الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الثَّاني: العَدَدُ الذي لا يَجوزُ الفِرارُ مِنهُم


يَجِبُ على المُسلِمينَ الثَّباتُ في الجِهادِ إذا كانَ عَدَدُ الكُفَّارِ ضِعفَ عَدَدِ المُسلِمينَ فأقَلَّ، فإن زادوا على الضِّعفِ لم يَكُنِ الفِرارُ مُحَرَّمًا، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالِكيَّةِ [468] قَيَّدَ المالِكيَّةُ جَوازَ الفِرارِ بألَّا يَبلُغَ عَدَدُ المُسلِمينَ اثنَي عَشَرَ ألفًا، فلا يَجوزُ لَهمُ الفِرارُ مُطلَقًا. ((الرسالة)) لابن أبي زيد القيرواني (ص: 83)، ((الشرح الكبير)) للدردير (2/ 178). ، والشَّافِعيَّةِ [469] الأصَحُّ عِندَ الشَّافِعيَّةِ أنَّ العَدَدَ مُعتَبَرٌ عِندَ تَقارُبِ الأوصافِ، أمَّا عِندَ تَفاوُتِها فالعِبرةُ بما يَغلِبُ على ظَنِّ المُسلِمينَ أنَّهم يُقاوِمونَ الزِّيادةَ على مِثلَيهِم ويَرجونَ الظَّفَرَ بهم. ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (11/ 402)، ((روضة الطالبين)) للنووي (10/248، 249)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (6/35). ، والحَنابِلةِ [470] قَيَّدَ الحَنابِلةُ جَوازَ الفِرارِ بجِهادِ الطَّلَبِ، أمَّا جِهادُ الدَّفعِ فيَجِبُ الثَّباتُ إن خافوا أن يَعطِفَ الكُفَّارُ على مَن تَخَلَّفَ مِنَ المُسلِمينَ، أو أن يَستَولوا على الحَريمِ. ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/ 289)، ((الإنصاف)) للمرداوي (4/ 123، 124). ، وبَعضِ الحَنَفيَّةِ ([471]( ((النتف في الفتاوى)) للسغدي (2/ 712). ، وحُكي الإجماعُ على ذلك [472] قال ابنُ رُشدٍ: (وأمَّا مَعرِفةُ العَدَدِ الذينَ لا يَجوزُ الفِرارُ عَنهُم، فهمُ الضِّعفُ، وذلك مُجمَعٌ عليهـ). ((بداية المجتهد)) (1/ 287). وقال ابنُ المُناصِفِ: (اتَّفَقَ أهلُ العِلمِ ومَن يُعتَدُّ برَأيِهم على أنَّ الثُّبوتَ إذا كانَ المُشرِكونَ ضِعفَ المُسلِمينَ فأقَلَّ: واجِبٌ، والفِرارُ عَنهُم حَرامٌ أو مَعصيةٌ، وكَبيرةٌ مِن جُملةِ الكَبائِرِ). ((الإنجاد في أبواب الجهاد)) (ص: 211). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
قَولُه تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 66] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّت هذه الآيةُ على وُجوبِ ثَباتِ المُسلِمينَ أمامَ ضِعفِهم مِنَ الكُفَّارِ، وجَوازِ الفِرارِ عَمَّا زادَ عَن ذلك؛ وذلك لأنَّ الجُملةَ الخَبَريَّةَ في الآيةِ يُرادُ بها الأمرُ؛ إذ لَو كانَت خَبَرًا لَما كانَ لقَولِه: الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُم مَعنًى، لأنَّ التَّخفيفَ إنَّما يَكونُ في المَأمورِ به لا في المُخبَرِ عَنه، ولَوقَعَ الخَبَرُ بخِلافِ المُخبَرِ؛ لأنَّه لا يَحصُلُ للمُسلِمينَ الغَلَبةُ في كُلِّ مَوطِنٍ يَكونُ العَدوُّ فيه ضِعفَ المُسلِمينَ فما دونَ، ولَمَّا أوجَبَ اللهُ تَعالى على المُسلِمينَ مُصابَرةَ ضِعفِهم مِنَ الكُفَّارِ دَلَّ على أنَّه لا يَجِبُ عليهِم مُصابَرةُ ما زادَ على ذلك [473] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (4/ 178)، ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/ 257)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/ 429)، ((البيان)) للعمراني (12/ 127)، ((المغني)) لابن قدامة (9/ 254)، ((الممتع)) لابن المنجى (2/ 271). .
ثانيًا: من الآثار
عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهُما أنَّه قال: (إن فرَّ رَجُلٌ مِنِ اثنَينِ فقد فرَّ، وإن فرَّ مِن ثَلاثةٍ لم يَفِرَّ) [474] أخرجه سعيدُ بنُ منصور في ((السنن)) (1001)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (2/49)، والبيهقي (18136). صَحَّحه ابنُ حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/286)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (1206)، وصَحَّح إسنادَه على شرطهما شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (2/49). .

انظر أيضا: