الموسوعة الفقهية

الفرعُ الرَّابعُ: طلاقُ السَّكرانِ


المسألة الأولى: طَلاقُ السَّكرانِ المَعذورِ بسُكْرِه
لا يقَعُ طَلاقُ السَّكرانِ المعذورِ بسُكْرِه [1649]   كمن شَرِبَ المُسكِرَ جاهِلًا بحقيقتِه المُسكِرةِ، أو أُكرِهَ على شُرْبِه. ، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [1650]   ((العناية شرح الهداية)) للعيني (3/490)، ((الفتاوى الهندية)) (1/353)، ((حاشية ابن عابدين)) (3/230). ، والمالِكيَّة [1651]   ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (4/149)، ((حاشية الدسوقي)) (2/366). ، والشَّافِعيَّةِ [1652]   ((روضة الطالبين)) للنووي (8/62)، ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (4/247). ، والحَنابِلةِ [1653]   ((الإقناع)) للحجاوي (4/3)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/234). ، وحُكِيَ فيه الإجماعُ [1654]   قال ابن قدامة: (سَواءٌ زال عَقلُه لجنونٍ، أو إغماءٍ، أو نومٍ، أو شُرْبِ دواءٍ، أو إكراهٍ على شُربِ خَمرٍ، أو شُرْبِ ما يُزيلُ عَقْلَه، شَرِبَه ولا يعلَمُ أنَّه مُزيلٌ للعَقلِ: فكُلُّ هذا يمنَعُ وقوعَ الطَّلاقِ روايةً واحدةً، ولا نعلَمُ فيه خلافًا). ((المغني)) (7/378). ووقع خلافٌ في المُكْرَهِ بشُربِها، قال المرداوي: (قال القاضي في الجامِعِ الكبير في كتاب الطَّلاقِ: فأمَّا إن أُكرِهَ على شُربِها، احتمل أن يكونَ حُكمُه حُكمَ المختارِ؛ لِما فيه من اللذَّةِ، واحتمل ألَّا يكونَ حُكمُه حُكمَ المختارِ؛ لِسُقوطِ المأثمِ عنه والحَدِّ. قال: وإنما يُخَرَّجُ هذا على الروايةِ التي تقولُ: إنَّ الإكراهَ يؤثِّرُ في شُربِها، فأمَّا إن قُلْنا: لا يؤثِّرُ الإكراهُ في شربِها، فحُكمُه حكمُ المختارِ. انتهى). ((الإنصاف)) (8/323). ؛ وذلك قياسًا على طَلاقِ المجنونِ [1655]   ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/234).
المسألة الثَّانية: طَلاقُ مَن أدخَلَ على نَفسِه السُّكْرَ باختيارِه
اختلف العُلَماءُ في حُكمِ طَلاقِ مَن أدخَلَ على نَفسِه السُّكْرَ باختيارِه، على قَولَينِ:القول الأول: يقَعُ طَلاقُ مَن أدخَلَ على نَفْسِه السُّكْرَ باختيارِه، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [1656]   ((كنز الدقائق)) للنسفي (ص: 269)، ((الفتاوى الهندية)) (1/353)، ((حاشية ابن عابدين)) (3/240). ، والمالِكيَّةِ [1657]   ((الكافي)) لابن عبد البر (2/571)، ((الشرح الكبير)) للدردير (2/365)، ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (2/78، 127). ، والشَّافِعيَّةِ [1658]   ((روضة الطالبين)) للنووي (8/62،23)، ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (4/246). ، والحَنابِلةِ [1659]   ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/233)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/234)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/74). ، وهو قَولُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ [1660]   قال الشوكاني: (حُكِيَ القَولُ بالوقوعِ عن: عليٍّ، وابن عباسٍ، وابنِ عُمَرَ، ومجاهدٍ، والضَّحَّاكِ، وسُليمانَ بنِ يَسارٍ). ((نيل الأوطار)) (6/280).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة: 230]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا عامٌّ في السَّكرانِ وغَيرِه [1661]   ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (5/14).
ثانيًا: أنَّ العَقلَ زال بسَببِ مَعصيةٍ؛ فوقعَ الطَّلاقُ عُقوبةً له [1662]   ((البناية شرح الهداية)) للعيني (5/301). القول الثاني: لا يقَعُ طَلاقُ مَن أدخَلَ على نَفسِه السُّكْرَ باختيارِه، وهو قَولٌ عند الحَنَفيَّةِ [1663]   ((البناية شرح الهداية)) للعيني (5/301). ، والشَّافِعيَّةِ [1664]   ((الحاوي الكبير)) للماوردي (10/419). ، وروايةٌ عن أحمد [1665]   ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/233). ، وهو مذهَبُ الظَّاهريَّةِ [1666]   قال ابنُ حزم: (طلاقُ السَّكرانِ غيرُ لازمٍ). ((المحلى)) (9/471). ونسبه الصنعاني لأهل الظاهِرِ. يُنظر: ((سبل السلام)) (2/265). ، وقَولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ [1667]   قال الماوردي: (به قال مِن الصحابةِ: عثمانُ بن عفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه، وإحدى الروايتينِ عن ابنِ عبَّاسٍ، ومن التابعينَ: عُمرُ بنُ عبد العزيزِ، ومن الفُقَهاءِ: الليثُ بنُ سعد، وداودُ بن علي، وعثمانُ البَتِّي، وأبو ثَور). ((الحاوي الكبير)) (10/419). وقال ابنُ تَيميَّةَ: (هذا ثابتٌ عن أميرِ المؤمنينَ عُثمانَ بنِ عَفَّان، ولم يثبُتْ عن الصَّحابةِ خِلافُه فيما أعلَمُ، وهو قَولُ كثيرٍ مِن السَّلَفِ والخَلَفِ: كعُمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وغيرِه). ((مجموع الفتاوى)) (33/102). ، وبه قال ابنُ تيميَّةَ [1668]   قال ابنُ تَيميَّةَ: (هذه المسألةُ فيها قولانِ للعُلماء، أصَحُّهما: أنَّه لا يقَعُ طلاقُه، فلا تنعقِدُ يمينُ السكرانِ، ولا يقَعُ به طلاقٌ إذا طَلَّق). ((مجموع الفتاوى)) (33/102). ، وابنُ القيِّمِ [1669]   قال ابنُ القيم: (أمَّا السَّكرانُ فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43] ، فلم يرتِّبْ على كلامِ السَّكرانِ حُكمًا، حتى يكونَ عالِمًا بما يقولُ). ((إعلام الموقعين)) (3/87). وقال: (إنَّ الزُّهريَّ روى عن أبانِ بنِ عُثمانَ عن عثمانَ: أنَّه ردَّ طلاقَ السَّكرانِ، ولا يُعرَفُ له مخالِفٌ مِنَ الصَّحابةِ، وهذا القَولُ هو الصَّحيحُ). ((إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان)) (ص: 26). ، وابنُ باز [1670]   قال ابنُ باز: (ليس من عقوبةِ السَّكرانِ إيقاعُ الطَّلاقِ؛ فالصَّوابُ الذي عليه المحقِّقونَ مِن أهل العِلمِ، وبه أفتى الخليفةُ الرَّاشِدُ عثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ طلاقَ السَّكرانِ الذي قد فَقَد عَقْلَه لا يقَعُ، حتى ولو كان آثمًا، أمَّا غيرُ الآثمِ فلا يقَعُ عند الجميعِ). ((فتاوى نور على الدرب)) (22/40). ، وابنُ عثيمين [1671]   قال ابنُ عثيمين: (أمَّا بالنسبةِ لسؤالِ المرأةِ، وهو أنَّ زوجَها طَلَّقَها وهو سكرانُ، فإنَّ للعُلماءِ في ذلك خلافًا: هل يقَعُ الطَّلاقُ في حالِ السُّكرِ أو لا يقَعُ؟ فالمشهورُ من مَذهَبِ الحَنابِلة: أنَّه يقعُ؛ عقوبةً له على شُربِه؛ فإنَّ هذا الشارِبَ عاصٍ لله عزَّ وجلَّ، فلا ينبغي أن يقابَلَ عِصيانُه بالتخفيفِ عنه وعدَمِ وُقوعِ الطَّلاقِ منه. وقال بعضُ العُلَماءِ: بل إنَّ طلاقَ السَّكرانِ لا يَقَعُ، وهذا هو المرويُّ عن أمير المؤمنينَ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو أقيَسُ؛ لأنَّ السكرانَ لا يعي ما يقولُ، ولا يدري ما يقولُ، فكيف نُلزِمُه بأمرٍ لا يدري عنه؟! وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43] ؛ فدَلَّ هذا على أنَّ السَّكرانَ لا يَعلَمُ ما يقولُ، فكيف نُلزِمُه بشَيءٍ لا يَعلَمُه؟!). ((فتاوى نور على الدرب)) (10/372).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ  [النساء: 43]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه لم يرتِّبْ على كَلامِ السَّكرانِ حُكمًا، حتى يكونَ عالِمًا بما يقولُ [1672]   ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/87).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
في حديثِ ماعزٍ لَمَّا أقَرَّ على نَفسِه بالزِّنا: ((... فسألَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أبِهِ جُنونٌ؟! فأُخبِرَ أنَّه ليس بمجنونٍ، فقال: أشرِبَ خَمرًا؟ فقام رجلٌ فاستَنْكَهَه، فلم يجِدْ منه ريحَ خَمرٍ، قال: فقال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أزَنَيتَ؟ فقال: نعم، فأمَرَ به فرُجِمَ... )) [1673]   أخرجه مسلم (1695).
وَجهُ الدَّلالةِ:
قَولُه: ((أشرِبَ خَمرًا؟)) يدُلُّ على أنَّه إن تبيَّنَ أنَّ ماعِزًا كان سَكرانَ، لم يصِحَّ إقرارُه، وإذا لم يَصِحَّ إقرارُه عُلِمَ أنَّ أقوالَه باطلةٌ كأقوالِ المجنونِ [1674]   ((الفتاوى الكبرى)) لابن تَيميَّةَ (3/304).
ثالثًا: مِنَ الآثارِ
قال عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه: (ليس لمجنونٍ ولا لِسَكرانَ طَلاقٌ) [1675]   أخرجه البخاري مُعلَّقًا بصيغة الجزم بعد حديث (5269)، وأخرجه موصولًا ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (18209)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (12/243)، والبيهقي (15509). صَحَّحه ابن القيم في ((زاد المعاد)) (5/191)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (2045).
رابعًا: أنَّ زَوالَ العَقلِ بالمُسكِرِ يُشبِهُ زَوالَ العَقلِ باستِعمالِ البَنجِ وشُربِ الدواءِ، وفيهما لا يَقَعُ الطَّلاقُ بالاتِّفاقِ [1676]   ((البناية شرح الهداية)) للعيني (5/301).
خامسًا: لأنَّه فاقِدٌ للعَقلِ، فهو كالمجنونِ [1677]   ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/220).
سادسًا: أنَّه إذا أثِمَ عوقِبَ على إثمِه، لكِنْ إذا تكَلَّم بدونِ عَقلٍ، فإنَّه لا يقَعُ طَلاقُه، وكونُه آثمًا له عقوبةٌ خاصَّةٌ، وهي التَّعزيرُ بالجَلدِ، أمَّا التعزيرُ باعتبارِ كلامِه مع عدَمِ عَقلِه، فهذا زيادةٌ، ولا يجوزُ أن نزيدَ على العقوبةِ التي جاءت بها السُّنَّةُ [1678]   ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/18).

انظر أيضا: