الموسوعة الحديثية


- لَمَّا نزلتْ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} [النساء: 97] قال: كان قومٌ بمكَّةَ قد أسلَموا، وكانوا مُستَخْفينَ بالإسلامِ، فلما خَرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى بدرٍ وخَرَجَ المُشرِكون، أخرَجوهم معهم مُكرَهينَ، فأُصيبَ بعضُهُم يومَ بدرٍ مع المُشرِكينَ، فقال المُسلِمونُ: أصحابُنا هؤلاءِ كانوا مُسلِمينَ، أخرَجوهم مُكرَهينَ، فاسْتغفِروا لهم، فنَزَلَتْ، كَتَبوها إلى مَنْ بَقِيَ منهم بمكَّةَ، فخَرَجوا حتى إذا كانوا ببعضِ الطَّريقِ ظَهَرَ عليهم المُشرِكون وعلى خُروجِهم، فلَحِقوهم، فرَدُّوهم، فرَجَعوا معهم فنزلتْ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]، فكَتَبَ المُسلِمونَ إليهم بذلك، فنزلتْ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110]، فكَتَبوا إليهم بذلك.
الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج العواصم والقواصم | الصفحة أو الرقم : 1/ 341 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح | التخريج : أخرجه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (7/12)
كان عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنْهما تَرْجُمانًا للقُرْآنِ، وحَبْرًا في تفْسيرِه، يُصاحِبُ ذلك عِلْمُه بأسبابِ نُزولِه. وفي هذا الأثَرِ يقولُ عبدُ اللهِ بْنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنْهما: "لَمَّا نَزلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] كان قوْمٌ بمكَّةَ قد أَسْلَموا، وكانوا مُسْتخْفينَ بالإسْلامِ" يُخْفونَه ولا يُظْهِرونَه في مكَّةَ؛ خوْفًا على أنْفسِهم وأهْلِيهم وأمْوالِهم مِن المُشْركينَ، وكان ظُلْمُهم لأنْفسِهم أنهم ظَلُّوا في مكَّةَ ولم يُهاجِروا إلى المَدينةِ مع قُدْرتِهم على ذلك بعْدَ أنْ أَمرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ جَميعَ المُسْلِمينَ بالهِجْرةِ، فحَمَّلوا أنفُسَهم في مكَّةَ ما لا يُطيقُونَ مِن الشِّدَّةِ مع إخْفاءِ إسْلامِهم؛ فلا هُم بيْنَ المُسْلمينَ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ يُعَلِّمُهم ويُوَجِّهُهم، ولا هم يَسْتطيعونَ إظْهارَ إسْلامِهم بيْن الكُفَّارِ، بل كان حالُهم أن يُمالِئُوا الكُفَّارَ على المُسْلِمينَ، ويَخْرُجوا معهم لا لِيُقاتِلوا المُسْلمينَ، إلَّا أنَّهم بذلك يُكَثِّرون سَوادَ المُشْرِكينَ، ويُظْهِرونَ عِظَمَ جَيْشِهم، وكَثْرةَ عَددِهم في أعْيُنِ المُسلِمينَ. "فلمَّا خَرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ إلى بَدْرٍ" الكُبرَى، وكان ذلِك في السَّنةِ الثَّانيةِ بعْدَ الهِجْرةِ؛ وذلك لِقِتالِ قُرَيْشٍ، "وخَرَجَ المُشْركونَ" مِن أهلِ مكَّةَ لقِتالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ ومَن معه، "أَخْرَجوهم معهم مُكْرَهين" أَجْبَروا ناسًا ممَّن كانوا مُسْلمينَ سِرًّا، فأَخَذُوهم معهم لِقِتالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ، "فأُصيبَ بعْضُهم يومَ بدْرٍ مع المُشْركينَ" قُتِلوا وهم في صُفوفِ المُشْركينَ يومَ بدْرٍ، "فقال المُسْلمونَ" ممَّن كانوا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ، ويَعْلَمون أحْوالَ هؤلاء الذين أُجْبِروا على قِتالِ المُسلِمينَ، ثُمَّ ماتوا على ذلك: "أصْحابُنا هؤلاء كانوا مُسلِمينَ، أخْرَجوهم مُكْرَهين، فاسْتغْفِروا لهم"؛ ليَغْفرَ اللهُ لهم ذُنوبَهم وخُرُوجَهم مع المشركين، يتأسَّفون على حالِهم، ويسْأَلون اللهَ عَزَّ وجَلَّ لهم المغْفرةَ، "فنَزلَتْ": {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ. . . } [النساء: 97] الآيةَ، "كَتَبوها إلى مَن بَقِيَ منهم بمكَّةَ"، فأَرْسَلوا بتلك الآيةِ إلى مَن تَبَقَّى مِن المُسلِمينَ بمكَّةَ بعدَ غزْوةِ بدْرٍ، "فخَرَجوا" مِن مكَّةَ مُهاجِرينَ إلى المدينةِ؛ لأنَّهم عَلِموا أنَّه لا عُذْرَ لهم بعدَ ذلك، "حتى إذا كانوا ببعْضِ الطَّريقِ ظَهَرَ عليْهم المُشرِكونَ وعلى خُروجِهم"، أي: عَلِمَ الكُفَّارُ بإسْلامِهم وهِجْرتِهم، "فلَحِقُوهم" في الطَّريقِ "فرَدُّوهم" وأَرْجَعُوهم إلى مكَّةَ، وهذه فِتْنةٌ لهم، "فرَجَعوا معهم، فنَزلَتْ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]" والمعْنى: أنَّه إذا أُوذِيَ في اللهِ مِن جِهةِ دِينِه، جَعلَ هذه الفِتْنةَ كالعَذابِ، فنَكَصَ على عَقِبَيْه، وهذا كقَولِه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]. قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنْهما: "فكَتَبَ المُسلِمونَ إليْهم بذلك"، وأعْلَمُوهم بنُزولِ هذه الآيةِ؛ ليُخْبِروهم بما أَنزَلَ اللهُ في حقِّهم وأشْباهِهم، فحَزِنوا لذلك، وعَلِمَ اللهُ حُزْنَهم، "فنَزلَتْ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا}، فانْتَقَلوا مِن دارِ الكُفْرِ إلى المَدينةِ تائِبينَ {مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} بالارْتِدادِ {ثُمَّ جَاهَدُوا} الكُفَّارَ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ تَعالى عليْه وسلَّمَ، {وَصَبَرُوا} على ما يَلْقَوْنه مِن البَأْساءِ والضَّرَّاءِ في سَبيلِ اللهِ تَعالَى؛ {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا}، أي: مِن بعْدِ هذه الخِصالِ المَذْكورةِ؛ مِن التَّوْبةِ، والهِجْرةِ، والجِهادِ، والصَّبْرِ {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110]، فيَغْفرُ لهم ويَمْحو ما سَبَقَ مِن الجَرائِمِ، ويرْحَمُهم بإدْخالِهم الجَنَّةَ، "فكَتَبوا إليهم بذلك" مَرَّةً أُخْرى؛ ليُسارِعوا إلى الهِجْرةِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ، فَهاجَرُوا وكانوا مع المُسْلِمينَ يَأْمَنونَ على دِينِهم وأنْفُسِهم. ورَوى النَّسائِيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ أيْضًا أنَّ المقْصودَ بآيَةِ النَّحْلِ: هو عبدُ اللهِ بنُ أَبِي سَرْحٍ، كان يَكتُبُ الوَحْيَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ، فأَزَلَّهُ الشَّيطانُ فلَحِقَ بالكُفَّارِ، فأمَرَ به أنْ يُقتَلَ يَومَ الفَتْحِ، فاسْتَجارَ له عُثْمانُ رَضِيَ اللهُ عنْه، فأَجارَه رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليْه وسلَّمَ، وحَسُنَ إسْلامُه بعْدَ ذلك.