الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: اليَمينُ المَردودةُ  


تُرَدُّ اليَمينُ على المُدَّعي إذا نَكَلَ المُدَّعى عليه عَن أداءِ اليَمينِ، فإن حَلَفَ قُضيَ له بها [1609] ويُطلقُ عليها اليمينُ المَردودةُ، وهي العائِدةُ على المُدَّعي إذا نَكَلَ المُدَّعى عليه عَنِ اليَمينِ. ، وهذا مَذهَبُ المالِكيَّةِ [1610] مَذهَبُ المالِكيَّةِ: أنَّ اليَمينَ تُرَدُّ على المُدَّعي في المالِ وما يَؤولُ إليه. ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/ 220)، ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (7/ 411، 412)، ((منح الجليل)) لعليش (8/ 568، 569). ، والشَّافِعيَّةِ [1611] مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ: أنَّ اليَمينَ تُرَدُّ على المُدَّعي في كُلِّ ما يَجوزُ أن يَحلِفَ عليه المُدَّعى عليه. ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (13/ 208)، ((روضة الطالبين)) للنووي (8/ 322). ، وروايةٌ عندَ الحنابِلةِ [1612] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (10/ 48)، ((الإنصاف)) للمرداوي (11/ 254، 255). ، وهو قَولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ [1613] قال ابنُ قُدامةَ: (واختارَ أبو الخَطَّابِ أنَّ له رَدَّ اليَمينِ على المُدَّعي، إن رَدَّها حَلَفَ المُدَّعي، وحُكِمَ له بما ادَّعاه. قال: وقد صَوَّبَه أحمَدُ، فقال: ما هو ببَعيدٍ، يَحلِفُ ويَستَحِقُّ. هو قَولُ أهلِ المَدينةِ، رويَ ذلك عَن عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، وبه قال شُرَيحٌ، والشَّعبيُّ، والنَّخَعيُّ، وابنُ سيرينَ، ومالِكٌ في المالِ خاصَّةً. وقال الشَّافِعيُّ: في جَميعِ الدَّعاوى). ((المغني)) (10/ 211). ويُنظر: ((معرفة السنن)) للبيهقي (14/ 312)، ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (2/ 966، 967). ، واختاره ابنُ تَيميَّةَ [1614] قال ابنُ تيميَّةَ: (الأصلُ المُستَقِرُّ في الشَّريعةِ أنَّ اليَمينَ مَشروعةٌ في جَنبةِ أقوى المُتَداعيَينِ، سَواءٌ تَرَجَّحَ ذلك بالبَراءةِ الأصليَّةِ، أوِ اليَدِ الحِسِّيَّةِ، أوِ العادةِ العَمَليَّةِ؛ ولهذا إذا تَرَجَّحَ جانِبُ المُدَّعي كانَتِ اليَمينُ مَشروعةً في حَقِّه عِندَ الجُمهورِ). ((مجموع الفتاوى)) (34/ 81).  وقال: (والقَولُ بالرَّدِّ أرجَحُ، وأصلُه أنَّ اليَمينَ تُرَدُّ على جِهةِ أقوى المُتَداعيَينِ المُتَجاحِدَينِ). ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 562).  وقال: (والمَنقولُ عَنِ الصَّحابةِ يَدُلُّ على التَّفصيلِ، وهو أظهَرُ الأقاويلِ، وهو أنَّه إن كانَ المُنكِرُ هو العالِمَ دونَ المُدَّعي، كما إذا ظَهَرَ في المَبيعِ عَيبٌ، وقد بِيعَ بالبَراءةِ، فقال المُشتَري: أنا لَم أعلَم به، فإنَّه هُنا يُقالُ له كما قال عُثمانُ بنُ عَفَّانَ لابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهُما: احلِفْ أنَّكَ بعتَه وما به داءٌ تَعلَمُه. فإن حَلَفَ وإلَّا قُضيَ عليه بالنُّكولِ، كما قَضى عُثمانُ على ابنِ عُمَرَ بالنُّكولِ). ((الجواب الصحيح)) (6/ 465). ، وابنُ القَيِّمِ [1615] قال ابنُ القَيِّمِ: (الذي جاءَت به الشَّريعةُ أنَّ اليَمينَ تُشرَعُ مِن جِهةِ أقوى المُتَداعيَينِ، فأيُّ الخَصمَينِ تَرَجَّحَ جانِبُه جُعِلَتِ اليَمينُ مِن جِهَتِه، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ كَأهلِ المَدينةِ، وفُقَهاءِ الحَديثِ كالإمامِ أحمَدَ، والشَّافِعيِّ، ومالِكٍ، وغَيرِهم). ((إعلام الموقعين)) (2/ 187).  وقال: (ثَبَتَ تَحليفُ المُدَّعي إذا أقامَ شاهِدًا واحِدًا، والشَّاهِدُ أقوى مِنَ النُّكولِ، فتَحليفُه مَعَ النُّكولِ أولى، وقد شَرَعَ اللهُ سُبحانَه ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَحليفَ المُدَّعي في أيمانِ القَسامةِ؛ لقوةِ جانِبِه باللَّوثِ، فتَحليفُه مَعَ النُّكولِ أولى، وكَذلك شَرَعَ تَحليفَ الزَّوجِ في اللِّعانِ، وكَذلك شَرَعَ تَحليفَ المُدَّعي إذا كانَ شاهِدُ الحالِ يُصَدِّقُه... وهذا مَحضُ الفِقه والقياسِ؛ فإنَّه إذا نَكَلَ قَويَ جانِبُ المُدَّعي فظُنَّ صِدقُه، فشُرِعَ اليَمينُ في حَقِّه؛ فإنَّ اليَمينَ إنَّما شُرِعَت في جانِبِ المُدَّعى عليه لقوَّةِ جانِبِه بالأصلِ، فإذا شَهِدَ الشَّاهِدُ الواحِدُ ضَعُفَ هذا الأصلُ ولَم تَتَمَكَّن قوَّتُه مِنَ الاستِقلالِ، وقَويَ جانِبُ المُدَّعي باليَمينِ، وهَكَذا إذا نَكَلَ ضَعُفَ أصلُ البَراءةِ). ((إعلام الموقعين)) (5/ 385، 386).  وقال: (وهذا الذي اختارَه شَيخُنا -رَحِمَه اللهُ- هو فصلُ النِّزاعِ في النُّكولِ ورَدِّ اليَمينِ). ((الطرق الحكمية)) (1/ 232). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
قَولُه تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة: 108] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
جاءَ في الآيةِ ذِكرُ الأيمانِ بَعدَ الأيمانِ، والأصلُ أنَّه لا يَمينَ بَعدَ يَمينٍ، غَيرَ أنَّ ظاهِرَ الآيةِ يَقتَضي يَمينًا بَعدَ يَمينٍ، وهو خِلافُ الإجماعِ؛ فتَعَيَّنَ حَملُه على يَمينٍ بَعدَ رَدِّ يَمينٍ [1616] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (17/ 141)، ((البيان)) للعمراني (13/ 89)، ((الفروق)) للقرافي (4/ 92)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (19/ 7)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (6/ 423). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَن سَهلِ بنِ أبي حَثمةَ في حَديثِ القَسامةِ، وفيه قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أتَحلِفونَ خَمسينَ يَمينًا فتَستَحِقُّونَ صاحِبَكُم أو قاتِلَكم؟ قالوا: وكَيفَ نَحلِفُ ولَم نَشهَدْ؟ قال: فتُبَرِّئُكُم يَهودُ بخَمسينَ يَمينًا)) [1617] أخرجه البخاري (7192)، ومسلم (1669) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
طَلَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اليَمينَ مِنَ الأنصارِ، فلَمَّا نَكَلوا رَدَّ اليَمينَ على اليَهودِ؛ فدَلَّ ذلك على أصلِ نَقلِ اليَمينِ مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ؛ إذ فيه تَحويلُ يَمينٍ مِن مَوضِعٍ قد نُدِبَت فيه إلى المَوضِعِ الذي يُخالِفُه [1618] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (8/ 93)، ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (ص: 1550)، ((الحاوي)) للماوردي (17/ 141)، ((السنن الصغرى)) للبيهقي (4/ 168). .
ثالثًا: أنَّ اليَمينَ تَكونُ في جانِبِ أقوى المُتَداعيَينِ، وفي حالِ نُكولِ المُدَّعى عليه قَويَ جانِبُ المُدَّعي بسَبَبِ النُّكولِ؛ فكانَتِ اليَمينُ في جانِبِه [1619] يُنظر: ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (2/ 966، 967)، ((المغني)) لابن قدامة (10/ 211). .
رابعًا: أنَّ امتِناعَ المُدَّعى عليه عَنِ اليَمينِ قد يَكونُ لجَهلِه بالحالِ، أو تَورُّعًا مِنه عَنِ اليَمينِ على ما لا يَتَحَقَّقُ مِنه، أو للخَوفِ مِن عاقِبةِ اليَمينِ، أو تَرَفُّعًا عَنها، مَعَ عِلمِه بصِدقِه في إنكارِه، والنُّكولُ ليس دَليلًا على صِدقِ المُدَّعي، فكانَ لا بُدَّ مِن يَمينِه [1620] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/ 211). .

انظر أيضا: