المبحَثُ السَّادِسُ: الاستطاعَةُ المالِيَّةُ
المَطْلَب الأوَّل: اشتراطُ الزَّادِ والرَّاحِلَةِ: يُشْتَرَطُ في وجوبِ الحَجِّ القُدرةُ على نفقَةِ الزَّادِ والرَّاحِلَة
، فاضلًا عن دَينِه، ونفقَتِه، وحوائِجِه الأصليَّة
، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة
، والشَّافِعِيَّة
، والحَنابِلَة
، وهو قَوْل سحنون, وابنِ حبيبٍ من المالِكِيَّة
، وبه قال أكثَرُ الفُقَهاءِ
الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتاب1- قال اللهُ تعالى:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَمَّا قال:
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا عَلِمْنَا أنَّها استطاعَةٌ غيرُ القُوَّةِ بالجِسْمِ; إذ لو كان تعالى أراد قُوَّةَ الجِسْمِ لَمَا احتاج إلى ذِكْرِها; لأنَّنا قد عَلِمْنا أنَّ الله تعالى لا يُكَلِّفُ نفسًا إلَّا وُسْعَها
2- قال اللهُ تعالى:
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النحل: 7] وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ الآيةَ تُفيدُ أنَّ الرِّحْلَة لا تبلُغُ إلَّا بِشِقِّ الأنفُسِ بالضَّرورة، ولا يُكَلِّفُنا اللهُ تعالى ذلك؛ لِقَوْله تعالى:
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحَجُّ: 78]
، فتعيَّنَ اشتراطَ الزَّادِ والرَّاحِلَة؛ لتحقيقِ الاستطاعَةِ في الحَجِّ.
3- قال اللهُ تعالى:
وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى البقرة: 197
[.]عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال:
((كان أهلُ اليَمَنِ يحجُّونَ ولا يتَزَوَّدون، ويقولون: نحن المتوَكِّلون، فإذا قَدِموا مَكَّةَ، سألوا النَّاسَ، فأنزل اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى))
المَطْلَب الثَّاني: من يُشتَرَطُ في حَقِّه الرَّاحِلَةُ اشتراطُ الرَّاحِلَةِ خاصٌّ بالبعيدِ عن مكَّةَ الذي بينه وبينها مسافَةُ قَصْرٍ، أمَّا القريبُ الذي يُمكِنُه المشيُ، فلا يُعتَبَر وجودُ الرَّاحِلَة في حَقِّه، إلَّا مع عجزٍ؛ كشيخٍ كبيرٍ لا يُمكِنُه المشيُ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة
، والشَّافِعِيَّة
، والحَنابِلَة
وذلك للآتي:أوَّلًا: أنَّها مسافةٌ قريبةٌ يمكِنُه المشيُ إليها، فلَزِمَه؛ كالسَّعْيِ إلى الجمعةِ
ثانيًا: أنَّه لا تلحَقُهم مشقَّةٌ زائدةٌ في الأداءِ مشيًا على الأقدامِ، فلم تُشْتَرَطِ الرَّاحِلَة
المَطْلَب الثَّالِث: الحاجاتُ الأصليَّةُ التي يُشتَرَط أن تَفْضُلَ عن الزَّاد والرَّاحِلَة: الحاجة الأُولى: نفقَةُ عيالِه ومَن تَلْزَمُه نفقَتُهم، مدَّةَ ذَهابِه وإيابِه.
الحاجة الثَّانية: ما يحتاجُ إليه هو وأهلُه مِن مَسْكَنٍ، ومِمَّا لا بدَّ لِمِثْلِه؛ كالخادِمِ، وأثاثِ البَيْتِ، وثيابِه؛ بقَدْرِ الاعتدالِ المناسِبِ له في ذلك.
الحاجة الثَّالِثة: قضاءُ الدَّينِ الذي عليه، لأنَّ الدَّينَ من حقوقِ العِبادِ، وهو من حوائِجِه الأصليَّة، فهو آكَدُ، وسواءٌ كان الدَّينُ لآدميٍّ أو لحقِّ اللهِ تعالى؛ كزكاةٍ في ذِمَّتِه، أو كفَّارات ونحوِها
المَطْلَب الرَّابِع: هل يُقَدِّمُ الحَجَّ أو الزَّواجَ؟ مَن وجَب عليه الحَجُّ وأراد أن يتزوَّجَ، وليس عنده من المالِ إلَّا ما يكفي لأحدِهما، فإنْ تاقت نفْسُه إلى الزَّواجِ وخاف مِنَ الزِّنا؛ قدَّمَ الزواجَ على الحَجِّ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة
، والمالِكِيَّة
، والحَنابِلَة
، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك
وذلك للآتي:أوَّلًا: أنَّ مَنِ اشتدَّت حاجَتُه إلى الزواجِ وجَبَتْ عليه المبادَرَةُ به قبل الحَجِّ؛ لأنَّه في هذه الحالِ لا يُسمَّى مُستطيعًا
ثانيًا: أنَّ في التزويجِ تحصينَ النَّفْسِ الواجِبَ، ولا غِنَى به عنه؛ كنَفَقَتِه، والاشتغالُ بالحَجِّ يُفَوِّتُه
ثالثا: أنَّ في تَرْكِه النِّكاحَ أمرَينِ: تَرْكَ الفَرْضِ، وهو النِّكاحُ الواجِبُ، والوقوعَ في المُحَرَّمِ، وهو الزِّنا