الموسوعة الفقهية

المَسألةُ الأولى: قَضاءُ القاضي بالظَّاهِرِ في الأموالِ فيما يُخالِفُ الباطِنَ


قَضاءُ القاضي بالظَّاهِرِ في الأموالِ فيما يُخالِفُ الباطِنَ يَنفُذُ في الظَّاهِرِ، ولا يُغَيِّرُ الحُكمَ في الباطِنِ؛ فلا يُحِلُّ حُكمُه حَرامًا ولا يُحَرِّمُ حَلالًا.
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
1- قَولُه تعالى: وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ [البقرة: 188] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّت هذه الآيةُ أنَّ أكلَ المالِ بالباطِلِ مُحَرَّمٌ، ولَو كانَ أكلُه بحُكمِ حاكِمٍ [232] يُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (3/277)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (7/96). .
2- قَولُه تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَيۡمَٰنِهِمۡ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيۡهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران: 77] .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَن أُمِّ سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنها، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّكُم تَختَصِمونَ إليَّ، ولَعَلَّ بَعضَكُم أن يَكونَ ألحَنَ بحُجَّتِه مِن بَعضٍ، فأقضيَ على نَحوِ ما أسمَعُ، فمَن قَضَيتُ له من حَقِّ أخيه شَيئًا فلا يَأخُذْه؛ فإنَّما أقطَعُ له قِطعةً مِنَ النَّارِ)) [233] أخرجه البخاري (7169) واللفظ له، ومسلم (1713). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ بَيانٌ واضِحٌ بأنَّ قَضاءَ القاضي بالظَّاهِرِ الذي يُعتَدُّ به لا يُحِلُّ حَرامًا في الباطِنِ على مَن عَلِمَه، وذلك أنَّه إذا كانَ حُكمُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقَضاؤُه لا يُحِلُّ لأحَدٍ ما كانَ عليه حَرامًا، فكَيفَ القَولُ في قَضاءِ أحَدٍ بَعدَه؟ [234] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (8/516)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (7/96). .
2- عَن أبي بَكرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ دِماءَكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم وأبشارَكُم عليكُم حَرامٌ)) [235] أخرجه البخاري (7078) واللفظ له، ومسلم (1679) دونَ قَولِه: "أبشارَكم". .
ثالثًا: من الإجماعِ
نَقَلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنذِرِ [236] قال ابنُ المُنذِرِ: (وأجمَعوا على أشياءَ مِمَّا يَحكُمُ بها الحاكِمُ في الظَّاهِرِ حَرامٍ على المَقضيِّ له به، مِمَّا يَعلَمُ أنَّ ذلك حَرامٌ عليه، مِن ذلك: أن يَحكُمَ له بالمالِ). ((الإجماع)) (ص: 65). ، والجَصَّاصُ [237] قال الجَصَّاصُ: (بمالٍ مُطلَقٍ مِن غَيرِ جِهةِ العَقدِ، فهذا ما لا يُحِلُّه حُكمُ الحاكِمِ، ولا خِلافَ فيه بَينَ المُسلِمينَ). ((شرح مختصر الطحاوي)) (8/178). ، وابنُ عَبدِ البَرِّ [238] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (ففيه بَيانٌ واضِحٌ بأنَّ قَضاءَ القاضي بالظَّاهِرِ الذي يُعتَدُّ (بهـ) لا يُحِلُّ حَرامًا في الباطِنِ على مَن عَلِمَه، وأجمَعَ العُلَماءُ (على) أنَّ ذلك في الأموالِ صَحيحٌ كما وصَفنا). ((الاستذكار)) (7/96). ، والكاسانيُّ [239] قال الكاسانيُّ: (وإن قَضى بمِلكٍ مُرسَلٍ لا يَنفُذُ قَضاؤُه باطِنًا بالإجماعِ). ((بدائع الصنائع)) (7/15). ، وابنُ رُشدٍ [240] قال ابنُ رُشدٍ: (أجمَعوا على أنَّ حُكمَ الحاكِمِ بالظَّاهِرِ الذي يَعتَريه لا يُحِلُّ حَرامًا ولا يُحَرِّمُ حَلالًا، وذلك في الأموالِ خاصَّةً). ((بداية المجتهد)) (4/244). ، وابنُ القَطَّانِ [241] قال ابنُ القَطَّانِ: (أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّ حُكمَ الحاكِمِ لا يُخرِجُ الأمرَ عَمَّا هو عليه في الباطِنِ، وإنَّما يَنفُذُ حُكمُه في الظَّاهِرِ الذي يُعتَدُّ به، ولا يُحِلُّ حُكمُه للمَقضيِّ له مالَ المَقضيِّ عليه إذا ادَّعى عليه ما ليس عِندَه، ووقَعَ الحُكمُ بشاهِدَي زورٍ). ((الإقناع)) (2/147). ، وابنُ تَيميَّةَ [242] قال ابنُ تيميَّةَ: (اتَّفَقَ المُسلِمونَ على أنَّ حُكمَ الحاكِمِ بالحُقوقِ المُرسَلةِ لا يُغَيِّرُ الشَّيءَ عَن صِفَتِه في الباطِنِ، فلَو حَكَمَ بمالِ زَيدٍ لعَمرٍو لإقرارٍ أو بَيِّنةٍ كانَ ذلك باطِلًا في الباطِنِ، ولَم يُبِحْ ذلك له في الباطِنِ، ولا يَجوزُ له أخذُه مَعَ العِلمِ بالحالِ، باتِّفاقِ المُسلِمينَ). ((مجموع الفتاوى)) (11/429-430). ، وابنُ جُزَيٍّ [243] قال ابنُ جُزَيٍّ: (حُكمُ القاضي في الظَّاهِرِ لا يُحِلُّ حَرامًا في نَفسِ الأمرِ ولا يُحَرِّمُ حَلالًا، خِلافًا لأبي حَنيفةَ في عَقدِ النِّكاحِ وحِلِّه، وأجمَعوا في الأموالِ). ((القوانين الفقهية)) (ص: 196). ، وابنُ فَرْحونَ [244] قال ابنُ فَرْحون: (وهذا إجماعٌ مِن أهلِ العِلمِ في الأموالِ). ((تبصرة الحكام)) (1/84). ، والعَينيُّ [245] قال بَدرُ الدِّينِ العَينيُّ: (لا في الأملاكِ المُرسَلةِ، مِثلُ أن يَدَّعيَ المِلكَ، ولَم يَذكُروا السَّبَبَ؛ فإنَّ الحُكمَ فيها بشَهادةِ الزُّورِ لا يَنفُذُ باطِنًا بالإجماعِ). ((البناية)) (9/52). ، والحَصكَفيُّ [246] قال الحَصكَفيُّ: ((بخِلافِ الأملاكِ المُرسَلةِ) أيِ: المُطلَقةِ عَن ذِكرِ سَبَبِ المِلكِ، فظاهِرًا فقَط إجماعًا). ((الدر المختار)) (ص: 471). ، وابنُ عابِدين [247] قال ابنُ عابِدين: ((قَولُه: بخِلافِ الأملاكِ المُرسَلةِ) وهيَ التي لم يُذكَرْ لَها سَبَبٌ مُعَيَّنٌ، فإنَّهم أجمَعوا أنَّه يَنفُذُ فيها ظاهِرًا لا باطِنًا). ((حاشية ابن عابدين)) (5/406). .

انظر أيضا: