الموسوعة الحديثية


- قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ تعالى إذا أحَبَّ قومًا ابتلاهُم، فمَن رَضِيَ فله الرِّضا، ومَن سَخِطَ فله السَّخَطُ ".
الراوي : أنس بن مالك | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج رياض الصالحين | الصفحة أو الرقم : 43 | خلاصة حكم المحدث : حسن [بشواهده] | التخريج : أخرجه الترمذي (2396) باختلاف يسير، وابن ماجه (4031) مختصراً
مِن حِكْمةِ اللهِ تَعالى أنَّه يَبْتلِي عِبادَه ويخْتبِرُهم؛ ليَعلمَ المؤمِنَ المُطيعَ الرَّاضِيَ مِن العاصِي السَّاخِطِ، والبلاءُ يَكونُ بالسَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ. وفي هذا الحديثِ يَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ: "إذا أَرادَ اللهُ بِعبْدِه خيرًا"، أي: إذا قضَى وقدَّرَ رَحمتَه لِعبْدٍ مِن عبادِه، "عَجَّلَ له العُقوبَةَ في الدُّنْيا"، فابتَلاه بما يَسُوؤُه؛ إمَّا في مالِه، أو نفْسِه، أو أهلِه؛ وذلك لأنَّ الابتلاءَ يُكفِّرُ السَّيِّئاتِ، والمؤمِنُ لا يَقْوَى على عذابِ الآخرةِ؛ فذلك مِن عظيمِ رحمةِ اللهِ بعبْدِه المؤمنِ؛ فإنَّه يُوافي اللهَ يومَ القِيامةِ وليس عليه ذَنْبٌ، قد طهَّرَتْه المَصائبُ والبلايَا. "وإذا أَرادَ اللهُ بعَبْدِه الشَّرَّ"، وهو العَذابُ والمُجازاةُ في الآخِرةِ، فالأُمورُ كلُّها بِيَدِ اللهِ عزَّ وجلَّ وبإرادَتِه؛ فإنَّه سُبْحانَه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، "أَمْسَكَ عنْه بذَنْبِه"، فلم يُعجِّلْ عُقوبتَه على ما ارْتكَبَه مِن الذَّنبِ، وجمَعَ له ذُنوبَه وسيِّئاتِه دُونَ أنْ يُجازِيَه بِشَيءٍ منها في الدُّنْيا، "حتى يُوافِيَ به يَومَ القِيامةِ"، أي: حتى يَلْقاه بها يومَ القِيامةِ، فتَكُونَ عُقوبتُه مِن نارِ جَهنَّمَ على قَدْرِ ما كانتْ عليه مِن سيِّئاتٍ. وبيانُ إرادةِ اللهِ تَعالَى الخَيرَ والشَّرَّ بعِبادِه: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خلَقَ الخَيرَ والشَّرَّ، وبيَّن الأمرَ لعِبادِه وعَرَّفهم الخَيرَ والشَّرَّ، فإذا اخْتارَ العبدُ طَريقَ الشَّرِّ بعْدَ أنْ عرَفَه، فقدِ اخْتارَ لنَفْسِه أمْرًا ممَّا أَرادَه اللهُ وخَلَقَه، ويُعاقِبُ عليه، وإرادَتُه للشَّرِّ إرادةٌ قَدَريَّةٌ؛ لحِكْمةٍ يَعْلَمُها، وعُقوبةُ مَن يَستَحِقُّ العُقوبةَ خَيرٌ محضٌ؛ إذ هو عَيْنُ العدْلِ والحِكْمةِ، وذلك يكونُ شرًّا بالنِّسبةِ للخَلْقِ، فالشَّرُّ وقَعَ في تَعلُّقِه بهم وقِيامِه بهم، لا في فِعلِه القائِمِ به سُبحانَه وتَعالى. وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ: "إنَّ عِظَمَ الجَزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ"، والمعْنى: أنَّه كُلَّما كَثُرَ البلاءُ واشْتدَّ زادَتِ الحَسَناتُ في مُقابِلِ ذلك، فالبلاءُ السَّهلُ له أجْرٌ يَسيرٌ، والبلاءُ الشَّديدُ له أجْرٌ كَبيرٌ؛ لأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ ذو فضْلٍ على النَّاسِ، إذا ابْتلاهُم بالشَّدائِدِ أعْطاهُم عليها الأجْرَ الكَبيرَ، وإذا هانَتِ المَصائبُ هانَ الأجْرُ. ثُمَّ بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ أسْبابَ البلاءِ، وأنَّها دَليلُ خَيرٍ -إنْ قُوبِلَتْ بالرِّضا- فقال: "وإنَّ اللهَ تَعالى إذا أَحبَّ قَوْمًا ابْتلاهُم"، أي: اخْتَبرَهم بالمِحَنِ والمَصائبِ، "فمَن رَضِيَ فَلَه الرِّضا"، أي: مَن قابَلَ هذه البلايا بالرِّضا، فَسيَرْضى اللهُ سُبْحانَه وتَعالى عنه، ويَجْزيه الخَيرَ والأجْرَ في الآخِرةِ، وقد يُفهَمُ منه أنَّ رِضا اللهِ تَعالى مَسْبوقٌ برِضا العبْدِ، ومُحالٌ أنْ يَرضى العبْدُ عن اللهِ إلَّا بعْدَ رِضا اللهِ عنه، كما قالَ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]، ومُحالٌ أنْ يَحصُلَ رِضا اللهِ ولا يَحصُلَ رِضا العبْدِ في الآخِرةِ، كما قالَ تَعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28]؛ فالرِّضا عنِ اللهِ أزَلًا وأبدًا، سابِقًا ولاحِقًا.
والمُرادُ بقولِه: "ومَن سَخِطَ فلَه السَّخَطُ": أنَّ مَن قابَلَ هذه البلايا بعَدَمِ الرِّضا؛ مِن كُرْهٍ لوُقوعِها وسَخَطٍ، فإنَّه يُقابَلُ بمِثلِ ذلك، وهو أنْ يَغضَبَ اللهُ عليْه، فلا يَرضَى عنه، وله العِقابُ في الآخِرةِ؛ وذلك أنَّ المَصائبَ والعِللَ والأمْراضَ كفَّاراتٌ لأهلِ الإيمانِ، وعُقوباتٌ يُمحِّصُ اللهُ بها مَن شاءْ منهم في الدُّنْيا؛ لِيَلْقَوْه مُطَهَّرينَ مِن دَنَسِ الذُّنوبِ في الآخِرةِ، وهي لأهلِ العِصْيانِ كُروبٌ وشَدائِدُ وعَذابٌ في الدُّنْيا، ومعَ عدَمِ رِضاهُم وتَسْليمِهم لقَضاءِ اللهِ فلا يكونُ لهم أجرٌ في الآخِرةِ.
وفي الحديثِ: الحثُّ على الصَّبْرِ والرِّضا إذا وقَعَ البلاءُ والتَّسْليمِ لقَضاءِ اللهِ.
وفيه: أنَّ الجَزاءَ مِن جِنْسِ العَمَلِ؛ فالرَّاضي له الرِّضا، والسَّاخِطُ له السَّخَطُ.
وفيه: بَيانُ اصْطِفاءِ اللهِ ومَحبَّتِه لأهْلِ الإيمانِ، وعَلامةُ ذلك الابْتِلاءاتُ.
وفيه: بَيانُ أنَّ لكلِّ قَضاءٍ مِن اللهِ حِكْمةً، وأنَّه سُبْحانَه هو المُطَّلِعُ على أَثَرِ القَضاءِ في قُلوبِ العِبادِ.