المطلب الأوَّل: حُكمُ دَفْنِ المَيِّت وموضِعُه
الفرع الأول: حُكمُ دفْنِ المَيِّتدفن المَيِّت فرضُ كفايةٍ.
الأدلَّة:أولًا: من الكتاب قال الله تعالى:
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة: 31] وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللهَ تعالى أرشَدَ أحَدَ ابنَيْ آدَمَ إلى دَفْنِ أخيه، وأبان ذلك بِبَعْثِ غرابٍ يبحَثُ في الأرض، فالآيةُ أصلٌ في الدَّفْنِ
قال الله تعالى:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات: 25-26] وَجهُ الدَّلالةِ:قولُه:
كِفَاتًا أي: ضامَّةً؛ تَضُمُّ الأحياءَ على ظُهورِها، والأمواتَ في بَطْنِها، وهذا يدلُّ على وجوبِ مُواراةِ المَيِّتِ ودَفْنِه
قال اللهُ تعالى:
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس: 21] وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللهَ أكرَمَ الإنسانَ بالدَّفنِ، ولم يَجْعَلْه يُلقَى للكِلابِ، ولم يُتْرَك حتى يتأذَّى النَّاسُ برائِحَتِه
ثانيًا: من السُّنَّة1- عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
((اذهبوا، فادْفِنوا صاحِبَكم))
2- عن
جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
((ادفِنوا القَتْلى في مصارِعِهم ))
ثالثًا: من الإجماعنَقَلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المنذرِ
، و
ابنُ حزمٍ
، و
ابنُ رشدٍ
،
والنوويُّ
، و
ابن المُلَقِّن
، والمرداويُّ
، وابنُ عابدينَ
مسألة: الكافِرُ إذا مات بين المُسلمينَالكافِرُ إذا هَلَك بين ظهرانَيِ المسلمينَ، وليس له مِن أَهْلِ دِينِه مَن يَدْفِنه؛ واراه المسلمونَ، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة
، والمالِكيَّة
، والشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
الأدلَّة:أولًا: من السُّنَّةعن أبي طلحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
((أنَّ نبيَّ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَرَ يومَ بَدْرٍ بأربعةٍ وعشرينَ رَجُلًا من صناديدِ قُرَيشٍ، فقُذِفُوا في طَوِيٍّ
مِن أطواءِ بَدْرٍ خبيثٍ مُخْبِثٍ
)
ثانيًا: لأنَّه يُتَضَرَّرُ بِتَرْكه، ويتَغَيَّرُ ببقائِه
الفرع الثاني: موضِعُ دَفْنِ المَيِّتالمسألة الأولى: الدَّفْنُ في المقبَرةِالأفضلُ أن يُدفَنَ المَيِّت في المَقبرةِ
وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة
، والمالِكيَّة
، والشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
الأدلَّة:أولًا: من السُّنَّة((كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَدْفِنُ الموتى بالبقيعِ ))
ثانيًا: لأنَّه يَكْثُر الدُّعاءُ له ممَّن يزورُه، والترحُّم عليه
ثالثًا: لأنَّه أشبَهُ بمساكِنِ الآخرَةِ
رابعًا: لأنَّه أقلُّ ضررًا على الأحياءِ مِن وَرَثَةِ المَيِّتِ
المسألة الثانية: الدَّفْنُ في البيتِاختلف أهلُ العِلْمِ في الدَّفْنِ في البيتِ؛ على قولين:
القول الأول: يجوز الدَّفْنُ في البَيتِ، وهو مذهَبُ الجُمهورِ: المالِكيَّة
، والشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
، وهو قولُ أكثَرِ العُلَماءِ
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم دُفِنَ في حُجْرَةِ
عائِشَةَ
القول الثاني: يُكْرَه الدَّفْنُ في البيتِ
، وهو مَذْهَبُ الحَنفيَّة
، وبَعضِ الشَّافعيَّة
، وبعضِ الحَنابِلَة
، واختاره
ابنُ حَجَرٍ
الأدلَّة:أولًا: من السُّنَّةعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه، أن رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
((لا تَجْعلوا بُيُوتَكم مقابِرَ ))
وَجهُ الدَّلالةِ:ظاهِرُ الحديثِ يقتضي النهْيَ عن الدَّفْنِ في البُيوتِ مُطْلقًا
ثانيًا: أنَّ العادة المُتَّبَعةَ مِن عَهْدِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى يَومِنا أنَّ الدَّفْنَ مع المُسلمين
ثالثًا: لأنَّه يُضَيِّق على الوَرَثة، وربَّما يَسْتَوْحِشونَ منه
رابعًا: لأنَّه قد يَحْدُثُ عنده من الأفعالِ المُحَرَّمةِ ما يتنافى مع مقصودِ الشَّارعِ، وهو تذكيرُ الآخرةِ
خامسًا: لأنَّ دَفْنَه في المقابِرِ أقَلُّ ضررًا على الأحياءِ مِنْ وَرَثَتِه
، فالقبرُ في البيت يُعَدُّ عَيبًا في البَيعِ
سادسًا: لأنَّ الدَّفْنَ في القُبورِ أكثَرُ للدُّعاءِ له، والترحُّمِ عليه
سابعًا: أنَّ القبرَ في البيتِ لا يُؤْمَن عليه مِنَ النَّبْشِ أو وصولِ النَّجاساتِ إليه
المسألة الثالثة: مكانُ دَفْنِ الكتابيَّة زَوجَةِ المُسلِمِ إذا ماتَتْ وهي حاملٌ منهاختلف أهلُ العلم في الكتابيَّة زوجةِ المُسلمِ تموتُ وهي حاملٌ: أين تُدْفَنُ
؛ على أقوالٍ؛ أقواها قولان:
القول الأول: تُدفَنُ وَحْدَها؛ لا في مقابِرِ المسلمينَ ولا في مقابِرِ الكُفَّارِ، وهذا مذهَبُ الجُمهورِ: الحَنفيَّة
، والصَّحيحُ مِن مذهَبِ الشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
؛ وذلك لأنَّها كافرةٌ، فلا تُدفَنُ في مقبرةِ المُسلمين، ولأنَّ وَلَدَها مُسْلِمٌ، فلا تُدْفَنُ في مقبرةِ الكُفَّار
القول الثاني: تُدفَنُ في مقابِرِ المسلمينَ، وهو وجهٌ للشَّافعية
، وروايةٌ عن
أحمَدَ
وهو قولُ بعضِ الصَّحابة
، واختاره
ابنُ عُثيمين
؛ وذلك لئلَّا يُدفَنَ الجنينُ المُسلمِ مع الكُفَّار
؛ فتُدْفَنُ في مقابِرِ المسلمينَ ترجيحًا للوَلَدِ المُسلِمِ
المسألة الرابعة: دفنُ المُسلمِ في مقابِرِ الكُفَّارلا يجوز دَفْنُ المُسلمِ في مقابِرِ الكُفَّارِ، وذلك باتِّفاقِ المذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة
، والمالكيَّة
، والشَّافعيَّة
، والحنابلة
وهو قَولُ
ابنِ حَزمٍ
الأدلة:أولًا: مِنَ السنَّةِعن بشير، مولى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رضي الله عنه قال:
((بينما أنا أماشي رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مر بقبور المشركين، فقال: لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا، ثلاثا ثم مر بقبور المسلمين، فقال: لقد أدرك هؤلاء خيرا كثيرا، وحانت من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نظرة، فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان، فقال: يا صاحب السبتيتين، ويحك ألق سبتيتيك، فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خلعهما فرمى بهما ))
وجهُ الدَّلالةِ:الحديثُ فيه دلالةٌ على تَفريقِ قُبورِ المسلمينَ عَنِ المشركينَ
ثانيًا: لأنَّ عَمَلَ أهلِ الإسلامِ مِن عَهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والخُلَفاءِ الرَّاشدينَ ومَن بَعدَهم؛ مُستمِرٌّ على إفرادِ مَقابِرِ المُسلمينَ عن مَقابِرِ الكافرينَ، وعدَمِ دَفنِ مُسلمٍ مع مُشركٍ، فكان هذا إجماعًا عمليًّا على إفرادِ مَقابِرِ المُسلمينَ عن مقابِرِ الكافِرينَ
المسألة الخامسة: دَفْنُ الكافِرِ في مقابِرِ المسلمينَلا يجوزُ دَفْنُ الكافِرِ في مقابِرِ المسلمينَ، باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة
، والمالِكيَّة
، والشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
، وهو قولُ
ابنِ حزمٍ الظَّاهريِّ
الأدلَّة:أولًا: من السُّنَّةعن بشيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال:
((كنتُ أمشي مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فمَرَّ على قبورِ المسلمينَ، فقال: لقَدْ سَبَقَ هؤلاء شرًّا كثيرًا، ثم مَرَّ على قبورِ المشركينَ، فقال: لقد سَبَقَ هؤلاءِ خيرًا كثيرًا ))
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ في الحديثِ تفريقَ قُبورِ المُسلمينَ عن قبورِ المُشْركينَ
ثانيًا: مِنَ الآثارعن عبدِ الرَّحمنِ بن غَنْمٍ، قال: (كتبتُ لعُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه حين صالَحَ نصارى الشَّامِ، وشَرَطَ عليهم فيه... ولا يجاوِرُوا المُسلمينَ بِمَوتاهم)
المسألة السادسة: دَفْنُ مَن مات في سفينةٍمن مات في سفينةٍ، ولم يُمكِنِ الخروجُ به إلى السَّاحِلِ، يُلقى في البَحْرِ بعد الغُسْلِ والتَّكفينِ والصَّلاةِ، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّة
، والمالِكيَّة
، والشَّافعيَّة
والحَنابِلَة
؛ وذلك لتعذُّرِ دَفْنِه في البَرِّ، ولأنَّه لا يُؤْمَنُ تغيُّرُه، ولِخَوْفِ الضَّرَرِ
مسألة: هل يُثَقَّلُ المَيِّتُ بشيءٍ حتى ينزِلَ إلى القرارِ؟اختلف أهلُ العِلْمِ فيمن مات في سفينةٍ: هل يُثَقَّلُ بشيءٍ حتى يَنْزِلَ إلى القَرارِ أو لا؛ على قولين:
القول الأول: يُلقَى في البَحرِ، ويُثَقَّلُ بشيءٍ؛ حتى يَنزِلَ إلى القَرارِ، وهو مَذهَبُ الحَنابِلَة
، وقولٌ للمالكيَّة
، وهو قَولُ عطاءٍ
؛ وذلك ليستقِرَّ في قرارِ البَحرِ
فيحصُلَ بذلك السَّتْر المقصودُ مِن دَفْنِ الميِّت
القول الثاني: يُلْقى في البَحْرِ، ولا يُثَقَّلُ، وهو مذهَبُ الشَّافعيَّة
، وقولٌ للمالكيَّة
؛ لأنَّه ربَّما وقع في ساحلٍ، فيجِدُه مسلمٌ فيَدفِنُه
المسألة السابعة: موضِعُ دفْنِ الشُّهداءِيُسَنُّ دفْنُ الشُّهداءِ في مضاجِعِهم، وهذا مَذهبُ الجُمهورِ: الحَنفيَّة
، والشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
الأدلَّة:أوَّلًا: من السُّنَّةعن
جابرِ بن عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال:
((كنَّا حَمَلْنا القَتلى يومَ أحُدٍ لِنَدْفِنَهم، فجاء منادِي النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقالَ: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يأمُرُكم أنْ تدفِنوا القَتْلى في مضاجِعِهم فرَدَدْناهُم ))
ثانيًا: لأنَّ مَضْجَعَه يشهَدُ له
ثالثًا: لأنَّ بعضَه، وهو ما سالَ مِن دَمَه، قد صار فيه
المسألة الثامنة: نَقْلُ المَيِّتِ ليُدْفَنَ في غيرِ البَلَدِ الذي مات فيهيجوز نَقْلُ المَيِّت
من بلدٍ إلى آخَرَ، إذا كان لغرضٍ صحيحٍ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنفيَّة
، والمالِكيَّة
، والحَنابِلَة
الأدلَّة:أولًا: مِنَ الآثارعن
مالكٍ أنَّه سَمِعَ غيرَ واحدٍ يقول: إنَّ
سعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ و
سعيدَ بنَ زيدٍ ماتا بالعقيقِ، فحُمِلَا إلى المدينةِ، ودُفِنَا بها
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ
سَعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ و
سَعيدَ بنَ زيدٍ نُقِلَا من العقيقِ ونحوِه إلى المدينةِ، وذلك بمَحْضَر جماعةٍ من الصحابةِ وكبارِ التَّابعينَ من غيرِ نكيرٍ، ولعلَّهما قد أوصَيَا بذلك
ثانيًا: أنَّ الأصلَ هو جوازُ نقْلِ المَيِّت مِنَ المَوْطِن الذي مات فيه إلى مَوْطِنٍ آخَرَ يُدْفَنُ فيه، ولا يُمْنَع من ذلك إلَّا بدليلٍ، ولا دليلَ يمنعُ
المسألة التاسعة: المُفاضلة بين اللَّحدِ والشَّقِّاللَّحْدُ أفضَلُ مِنَ الشَّقِّ
، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ
: الحَنفيَّة
، والمالِكيَّة
، والشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
الأدلَّة من السُّنَّة:1- عن عامِرِ بنِ سعدِ بنِ أبي وقَّاص:
((أنَّ سعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال في مَرَضِه الذي هلَكَ فيه: الْحَدُوا لي لَحْدًا، وانصِبوا عليَّ اللَّبِنَ نَصْبًا، كما صُنِعَ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ))
2- عن
أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((لَمَّا تُوُفِّيَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان بالمدينة رَجُلٌ يَلْحَدُ، وآخَرُ يَضْرَحُ، فقالوا: نستخيرُ رَبَّنا، ونبعَثُ إليهما فأيُّهُما سبَقَ تَرَكْناه، فأُرْسِلَ إليهما فسَبَقَ صاحِبُ اللَّحْدِ، فلَحَدَ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ))
وَجهُ الدَّلالةِ من الحديثينِ: أنَّ هذا الذى اختارهُ اللهُ لنَبِيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم حين تشاوَرَ الصَّحابةُ فى ذلك، وقالوا: نستخيرُ رَبَّنا، فجاء الذى يَلْحَد أوَّلًا فلَحَدَ لَه
المسألة العاشرة: الدَّفنُ في تابوتٍيُكْرَه
الدَّفْنُ في التَّابوتِ
مِن غيرِ حاجةٍ، وهذا مذهبُ الجمهورِ: الحَنفيَّة
، والشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
، وهو قَولُ ابنِ القاسمِ مِنَ المالِكيَّة
وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك
وذلك للآتي:أولًا: لأنَّه لم يُنْقَل عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا عن أصحابِه
ثانيًا: لأنَّه خَشَبٌ، وفيه تشبُّهٌ بأهل الدُّنيا
ثالثًا: لأنَّ الأرْضَ أنشَفُ لفَضَلاتِه