الفَرعُ الثَّاني: حُكمُ السَّلَبِ مِنَ الغَنيمةِ
اختَلَفَ الفُقَهاءُ في حُكمِ السَّلَبِ مِنَ الغَنيمةِ، على قَولَينِ: القَولُ الأوَّلُ: يَستَحِقُّ المُقاتِلُ المُسلِمُ سَلَبَ المَقتولِ الكافِرِ، سَواءٌ أذِنَ الإمامُ أو لم يَأذَنْ، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ
[179] استَثنى الشَّافِعيَّةُ الذِّمِّيَّ فإنَّه لا يُعطى السَّلَبَ سَواءٌ أحَضَرَ بإذنِ الإمامِ أم لا. ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/ 99)، ((تحفة المحتاج)) للرملي (7/ 142)، ((حاشية البجيرمي على الخطيب)) (4/ 264). ، والحَنابِلةِ
[180] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/ 315)، ((الإقناع)) للحجاوي (2/ 19). ، والظَّاهِريَّةِ
[181] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (5/ 401-399). ، وهو قَولُ بَعضِ السَّلَفِ
[182] وهو قَولُ الأوزاعيِّ، وسَعيدِ بنِ عَبدِ العَزيزِ، واللَّيثِ بنِ سَعدٍ، وأبي ثَورٍ، وأبي عُبَيدٍ، وأبي سُلَيمانَ، وجَميعِ أصحابِ الحَديثِ. يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (5/ 401)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد الحفيد (2/ 159). .
الأدِلَّةُ: أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ 1- عَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال يَومَ حُنَينٍ:
((مَن قَتَلَ رَجُلًا فلَه سَلَبُه، فقَتَلَ أبو طَلحةَ يَومَئِذٍ عِشرينَ رَجُلًا، فأخَذَ أسلابَهم)) [183] أخرجه أبو داود (2718)، وأحمد (12236) واللفظ له. صَحَّحه ابنُ حبان (4836)، والذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (2/585)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2718)، وحسَّنه أبو داود، وصَحَّح إسنادَه العيني في ((نخب الأفكار)) (12/254)، وشعيب الأرناؤوط على شرط مسلم في تخريج ((مسند أحمد)) (12236). .
2- عَن أبي قَتادةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال بَعدَ انقِضاءِ القِتالِ يَومَ حُنَينٍ:
((مَن قَتَلَ قَتيلًا له عليه بَيِّنةٌ فلَه سَلَبُهـ)) [184] أخرجه البخاري (3142)، ومسلم (1751). .
3- عَن سَلَمةَ بنِ الأكوعِ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَينٌ مِنَ المُشرِكينَ وهو في سَفَرٍ، فجَلَسَ عِندَ أصحابِه يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انفَتَلَ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اطلُبوه واقتُلوه، قال سَلَمةُ: فقَتَلتُه، فنَفَّلَه سَلَبَهـ)) [185] أخرجه البخاري (3051). .
4- عَن عَوفِ بنِ مالِكٍ الأشجَعيِّ، قال:
((خَرَجتُ مَعَ مَن خَرَجَ مَعَ زَيدِ بنِ حارِثةَ في غَزوةِ مُؤتةَ، ورافَقَني مَدَديٌّ مِنَ اليَمَنِ... قال عَوفٌ: فقُلتُ: يا خالِدُ، أما عَلِمتَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى بالسَّلَبِ للقاتِلِ؟ قال: بَلى. ولَكِنِّي استَكثَرتُهـ)) [186] أخرجه مسلم (1753). .
القَولُ الثَّاني: لا يَستَحِقُّ المُقاتِلُ المُسلِمُ سَلَبَ المَقتولِ الكافِرِ بدونِ إذنِ الإمامِ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ
[187] ((المبسوط)) للسرخسي (10/ 39)، ((درر الحكام شرح غرر الأحكام)) لمنلا خسرو (1/ 290). ، والمالِكيَّةِ
[188] ((مواهب الجليل)) للحطاب (3/ 367)، ((منح الجليل)) لعليش (3/ 185). ، وقَولٌ للحَنابِلةِ
[189] ((المبدع شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/ 315). .
الأدِلَّةُ: أوَّلًا: من الكتابِ 1- قال تعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ [الأنفال: 41] .
وَجهُ الدَّلالةِ: الآيةُ تَقتَضي وُجوبَ الغَنيمةِ لجَماعةِ الغانِمينَ، والسَّلَبُ مِنَ الغَنيمةِ، فغَيرُ جائِزٍ لأحَدٍ منهمُ الاختِصاصُ بشَيءٍ منها دونَ غَيرِه
[190] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/ 234)، ((المبسوط)) للسرخسي (10/39). .
2- قال تَعالى:
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا [الأنفال: 69] وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ السَّلَبَ مِمَّا غَنِمَه جَماعةُ الغانِمينَ، فهو لَهم
[191] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/ 234). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ 1- عَن عَوفِ بنِ مالِكٍ، قال:
((قَتَلَ رَجُلٌ مِن حِميَرَ رَجُلًا مِنَ العَدوِّ، فأرادَ سَلَبَه، فمَنَعَه خالِدُ بنُ الوليدِ، وكانَ واليًا عليهم. فأتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَوفُ بنُ مالِكٍ، فأخبَرَه، فقال لخالِدٍ: ما مَنَعَكَ أن تُعطيَه سَلَبَه؟ قال: استَكثَرتُه يا رَسولَ اللهِ. قال: ادفَعْه إليه. فمَرَّ خالِدٌ بعَوفٍ فجَرَّ برِدائِه، ثُمَّ قال: هَل أنجَزتُ لَكَ ما ذَكَرتُ لَكَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فسَمِعَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاستُغضِبَ، فقال: لا تُعطِه يا خالِدُ. لا تُعطِه يا خالِدُ. هَل أنتُم تارِكونَ لي أُمَرائي؟ إنَّما مَثَلُكُم ومَثَلُهم كمَثَلِ رَجُلٍ استُرعيَ إبِلًا أو غَنَمًا فرَعاها، ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقيَها فأورَدَها حَوضًا، فشَرَعَت فيه، فشَرِبَت صَفوَه وتَرَكَت كَدَرَه، فصَفوُه لكم، وكَدَرُه عليهم)) [192] أخرجه مسلم (1753). .
وَجهُ الدَّلالةِ: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تُعطِه يا خالِدُ)) دَليلٌ على أنَّ السَّلَبَ غَيرُ مُستَحَقٍّ للقاتِلِ؛ لأنَّه لَوِ استَحَقَّه لَما جازَ أن يَمنَعَه
[193] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/ 235 ،236). .
2- عَن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ أنَّه قال:
((بَينا أنا واقِفٌ في الصَّفِّ يَومَ بَدرٍ، نَظَرتُ عَن يَميني وشِمالي، فإذا أنا بَينَ غُلامَينِ مِنَ الأنصارِ، حَديثةٍ أسنانُهما، تَمَنَّيتُ لو كُنتُ بَينَ أضلَعَ منهما، فغَمَزَني أحَدُهما، فقال: يا عَمِّ، هَل تَعرِفُ أبا جَهلٍ؟ قال: قُلتُ: نَعَم... فابتَدَراه فضَرَباه بسَيفَيهما حَتَّى قَتَلاه، ثُمَّ انصَرَفا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَراه. فقال: أيُّكُما قَتَلَه؟ فقال كُلُّ واحِدٍ منهما: أنا قَتَلتُ. فقال: هَل مَسَحتُما سَيفَيكُما؟ قالا: لا. فنَظَرَ في السَّيفَينِ فقال: كِلاكُما قَتَلَه. وقَضى بسَلَبِه لمُعاذِ بنِ عَمرِو بنِ الجُموحِ. والرَّجُلانِ: مُعاذُ بنُ عَمرِو بنِ الجُموحِ، ومُعاذُ بنُ عَفراءَ)) [194] أخرجه البخاري (3141)، ومسلم (1752) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ: قَولُه:
((كِلاكُما قَتَلَه. وقَضى بسَلَبِه لمُعاذِ بنِ عَمرِو بنِ الجُموحِ)) أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى السَّلَبَ لأحَدِهما مَعَ إخبارِه أنَّهما قَتَلاه؛ فدَلَّ على أنَّ السَّلَبَ لا يُستَحَقُّ بالقَتلِ
[195] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/ 236)، ((المبسوط)) للسرخسي (10/39). .
ثالِثًا: أنَّ الأحاديثَ التي ورَدَت بأنَّ السَّلَبَ للقاتِلِ كانَت في الحالِ التي حَضَّ فيها للقِتالِ، فهو حُكمٌ مَقصورٌ على الحالِ في تلك الحَربِ خاصَّةً
[196] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/ 234، 235). .
رابِعًا: لأنَّ السَّلَبَ مِن جُملةِ الغَنيمةِ، والقاتِلُ قَتَلَه بتَضافُرِ الجَماعةِ وتَآزُرِهم
[197] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/ 234)، ((المبسوط)) للسرخسي (10/39). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش