الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الأوَّلُ: حُكمُ الفِرارِ مِنَ الزَّحفِ


يَحرُمُ الفِرارُ مِنَ الزَّحفِ.
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير [الأنفال: 15-16] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّتِ الآيَتانِ على النَّهيِ عَنِ الفِرارِ مِنَ الزَّحفِ، وقدِ اشتَمَلَت على الوعيدِ الشَّديدِ لمَن يَفِرُّ عَنِ الزَّحفِ؛ مِمَّا يَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّه مِن الكَبائِرِ الموبِقةِ [460] يُنظر: ((فتح القدير)) للشوكاني (2/ 336). .
2- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 65-66] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
فرَضَ اللهُ في هذه الآيةِ ألَّا يَفِرَّ واحِدٌ مِن عَشَرةٍ، ثُمَّ خَفَّفَ الحُكمَ على ألَّا يَفِرَّ واحِدٌ مِنِ اثنَينِ؛ فوجَبَ الثَّباتُ لهذا العَدَدِ، وحُرِّمَ الفِرارُ إذا كانَ عَدَدُ الكُفَّارِ ضِعفَ عَدَدِ المُسلِمينَ أو أقَلَّ مِن ذلك [461] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (4/178)، ((صحيح البخاري)) (4653). .
3- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: 45] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّتِ الآيةُ على وُجوبِ الثَّباتِ عِندَ مُلاقاةِ الأعداءِ في الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ إذا لم يَكُنْ عَدَدُ الكُفَّارِ أكثَرَ مِن ضِعفِ المُسلِمينَ، ولَم يَكُنْ مُتَحَرِّفًا لقِتالٍ، أو مُتَحَيِّزًا إلى فِئةٍ [462] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/ 250)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/ 413). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((اجتَنِبوا السَّبعَ الموبِقاتِ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وما هُنَّ؟ قال: الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ، وقَتلُ النَّفسِ التي حَرَّمَ اللهُ إلَّا بالحَقِّ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليَتيمِ، والتَّولِّي يَومَ الزَّحفِ، وقَذفُ المُحصَناتِ المُؤمِناتِ الغافِلاتِ)) [463] أخرجه البخاري (2766) واللفظ له، ومسلم (89). .
ثالثًا: من الإجماعِ
نَقَل الإجماعَ على ذلك: الطَّبَريُّ [464] قال الطَّبَريُّ: (أجمَعوا أنَّ الطَّائِفةَ مِنَ المُسلِمينَ -أوِ الجَيشَ مِنهُم- إذا لَقُوا عَدوًّا مِثلَهم أو أكثَرَ مِنهُم، وكانَ المُسلِمونَ مُستَعلينَ على المُشرِكينَ: أنْ حَرامٌ عليهِم أن يولُّوا عَنهُم). ((اختلاف الفقهاء)) (ص: 21). ، وابنُ المناصِفِ [465] قال ابنُ المُناصِفِ: (اتَّفَقَ أهلُ العِلمِ ومَن يُعتَدُّ برَأيِهم على أنَّ الثُّبوتَ إذا كانَ المُشرِكونَ ضِعفَ المُسلِمينَ فأقَلَّ: واجِبٌ، والفِرارُ عَنهُم حَرامٌ أو مَعصيةٌ). ((الإنجاد في أبواب الجهاد)) (ص: 211). ، وقاضي صَفَدَ [466] قال قاضي صَفَدَ: (اتَّفَقوا... وأنَّه إذا التَقى الزَّحفانِ وجَبَ على المُسلِمينَ الحاضِرينَ الثَّباتُ، وحَرُمَ عليهِمُ الفِرارُ إلَّا أن يَكونوا مُتَحَرِّفينَ لقِتالٍ أو مُتَحَيِّزينَ إلى جِهةٍ، أو يَكونَ الواحِدُ مَعَ الثَّلاثةِ أوِ المِائةُ مَعَ ثَلاثِمِائةٍ، فيُباحُ الفِرارُ). ((رحمة الأمة في اختلاف الأئمة)) (ص: 271). ، وزَرُّوقٌ [467] قال زَرُّوقٌ: (الفِرارُ مِنَ الزَّحفِ حَرامٌ إجماعًا إلَّا مُتَحَرِّفًا لقِتالٍ أو مُتَحَيِّزًا إلى فِئةٍ). ((شرح زروق على متن الرسالة)) (2/ 604). وخالَفَ بَعضُ العُلَماءِ وقالوا: إنَّ تَحريمَ الفِرارِ خاصٌّ لأهلِ بَدرٍ دونَ غَيرِهم، ووُصِفَ هذا القَولُ بأنَّه شاذٌّ، قال ابنُ العَرَبيِّ: (اختَلَفَ النَّاسُ: هَلِ الفِرارُ يَومَ الزَّحفِ مَخصوصٌ بيَومِ بَدرٍ أم عامٌّ في الزُّحوفِ كُلِّها إلى يَومِ القيامةِ؟ فرويَ عَن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ أنَّ ذلك يَومَ بَدرٍ لم يَكُنْ لَهم فِئةٌ إلَّا رَسولَ اللهِ، وبه قال نافِعٌ، والحَسَنُ، وقَتادةُ، ويَزيدُ بنُ أبي حَبيبٍ، والضَّحَّاكُ. ويُروى عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ وسائِرِ العُلَماءِ أنَّ الآيةَ باقيةٌ إلى يَومِ القيامةِ، وإنَّما شَذَّ مَن شَذَّ بخُصوصِ ذلك يَومَ بَدرٍ بقَولِه: ومَن يولِّهم يَومَئِذٍ دُبُرَه [الأنفالِ: 16] فظَنَّ قَومٌ أنَّ ذلك إشارةٌ إلى يَومِ بَدرٍ، ولَيسَ به، وإنَّما ذلك إشارةٌ إلى يَومِ الزَّحفِ). ((أحكام القرآن)) (2/386). ويُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (5/ 343). .

انظر أيضا: