الموسوعة الفقهية

المَسألةُ الثَّانيةُ: قَضاءُ القاضي بالظَّاهِرِ في غَيرِ الأموالِ فيما يُخالِفُ الباطِنَ


إذا قَضى القاضي بالظَّاهِرِ في غَيرِ الأموالِ، كالعُقودِ والفُسوخِ والطَّلاقِ، يَنفُذُ في الظَّاهِرِ ولا يُغَيِّرُ الحُكمَ في الباطِنِ، فلا يُحِلُّ حُكمُه حَرامًا، ولا يُحَرِّمُ حَلالًا، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ [248] نُسِبَ هذا القَولُ إلى جُمهورِ العُلَماءِ وجَماهيرِ الأُمَّةِ وأكثَرِ أهلِ العِلمِ. يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (7/96)، ((البيان)) للعمراني (13/413)، ((المغني)) لابن قدامة (10/53)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/430). : المالِكيَّةِ [249] ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/139)، ((الشرح الكبير)) للدردير (4/156). ، والشَّافِعيَّةِ [250] ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (12/482)، ((روضة الطالبين)) للنووي (11/152،153). ، والحَنابِلةِ [251] ((الإقناع)) للحجاوي (4/405)، ((منتهى الإرادات)) لابن النجار (5/303). ، وهو مَذهَبُ الظَّاهِريَّةِ [252] ((المحلى)) لابن حزم (8/516)، ((المغني)) لابن قدامة (10/53). ، وبه قال زُفَرُ وأبو يوسُفَ ومُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ، وعليه الفَتوى عِندَ الحَنَفيَّةِ [253] ((البحر الرائق)) لابن نجيم (7/14)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 471). ، وهو قَولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ [254] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (فقال مالِكٌ والثَّوريُّ والأوزاعيُّ والشَّافِعيُّ وأحمَدُ وإسحاقُ وأبو ثَورٍ وداوُدُ وجُمهورُ العُلَماءِ: الأموالُ والفُروجُ في ذلك سَواءٌ، وهيَ حُقوقٌ كُلُّها لا يُحِلُّ مِنها القَضاءُ الظَّاهِرُ ما هو حَرامٌ في الباطِنِ). ((الاستذكار)) (7/96). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك [255] قال ابنُ حَزمٍ: (ما نَعلَمُ مُسلِمًا قَبلَه أتى بهذه الطَّوامِّ، ونَبرَأُ إلى اللهِ تَعالى مِنها، ولَيتَ شِعري ما الفَرقُ بَينَ هذا وبَينَ مَن شَهِدَ له شاهِدا زورٍ في أُمِّه أنَّها أجنَبيَّةٌ، وأنَّها قد رَضيَت به زَوجًا، أو على حُرٍّ أنَّه عَبدُه، فقَضى له القاضي بذلك؟ وما عُلِمَ مُسلِمٌ قَطُّ قَبلَ أبي حَنيفةَ فرَّقَ بَينَ شَيءٍ مِن ذلك). ((المحلى)) (8/516). وقال ابنُ القَطَّانِ: (وأجمَعَ العُلَماءُ على أنَّ حُكمَ الحاكِمِ لا يُخرِجُ الأمرَ عَمَّا هو عليه في الباطِنِ، وإنَّما يَنفُذُ حُكمُه في الظَّاهِرِ الذي يُعتَدُّ به، ولا يُحِلُّ حُكمُه للمَقضيِّ له مالَ المَقضيِّ عليه إذا ادَّعى عليه ما ليس عِندَه، ووقَعَ الحُكمُ بشاهِدَي زورٍ)، وقال: (والعُلَماءُ مُجمِعونَ أنَّ ذلك في الفُروجِ والأموالِ سَواءٌ). ((الإقناع)) (2/147). وقال الشَّوكانيُّ: (حَكى الشَّافِعيُّ الإجماعَ على أنَّ حُكمَ الحاكِمِ لا يُحَلِّلُ الحَرامَ). ((الدراري المضية)) (2/376). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
قَولُه تعالى: وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ [البقرة: 188] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ حُكمَ القاضي يَنفُذُ ظاهِرًا لا باطِنًا، وذلك مِن ثَلاثةِ أوجُهٍ [256] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (17/12). :
الوجهُ الأوَّلُ: فُسِّرَ الباطِلُ في قَولِه تَعالى: وَلَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُم بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ بتَفسيرَينِ؛ الأوَّلُ: الظُّلمُ. والثَّاني: الحَرامُ. ولا يَنفَكُّ الحُكمُ بشَهادةِ الزُّورِ عنهما.
الوجهُ الثَّاني: فُسِّرَ قَولُه تَعالى: وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ بتَفسيرَينِ: أحَدُهما: وتَتَرافَعوا فيها إلى الحُكَّامِ. والثَّاني: وتَحتَجُّوا بها عِندَ الحُكَّامِ. وهذه صِفةُ المَشهودِ له بالزُّورِ.
الوجهُ الثَّالِثُ: فُسِّرَ الإثمُ في قَولِه تَعالى: لتَأكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بتَفسيرَينِ: أحَدُهما: بشَهادةِ الزُّورِ، وهذا نَصٌّ. والثَّاني: بالجُحودِ، وهو في مَعنى النَّصِّ.
