُشهِدَ وماتَ في الغَزوِ. ثُمَّ بَيَّن صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِصداقَ ذلك في كِتابِ اللهِ -ويُحتَمَلُ أنَّ ذلك مِن كَلامِ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، واللهُ أعلَمُ- فقال: وأنتُم تَجِدونَ في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا}
[الصف: 4] ، أي: أخبَرَ سُبحانَه أنَّه يُحِبُّ الذينَ يَخرُجونَ في القِتالِ في سَبيلِه صافِّينَ. ورَجُلٌ، أي: الرَّجُلُ الثَّاني مِنَ الذينَ يُحِبُّهمُ اللهُ، رَجُلٌ له جارٌ يُؤذيه، أي: يُؤذيه إمَّا بقَولٍ أو فِعلٍ أو إساءةِ خُلُقٍ، ونَحوِ ذلك، فيَصبرُ على أذاه، أي: يَصبرُ على أذى جارِه، ويَحتَسِبُه، أي: يَطلُبُ ثَوابَ صَبره عِندَ اللهِ، حَتَّى يَكفيَه اللهُ إيَّاه، أي: يُريحَه اللهُ مِن هذا الجارِ بمَوتٍ، أي: بأن يُفرِّقَ المَوتُ بَينَهما، أو حَياةٍ، أي: بأن يَنتَقِلَ أحَدُهما إلى مَكانٍ آخَرَ. والرَّجُلُ الثَّالثُ مِنَ الذينَ يُحِبُّهمُ اللهُ: رَجُلٌ يَكونُ مَعَ قَومٍ فيَسيرونَ، أي: يَمشونَ في سَفرٍ، كما جاءَ في بَعضِ الرِّواياتِ الأُخرى، حَتَّى يَشُقَّ عليهمُ الكَرى، أي: النَّومُ، أوِ النُّعاسُ. وهو أوَّلُ النَّومِ، وهذا شَكٌّ مِنَ الرَّاوي هَل قال الكَرى أوِ النُّعاسُ. والمَقصودُ: أنَّهم يَمشونَ حَتَّى يُصيبَهمُ التَّعَبُ والنُّعاسُ ويَحتاجونَ للرَّاحةِ، فيَنزِلونَ في آخِرِ اللَّيلِ، أي: حَتَّى يَرتاحوا ويَناموا، فيَقومُ هذا الرَّجُلُ إلى وَضوئِه وصَلاتِه، أي: أنَّه يَذهَبُ ويَتَوضَّأُ ثُمَّ يَقومُ ويُصَلِّي مَعَ ما به مِنَ التَّعَبِ، ويَظَلُّ يُصَلِّي وأصحابُه نيامٌ، فتَرَكَ الرَّاحةَ حُبًّا في الصَّلاةِ. ثُمَّ قال مُطَرِّفٌ: مَنِ الثَّلاثةُ الذينَ يُبغِضُهمُ اللَّهُ؟ أي: فمَن الثَّلاثةُ الذينَ يُبغِضُهمُ اللَّهُ؟ فقال أبو ذَرٍّ: الفَخورُ المُختالُ. والمُختالُ هو: المُتَكَبِّرُ، والفَخورُ المُختالُ: الذي يَفتَخِرُ على النَّاسِ بغَيرِ الحَقِّ تَكبُّرًا، ثُمَّ بَيَّن صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِصداقَ ذلك في كِتابِ اللهِ تعالى فقال: وأنتُم تَجِدونَ في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
[لقمان: 18] ، أي: لا يُحِبُّ مَن كان مُتَّصِفًا بهذه الصِّفاتِ. والبَخيلُ المَنَّانُ، أي: الرَّجُلُ الثَّاني الذي يُبغِضُه اللَّهُ، الذي يَبخَلُ بمالِه فلا يُنفِقُ ما يَجِبُ عليه فضلًا عنِ التَّطَوُّعِ به بالصَّدَقةِ ونَحوِها، وإذا أنفقَ فإنَّه يَمُنُّ على مَن أنفقَ عليه. والرَّجُلُ الثَّالثُ: هو التَّاجِرُ والبَيَّاعُ الحَلَّافُ، أي: التَّاجِرُ والبائِعُ الذي يُكثِرُ الحَلِفَ واليَمينَ في بَيعِه وشِرائِه حَتَّى يُنَفِّقَ بِضاعَتَه، فيَتَهاونُ بالأيمانِ حَتَّى يُغَرِّرَ المُشتَري. ثُمَّ سَألَ مُطَرِّفٌ أبا ذَرٍّ عن مالِه، فقال: يا أبا ذَرٍّ، ما المالُ؟ أي: ما لك مِنَ المالِ؟ فقال أبو ذَرٍّ: فِرْقٌ، أي: قِطعةٌ، لَنا، وذَودٌ. يَعني بالفِرْقِ غَنَمًا يَسيرةً، أي: مَعَه قَطيعٌ مِنَ الغَنَمِ، والذَّودُ وهيَ الإبلُ ما بَينَ اثنَتَينِ إلى التِّسعِ، وقيلَ: ما بَين الثَّلاثِ إلى العَشرِ. فقال مُطَرِّفٌ: لَستُ عن هذا أسألُ، إنَّما أسألُك عن صامِتِ المالِ، أي: أنَّ سُؤالي هو عن مالِكَ الصَّامِتِ؛ فالمالُ يَنقَسِمُ إلى ناطِقٍ، وهو ما كان مِنَ الحَيَوانِ كالإبِلِ والغَنَمِ ونَحوِ ذلك، وصامِتٍ، أي: لا يَتَكَلَّمُ، وهو الذَّهَبُ والفِضَّةُ. فقال أبو ذَرٍّ: ما أصبَحَ لا أمسى، أي: لا أُخَلِّيه إلى المَساءِ، وما أمسى لا أصبَحَ، أي: لا أُخَلِّيه إلى الصَّباحِ، ويَقصِدُ بذلك رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه لا يُبقي مَعَه مِنَ المالِ الصَّامِتِ شَيئًا، بَل يُنفِقُه كُلَّه ويَتَصَدَّقُ به في سُبُلِ البِرِّ، فإذا كان مَعَه مِنه شَيءٌ في الصَّباحِ فلا يُمسي حَتَّى يُنفِقَه، وإذا كان مَعَه مِنه شَيءٌ في المَساءِ فلا يَأتي الصَّباحُ إلَّا وقد أنفَقَه، وقد كان رَأيُ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه لا يَجوزُ ادِّخارُ وكَنزُ الأموالِ، ويَستَدِلُّ على ذلك بقَولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
[التوبة: 34] . ثُمَّ قال مُطَرِفٌ: يا أبا ذَرٍّ، ما لك ولإخوتِك قُرَيشٍ؟ أي: ما الذي جَرى بَينَك وبَينَ إخوتِك في الدِّينِ مِن قُرَيشٍ حَتَّى فارَقتَهم وصِرتَ في مَعزِلٍ عنهم، وكان أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه تَرَكَ المَدينةَ وسَكَنَ بالرَّبَذةِ: مَوضِعٌ قَريبٌ مِنَ المَدينةِ خالٍ مِنَ النَّاسِ. فقال أبو ذَرٍّ: واللهِ لا أسألُهم دُنيا، أي: لأنِّي لا مَطمَعَ لي في مَتاعِها وزُخرُفِها، ولا أستَفتيهم عن دينِ اللهِ تَبارَكَ وتعالى، أي: لا أسألُهم عن أمرٍ مِن أُمورِ الدِّينِ؛ فقد أغناني اللهُ عنهم بما ورِثتُه مِن عِلمِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حَتَّى ألقى اللهَ ورَسولَه، أي: حَتَّى أموتَ، ثَلاثًا يَقولُها، أي: كَرَّرَ رَضِيَ اللهُ عنه هذا القَولَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ للتَّأكيدِ.
وفي الحَديثِ حِرصُ التَّابعينَ على العِلمِ ولقاءِ العُلَماءِ.
وفيه إخبارُ العالمِ بسَبَبِ القُدومِ عليه.
وفيه بَذلُ العالمِ العِلمَ لمَن طَلَبه.
وفيه بَيانُ ما كان عليه الصَّحابةُ مِنَ الحِرصِ على عَدَمِ الكَذِبِ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه إثباتُ صِفةِ المَحَبَّةِ للَّهِ تعالى.
وفيه إثباتُ صِفةِ البُغضِ للَّهِ تعالى.
وفيه فضلُ الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ تعالى.
وفيه فضيلةُ الإحسانِ إلى الجارِ.
وفيه فضلُ الصَّبرِ على أذى الجارِ.
وفيه فضلُ قيامِ اللَّيلِ.
وفيه التَّحذيرُ مِنَ الفخرِ والاختيالِ.
وفيه التَّحذيرُ مِنَ البُخلِ والمَنِّ.
وفيه التَّحذيرُ مِن كَثرةِ الحَلِفِ في البَيعِ والتِّجارةِ.
وفيه بَيانُ ما كان عليه أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه مِن عَدَمِ إمساكِ المالِ.
وفيه بَيانُ ما كان بَينَ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه وإخوتِه مِن قُرَيشٍ.
وفيه مَشروعيَّةُ تَكرارِ الكَلامِ ثَلاثًا للتَّأكيدِ .