الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ مِن أفضَلِ الأعمالِ عِندَ اللهِ تعالى؛ يَبذُلُ الإنسانُ نَفسَه ومالَه في سَبيلِ اللهِ، وقد جاءَتِ النُّصوصُ الكَثيرةُ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ بالتَّرغيبِ في الجِهادِ والحَثِّ عليه وبَيانِ ما للمُجاهدِ في سَبيلِ اللهِ مِنَ الأجرِ العَظيمِ، ولَكِن مَعَ ذلك ليَحرِصِ المُجاهدُ في سَبيلِ اللهِ تعالى على أداءِ الأماناتِ إلى أهلِها وألَّا يَخرُجَ للجِهادِ إلَّا وقد أدَّى جَميعَ تلك الأماناتِ؛ يَقولُ عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: القَتلُ في سَبيلِ اللهِ، أي: الشَّهادةُ في سَبيلِ اللهِ، يُكَفِّرُ الذُّنوبَ كُلَّها، أي: يُزيلُ الخَطايا، إلَّا الأمانةَ. وذلك أنَّه يُؤتى بالعَبدِ يَومَ القيامةِ وإن قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ، فيُقالُ له: أدِّ أمانَتَك، أي: أنَّ الإنسانَ عِندَما يَأتي يَومَ القيامةِ يَقولُ اللهُ: عليك أمانةٌ، وعليك وديعةٌ لفُلانٍ، وعليك دَينٌ لفُلانٍ، وعليك كَذا. فأدِّ هذه الأماناتِ. فيَقولُ: أي رَبِّ، كَيف وقد ذَهَبَتِ الدُّنيا؟! أي: كَيف بأداءِ الأمانةِ والدُّنيا قدِ انتَهَت وانتَهى كُلُّ شَيءٍ. فيُقالُ: انطَلِقوا به إلى الهاويةِ، أي: النَّارِ، والهاويةُ: اسمٌ مِن أسماءِ النَّارِ، وهيَ قَعرُ نارِ جَهَنَّمَ، وسُمِّيَت بذلك لأنَّها تَهوي بصاحِبِها، فيُنطَلَقُ به إلى الهاويةِ، وتُمَثَّلُ له أمانَتُه التي أخَذَها مِنَ النَّاسِ كهَيئَتِها يَومَ دُفِعَت إليه، أي: مِثلَما أخَذَها كَأنَّها هيَ، فيَراها فيَعرِفُها، فيَهوي في أثَرِها، أي: يَنزِلُ بَعدَها حَتَّى يُدرِكَها فيَحمِلَها على مَنكِبَيه، حَتَّى إذا نَظَرَ ظَنَّ أنَّه خارِجٌ مِن هذه الهاويةِ والأمانةُ مَعَه يَحمِلُها، فبَينَما هو كذلك على ظَنِّه أنَّه سيَخرُجُ مِنَ الهاويةِ، سَقَطَتِ الأمانةُ عن مَنكِبَيه، فهو يَهوي في أثَرِها أي: يَنزِلُ بَعدَها، أبَدَ الآبِدينَ، أي: فيَكونُ مَصيرُه في النَّارِ! والأمانةُ أنواعٌ مُتَعَدِّدةٌ: فالصَّلاةُ أمانةٌ. بأن يَحرِصَ المَرءُ على أداءِ جَميعِ الفُروضِ في أوقاتِها بأركانِها وشُروطِها غَيرَ مُخِلٍّ بها. والوُضوءُ أمانةٌ. بأن يَتَوضَّأَ وُضوءًا صَحيحًا فيَأتيَ بشُروطِه وأركانِه وسُنَنِه. والوزنُ أمانةٌ، والكَيلُ أمانةٌ، أي: ما يَتَعَلَّقُ بالبَيعِ والشِّراءِ، فيَكونُ أمينًا في بَيعِه فلا يَغُشُّ في الوزنِ أوِ الكَيلِ، بَل يوفِّيه كامِلًا، ثُمَّ ذَكَرَ ابنُ مَسعودٍ أنواعًا مِنَ الأماناتِ الأُخرى. وأشَدُّ أنواعِ الأماناتِ، أي: أصعَبُ ذلك في العِقابِ والعَذابِ الودائِعُ، أي: ما يودِعُه الإنسانُ عِندَ شَخصٍ آخَرَ يَستَأمِنُه عليها لحِفظِها. يَقولُ زاذانُ، وهو أحَدُ التَّابِعينَ الرَّاوي عن ابنِ مَسعودٍ هذا الحَديثَ: فأتَيتُ البَراءَ بنَ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه فقُلتُ له: ألَا تَرى إلى ما قال ابنُ مَسعودٍ؟ قال كَذا، قال كَذا، أي: أخبَرَه بما قاله ابنُ مَسعودٍ مِن أمرِ الأمانةِ وما جاءَ مِنَ الوعيدِ فيها. فقال البَراءُ رَضِيَ اللهُ عنه: صَدَقَ ابنُ مَسعودٍ، أمَا سَمِعتَ اللَّهَ يَقولُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُم أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}
[النساء: 58] .
وفي الحَديثِ فضيلةُ القَتلِ في سَبيلِ اللهِ.
وفيه الوعيدُ الشَّديدُ في أمرِ الأمانةِ.
وفيه بَيانُ بَعضِ أنواعِ الأماناتِ وأنَّها لا تَقتَصِرُ على حُقوقِ الآدَميِّينَ فقَط، بَل تشمَلُ حَقَّ اللهِ أيضًا.
وفيه عِظَمُ قَدْرِ الصَّلاةِ والوُضوءِ.
وفيه الحَثُّ على الأمانةِ في البَيعِ والشِّراءِ.
وفيه أنَّ الوديعةَ مِن أشَدِّ أنواعِ الأماناتِ.
وفيه مَشروعيَّةُ الرُّجوعِ لأكثَرَ مِن عالِمٍ في المَسألةِ الواحِدةِ.
وفيه تَصديقُ الصَّحابةِ بَعضِهم لبَعضٍ في مَسائِلِ العِلمِ.
وفيه استِدلالُ الصَّحابةِ بالقُرآنِ.
وفيه مَشروعيَّةُ إعطاءِ السَّائِلِ الدَّليلَ مِنَ القُرآنِ .