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَن أُمِّ سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنها، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّكُم تَختَصِمونَ إليَّ، ولَعَلَّ بَعضَكُم أن يَكونَ ألحَنَ بحُجَّتِه مِن بَعضٍ، فأقضيَ على نَحوِ ما أسمَعُ، فمَن قَضَيتُ له من حَقِّ أخيه شَيئًا فلا يَأخُذْه؛ فإنَّما أقطَعُ له قِطعةً مِنَ النَّارِ)) [257] أخرجه البخاري (7169) واللفظ له، ومسلم (1713). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ بَيانٌ واضِحٌ بأنَّ قَضاءَ القاضي بالظَّاهِرِ الذي يُعتَدُّ به لا يُحِلُّ حَرامًا في الباطِنِ على مَن عَلِمَه، وذلك أنَّه إذا كانَ حُكمُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقَضاؤُه لا يُحِلُّ لأحَدٍ ما كانَ عليه حَرامًا، فكَيفَ القَولُ في قَضاءِ أحَدٍ بَعدَه، والحَديثُ عامٌّ في الأموالِ وغَيرِها؛ لأنَّه قال: ((فمَن قَضَيتُ له من حَقِّ أخيه شَيئًا فلا يَأخُذْهـ))، والحَقُّ قد يَكونُ مالًا، وقد يَكونُ غَيرَ ذلك مِن نِكاحٍ وطَلاقٍ وعَقدٍ [258] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (7/96)، ((البيان)) للعمراني (13/414). .
2- عَن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها: أنَّ عَبدَ بنَ زَمعةَ وسَعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ اختَصَما إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ابنِ أَمَةِ زَمعةَ، فقال سَعدٌ: يا رَسولَ اللهِ، أوصاني أخي إذا قدِمتُ أن أنظُرَ ابنَ أَمَةِ زَمعةَ فأقبِضَه؛ فإنَّه ابني. وقال عَبدُ بنُ زَمعةَ: أخي وابنُ أَمَةِ أبي، وُلِدَ على فِراشِ أبي، فرَأى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَبَهًا بَيِّنًا، فقال: ((هو لَكَ يا عَبدُ بنَ زَمعةَ، الولَدُ للفِراشِ، واحتَجِبي منه يا سَودةُ)) [259] أخرجه البخاري (2421) واللفظ له، ومسلم (1457). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد حَكَمَ بأنَّ الولَدَ أخٌ لسَودةَ رَضيَ اللهُ عنها، فلَمَّا رَأى به شَبَهًا بالزَّاني أمَرَها أن تَحتَجِبَ منه، فلَو كانَ حُكمُ الحاكِمِ يُغَيِّرُ الشَّيءَ عَمَّا هو عليه في الباطِنِ لَما أمَرَها بالاحتِجابِ منه [260] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (13/414). .
3- عَن أبي هُرَيرةَ، قال: قُتِلَ رَجُلٌ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرُفِعَ القاتِلُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فدَفَعَه إلى وليِّ المَقتولِ، فقال القاتِلُ: يا رَسولَ اللهِ، لا واللهِ ما أرَدتُ قَتلَه، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لوَليِّ المَقتولِ: ((أمَا إنَّه إن كانَ صادِقًا ثُمَّ قَتَلتَه دَخَلتَ النَّارَ!)) فخَلَّى سَبيلَه. قال: وكانَ مَكتوفًا بنِسْعةٍ، فخَرَجَ يَجُرُّ نِسْعَتَه، فسُمِّيَ ذا النِّسعةِ [261] أخرجه أبو داود (4498)، والترمذي (1407)، والنسائي (4722) واللفظ له. صحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4722)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1257). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ هذا الحَديثُ على نُفوذِ الحُكمِ في الظَّاهِرِ دونَ الباطِنِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ إذنِه في قَتلِ الرَّجُلِ أخبَرَ أنَّه كانَ صادِقًا، وحَرَّمَ قَتلَه [262] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (17/13). .
4- عَن أبي بَكرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ دِماءَكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم وأبشارَكُم عليكُم حَرامٌ)) [263] أخرجه البخاري (7078) واللفظ له، ومسلم (1679) دونَ قَولِه: "أبشارَكم". .
ثالِثًا: القياسُ على المالِ المُطلَقِ في نَفاذِ الحُكمِ فيه على الظَّاهِرِ فقَط، بجامِعِ الحُكمِ بمُقتَضى أمرٍ مُحَرَّمٍ في الباطِنِ مِن شَهادةِ زورٍ أو يَمينٍ كاذِبةٍ [264] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (13/414). .
رابِعًا: أنَّ شَهادةَ الزُّورِ أفسَدُ مِن شَهادةِ العَبدِ والكافِرِ، وحُكمُ الأموالِ أخَفُّ مِن حُكمِ الفُروجِ، فلَمَّا لم يَنفُذِ الحُكمُ في الباطِنِ بشَهادةِ العَبدِ والكافِرِ، كانَ أَولى أن لا تَنفُذَ في الفُروجِ بشَهادةِ الزُّورِ، ولَمَّا لم يَنفُذْ بشَهادةِ الزُّورِ في الأموالِ كانَ أَولى أن لا تَنفُذَ في الفُروجِ [265] ((الحاوي)) للماوردي (17/13). .

انظر أيضا: