الموسوعة الحديثية


- انطلَق النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا معه حتَّى دخَلْنا كنسيةَ اليهودِ بالمدينةِ يومَ عيدِههم وكرِهوا دخولَنا عليهم فقال لهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( يا معشرَ اليهودِ أَروني اثنَيْ عشَرَ رجُلًا يشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ يُحبِطِ اللهُ عن كلِّ يهوديٍّ تحتَ أديمِ السَّماءِ الغضَبَ الَّذي غضِب عليه ) قال : فأمسَكوا وما أجابه منهم أحَدٌ ثمَّ ردَّ عليهم فلَمْ يُجِبْه أحَدٌ ثمَّ ثلَّث فلَمْ يُجِبْه أحَدٌ فقال : ( أبَيْتُم فواللهِ إنِّي لَأنا الحاشِرُ وأنا العاقِبُ وأنا المُقفِّي آمَنْتُم أو كذَّبْتُم ) ثمَّ انصرَف وأنا معه حتَّى دنا أنْ يخرُجَ فإذا رجُلٌ مِن خَلْفِنا يقولُ : كما أنتَ يا مُحمَّدُ قال : فقال ذلك الرَّجُلُ أيَّ رجُلٍ تعلَموني فيكم يا معشَرَ اليهودِ ؟ قالوا : ما نعلَمُ أنَّه كان فينا رجُلٌ أعلَمُ بكتابِ اللهِ ولا أفقَهُ منكَ ولا مِن أبيكَ مِن قبْلِكَ ولا مِن جدِّكَ قبْلَ أبيكَ قال : فإنِّي أشهَدُ له باللهِ أنَّه نَبيُّ اللهِ الَّذي تجِدونَه في التَّوراةِ قالوا : كذَبْتَ ثمَّ ردُّوا عليه وقالوا له شرًّا فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( كذَبْتُم لنْ يُقبَلَ قولُكم أمَّا آنفًا فتُنثونَ عليه مِن الخيرِ ما أثنَيْتُم وأمَّا إذ آمَن كذَّبْتُموه وقُلْتُم ما قُلْتُم فلنْ يُقبَلَ قولُكم ) قال : فخرَجْنا ونحنُ ثلاثةٌ : رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا وعبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ فأنزَل اللهُ فيه : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} [الأحقاف: 10] الآيةَ
الراوي : عوف بن مالك الأشجعي | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج صحيح ابن حبان | الصفحة أو الرقم : 7162 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح
في هذا الحَديثِ بَيانٌ لِبَعضِ صِفاتِ اليَهودِ وما جُبِلوا عليه مِنَ الكَذِبِ، وبَيانُ دَعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهم؛ حيث قال عَوفُ بنُ مالِكٍ الأشجَعيُّ رَضيَ اللهُ عنه: "انطَلَقَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأنا معه حتى دَخَلْنا كَنسيةَ اليَهودِ" وهو مَعبَدُهمُ الذي يَتعَبَّدونَ فيه، "بالمَدينةِ يَومَ عيدِهم، وكَرِهوا دُخولَنا عليهم" لَمَّا عَلِموا أنَّ دُخولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان لِيَدعوَهم إلى الحَقِّ ويُبيِّنَ كَذِبَهم، "فقال لهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا مَعشرَ اليَهودِ، أَروني اثنَيْ عَشَرَ رَجُلًا" منكم "يَشهَدُ" كُلُّ واحِدٍ منهم "أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنِّي رَسولُ اللهِ" فيُقِرُّ بالتَّوحيدِ للهِ والرِّسالةِ والنُّبوَّةِ لِمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويُقِرُّ بالحَقِّ الذي في التَّوراةِ "يُحبِطِ اللهُ عن كُلِّ يَهوديٍّ تَحتَ أديمِ السَّماءِ" فيَكونُ سَبَبًا عِندَ اللهِ أنْ يَرفَعَ عنهمُ "الغَضَبَ الذي غَضِبَ عليه" وهو الغَضَبُ الذي وَقَعَ عليهم مِنَ اللهِ بسَبَبِ كُفرِهم وعِصيانِهم وظُلمِهم وقَتلِهمُ الأنبياءَ بغَيرِ حَقٍّ، قال عَوفٌ رَضيَ اللهُ عنه: "فأمسَكوا" عنِ الكَلامِ "وما أجابَه منهم أحَدٌ، ثم رَدَّ عليهم، فلم يُجِبْه أحَدٌ، ثم ثَلَّثَ، فلم يُجِبْه أحَدٌ" جَعَلَ يُردِّدُ عليهم دَعواه حتى يَبلُغَ بهمُ الحُجَّةَ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أبَيتُم"، أي: رَفَضتُم إجابةَ دَعوَتي؛ "فوَاللهِ إنِّي لَأنَا الحاشِرُ" الذي يُحشَرُ الناسُ على عَقِبِه، وعلى أثَرِه وبَعدَه؛ لِأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحشَرُ قَبلَ الناسِ، "وأنا العاقِبُ"؛ لِأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جاء عَقِبَ الأنبياءِ، فكانَ خاتِمَهم، ولا نَبيَّ بَعدَه "وأنا المُقفِّي" المُتَّبِعُ، مِن (قَفا أثَرَه) إذا اتَّبَعَه؛ يَعني أنَّه آخِرُ الأنبياءِ الآتي أثَرُهم، لا نَبيَّ بَعدَه، وقيلَ: معناه: المُتَّبِعُ لِآثارِهِمُ؛ امتِثالًا لِقَولِه تَعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وسَواءٌ "آمَنتُم أو كَذَّبتُم" فهذه صِفاتي وأسمائي؛ مُنكِرًا عليهم كُفرَهم به، وهم أعلَمُ الناسِ به مِنَ التَّوراةِ، "ثم انصَرَفَ وأنا معه، حتى دَنا أنْ يَخرُجَ" كادَ يَخرُجُ مِن كَنيسَتِهم ومَعبَدِهم "فإذا رَجُلٌ مِن خَلفِنا يَقولُ: كما أنتَ يا مُحمدُ" قِفْ مَكانَكَ، ولا تَخرُجْ، وهو عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ، وكان مِن أحبارِ اليَهودِ، "فقال ذلك الرَّجُلُ: أيَّ رَجُلٍ تَعلَموني فيكم يا مَعشَرَ اليَهودِ؟" وهذا سُؤالُ استِثباتٍ؛ لِيُقِرُّوا بمَكانَتِه قَبلَ أنْ يَفجَعَهم بقَولِه، "قالوا: ما نَعلَمُ أنَّه كان فينا رَجُلٌ أعلَمُ بكِتابِ اللهِ" التَّوراةِ "ولا أفقَهُ منكَ، ولا مِن أبيكَ مِن قَبلِكَ، ولا مِن جَدِّكَ قَبلَ أبيكَ" فهو عالِمٌ مِن سُلالةِ عُلَماءَ "قال: فإنِّي أشهَدُ له باللهِ أنَّه نَبيُّ اللهِ الذي تَجِدونَه في التَّوراةِ. قالوا: كَذَبتَ" فكَذَّبوا شَهادةَ عَبدِ اللهِ بنِ سَلامٍ "ثم رَدُّوا عليه وقالوا له شَرًّا" وذلك أنَّهم أنكَروا ما قالوا آنِفًا مِن أنَّه عالِمٌ وابنُ عالِمٍ "فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كَذَبتُم، لن يُقبَلَ قَولُكم، أمَّا آنِفًا فتُثنونَ عليه مِنَ الخَيرِ ما أثنَيتُم" وهو ما ذَكَرتُموه مِنَ المَدحِ والحَمدِ مِن كَونِه عالِمًا وابنَ عالِمٍ، "وأمَّا إذَا آمَنَ" بنُبوَّةِ مُحمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وشَهِدَ أنَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المُبَشَّرُ به في التَّوراةِ "كَذَّبتُموه وقُلتُم ما قُلتُم، فلَن يُقبَلَ قَولُكم. قال: فخَرَجْنا ونحن ثَلاثةٌ: رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأنا وعَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ" فانصَرَفَ معه عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ رَضيَ اللهُ عنه؛ "فأنزَلَ اللهُ فيه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]، أي: قُلْ يا مُحمدُ لِهؤلاء الكُفَّارِ: أخبِروني إنْ كانَ القُرآنُ مِن عِندِ اللهِ. أو إنْ كان مُحمدٌ مِن عِندِ اللهِ، وكَفَرتُم به، وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بَني إسرائيلَ على مِثلِه، ألستُم ظالِمينَ؟ والشاهدُ هو عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ؛ شَهِدَ على نُبوَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فآمَنَ به. وقيلَ: هو موسى بنُ عِمرانَ، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ شَهِدَ على مِثلِ القُرآنِ مِنَ المَعاني المَوجودةِ في التَّوراةِ المُطابِقةِ له مِن إثباتِ التَّوحيدِ والبَعثِ والنُّشورِ وغَيرِ ذلك، فآمَنَ الشاهِدُ بالقُرآنِ لَمَّا تَبيَّنَ له أنَّه مِن كَلامِ اللهِ، ومِن جِنسِ ما يُنَزِّلُه على رُسُلِه؛ وذلك أنَّ البِشارةَ بالنَّبيِّ مُحمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانتْ مَوجودةً في التَّوراةِ، ويَعرِفُه اليَهودُ، وكانوا مِن قَبلُ يَستَفتِحونَ على الكُفَّارِ به، ولكِنْ لَمَّا بَعَثَه اللهُ مِنَ العَرَبِ أنكَروا وُجودَه في التَّوراةِ، وهذا كان دَأْبَ اليَهودِ وعادَتَهم، أنَّهم يُنكِرونَ ما لم يَكُنْ على هَواهُم، وما لا يُعجِبُهم، وكانوا يُحَرِّفونَ الكَلامَ عن مَواضِعِه. وفي الحَديثِ: مَنقَبةٌ ظاهرةٌ لِعَبدِ اللهِ بنِ سَلامٍ رَضيَ اللهُ عنه.