المَبحَثُ الثَّاني: مَشروعيَّةُ أَسْرِ أهلِ الحَربِ
يُشرَعُ أَسْرُ أهلِ الحَربِ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والصِّبيانِ، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ
[92] ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (7/160، 161)، ((المبسوط)) للسرخسي (10/114). ، والمالِكيَّةِ
[93] ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/543)، ((منح الجليل)) لعليش (3/165). ، والشَّافِعيَّةِ
[94] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 309)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/227). ، والحَنابِلةِ
[95] ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/625)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (2/521). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك
[96] قال ابنُ المناصِفِ: (أجمَعَ أهلُ العِلمِ على جَوازِ النِّكايةِ بالأَسْرِ في جَميعِ الكُفَّارِ عامًّا في الرِّجالِ والنِّساءِ والذُّرِّيَّةِ، وعَلى اختِلافِ أحوالِهم مِمَّن فيه أهليَّةُ القِتالِ، أو به عَجزٌ عَن ذلك، كالمَرضى والزَّمْنى وغَيرِهم، إلَّا خِلافًا في الرُّهبانِ المُنقَطِعينَ في الصَّوامِعِ والدياراتِ، وحَيثُ يَنفَرِدونَ، فلا يَكونُ مِنهُم أذًى بتَدبيرٍ ولا غَيرِهـ). ((الإنجاد في أبواب الجهاد)) (ص: 244). وخالف الظَّاهِريَّةُ والحَنَفيَّةُ في المَسألةِ؛ فقال الظَّاهِريَّةُ: الكُفَّارُ حُكمُهمُ الإسلامُ أوِ القَتلُ، إلَّا الكُفَّارَ مِن أهلِ الكِتابِ والمَجوسِ. قال ابنُ حَزمٍ: (ولا يُقبَلُ مِن كافِرٍ إلَّا الإسلامُ أوِ السَّيفُ -الرِّجالُ والنِّساءُ في ذلك سَواءٌ - حاشا أهلَ الكِتابِ خاصَّةً، وهمُ اليَهودُ، والنَّصارى، والمَجوسُ فقَط؛ فإنَّهُم إن أعطَوُا الجِزيةَ أُقِرُّوا على ذلك مَعَ الصَّغارِ). ((المحلى)) (5/413). وذهَبَ الحَنَفيَّةُ إلى أنَّ الكُفَّارَ مِنَ العَرَبِ غَيرِ أهلِ الكِتابِ حُكمُهم الإسلامُ أو القَتلُ. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/89). .
الأدِلَّةُ: أوَّلًا: من الكتابِ 1- قَولُه تعالى:
فإذا لَقيتُمُ الذينَ كَفَروا فضَربَ الرِّقابِ حَتَّى إذا أثخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد: 4] .
وَجهُ الدَّلالةِ: أمَرَ اللهُ تَعالى أن نَشُدَّهم في الوَثاقِ؛ فإمَّا أن نَمُنَّ أو نُفاديَ، وهذا لأنَّه تَعالى كانَ قد حَرَّمَ الأسرَ ... ثُمَّ أباحَ بهذه الآيةِ أسرَهم إذا أثخَنَّاهم بالجِراحِ وغَيرِه
[97] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للكيا الهراسي (4/373). .
2- قَولُه تَعالى:
فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فاقتُلوا المُشرِكينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ [التوبة: 5] .
وَجهُ الدَّلالةِ: يَدُلُّ على جَوازِ الأَسْرِ بَدَلَ القَتلِ والتَّخييرِ بَينَهما، ويَدُلُّ على جَوازِ قَتلِهم أو أَسْرِهم على وَجهِ المَكيدةِ؛ لقَولِه تعالى:
وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [98] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للكيا الهراسي (4/175). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ 1- عَن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ، ورَفَعَه، أنَّه قال في سَبايا أوطاسٍ:
((لا توطَأُ حامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، ولا غَيرُ ذاتِ حَملٍ حَتَّى تَحيضَ حَيضةً)) [99] أخرجه أبو داود (2157) واللفظ له، وأحمد (11823). صَحَّحه لغيره الألباني في ((هداية الرواة)) (3273)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2157)، وحسَّنه ابنُ عبد البر في ((التمهيد)) (3/143)، وحَسَّنَ إسنادَه مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (1/414)، وابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (1/275)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/108)، وذكَر ثبوتَه ابنُ العربي في ((أحكام القرآن)) (1/514). .
وَجهُ الدَّلالةِ: وُقوعُ الأَسْرِ في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غَزوةِ أوطاسٍ وغَيرِها.
2- عَن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((قدِمَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبيٌ، فإذا امرَأةٌ مِنَ السَّبيِ قد تَحلُبُ ثَديَها تَسقي، إذا وجَدَت صَبيًّا في السَّبيِ أخَذَتهُ فألصَقَته ببَطنِها وأرضَعَته، فقال لَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أتَرَونَ هذه طارِحةً ولَدَها في النَّارِ؟ قُلنا: لا، وهيَ تَقدِرُ على ألَّا تَطرَحَه، فقال: لَلَّهُ أرحَمُ بعِبادِه مِن هذه بولَدِها..)) [100] أخرجه البخاري (5999) واللفظ له، ومسلم (2754). .
3- عَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((صَلَّى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصُّبحَ قَريبًا مِن خَيبَرَ بغَلَسٍ، ثُمَّ قال: اللهُ أكبَرُ، خَرِبَت خَيبَرُ، إنَّا إذا نَزَلنا بساحةِ قَومٍ فساءَ صَباحُ المُنذَرينَ! فخَرَجوا يَسعَونَ في السِّكَكِ، فقَتَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُقاتِلةَ وسَبى الذُّرِّيَّةَ، وكانَ في السَّبيِ صَفيَّةُ، فصارَت إلى دِحيةَ الكَلبيِّ، ثُمَّ صارَت إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجَعَلَ عِتقَها صَداقَها)) [101] أخرجه البخاري (4200) واللفظ له، ومسلم (1365). .
ثالثًا: لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانَ يَقسِمُ السَّبيَ كَما يَقسِمُ المالَ، والمُرادُ بالسَّبيِ الأَسْرى مِنَ النِّساءِ والوِلدانِ
[102] يُنظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/227). .
رابعًا: لأنَّ تَخليصَ المُسلِمِ مِن أيدي الكُفَّارِ واجِبٌ، ولا يُتَوصَّلُ إليه إلَّا بأَسْرِ الكُفَّارِ لافتِداءِ المُسلِمينَ بهم
[103] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/249). .
مَطلَبٌ: أَسْرُ المَعتوهِ والمَجنونِ والشَّيخِ الفاني اختَلَفَ العُلَماءُ في حُكمِ أَسْرِ المَعتوهِ والمَجنونِ والشَّيخِ الفاني، على أقوالٍ أقواها قَولانِ
[104] وذَهَبَ المالِكيَّةُ إلى جَوازِ أَسْرِهم، وجَوازِ تَركِهم مِن غَيرِ أسرٍ. يُنظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (2/177). :
القَولُ الأوَّلُ: يَجوزُ أَسْرُ المَعتوهِ والمَجنونِ والشَّيخِ الفاني، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ
[105] استَثنى الحَنَفيَّةُ الشَّيخَ الفانيَ؛ فإنَّهُ يَجوزُ أسرُه، ويَجوزُ تَركُه إذا كانَ لا يُقاتِلُ. ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/84). ويُنظر: ((الجوهرة النيرة)) للحدادي (2/259). ، والشَّافِعيَّةِ -في الأظهر-
[106] ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/223)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/64). ، والحَنابِلةِ
[107] ((الإنصاف)) للمرداوي (4/97)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/54). ؛ لئَلَّا يُترَكوا في دارِ الحَربِ؛ لأنَّهم إذا تُرِكوا تَقوَّى بهم أهلُ الحَربِ بتَكثيرِ النَّسلِ
[108] ((الجوهرة النيرة)) للحدادي (2/259). .
القَولُ الثَّاني: لا يَجوزُ أَسْرُ المَعتوهِ والمَجنونِ والشَّيخِ الفاني، إذا لَم يَكُنْ في تَركِهم مَضَرَّةٌ، وهو قَولٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ مُقابِلُ الأصَحِّ
[109] ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/223)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/64). ، وقَولُ بَعضِ الحَنابِلةِ
[110] ((الإنصاف)) للمرداوي (4/97). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/223). ؛ وذلك لأنَّ قَتلَهم حَرامٌ، ولا نَفعَ في أَسْرِهم
[111] ((المغني)) لابن قدامة (9/223). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش