الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: التَّعزيرُ بالجَلدِ


مِن أنواعِ التَّعزيرِ البَدَنيِّ: التَّعزيرُ بالجَلدِ [2175] قال ابنُ فَرحونَ: (التَّعزيرُ لا يَختَصُّ بفِعلٍ مُعَيَّنٍ ولا قَولٍ مُعَيَّنٍ؛ فقد عَزَّرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالهَجرِ، وذلك في عَقدِ الثَّلاثةِ الذينَ ذَكَرَهمُ اللهُ تعالى في القُرآنِ الكَريمِ، فهُجِروا خَمسينَ يَومًا لا يُكَلِّمُهم أحَدٌ، وقَضيَّتُهم مَشهورةٌ في الصِّحاحِ، وعَزَّرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنَّفيِ، فأمَرَ بإخراجِ المُخَنَّثينَ مِنَ المَدينةِ ونَفيِهم، وكذلك الصَّحابةُ مِن بَعدِه، ونَذكُرُ مِن ذلك بَعضَ ما ورَدَت به السُّنَّةُ مِمَّا قال ببَعضِه أصحابنا، وبَعضُه خارِجَ المَذهَبِ؛ فمِنها: أمرُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه بهَجرِ صَبيغٍ الذي كان يَسألُ عنِ الذَّارياتِ وغَيرِها، ويَأمُرُ النَّاسَ بالتَّفقُّدِ عنِ المُشكِلاتِ مِنَ القُرآنِ، فضَرَبَه ضَربًا وجيعًا ونَفاه إلى البَصرةِ أوِ الكوفةِ، وأمَرَ بهَجرِه، فكان لا يُكَلِّمُه أحَدٌ حتَّى تابَ، وكَتَب عامِلُ البَلَدِ إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عنه- يُخبِرُه بتَوبَتِه، فأذِنَ للنَّاسِ في كَلامِه. ومِنها: أنَّ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه حَلَقَ رَأسَ نَصرِ بنِ حَجَّاجٍ ونَفاه مِنَ المَدينةِ، لمَّا شَبَّبَ النِّساء به في الأشعارِ وخَشيَ الفِتنةَ به.... ومِنها: «أمرُه لعَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنهما- بتَحريق الثَّوبَينِ المُعَصفرَينِ».... ومِنها: أنَّه رَضِيَ اللهُ عنه أراقَ اللَّبَنَ المَغشوشَ، وغَيرُ ذلك مِمَّا يَكثُرُ تَعدادُه، وهذه قَضايا صَحيحةٌ مَعروفةٌ، قال ابنُ القَيِّمِ الجَوزيَّةِ: وأكثَرُ هذه المَسائِلِ شائِعةٌ في مَذهَبِ أحمَدَ رَضِيَ اللهُ عنه، وبَعضُها شائِعٌ في مَذهَبِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ومَن قال: إنَّ العُقوبةَ الماليَّةَ مَنسوخةٌ فقد غَلطَ مَذاهبَ الأئِمَّةِ نَقلًا واستِدلالًا، وليس يَسهُلُ دَعوى نَسخِها، وفِعْلُ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ وأكابِرِ الصَّحابةِ لَها بَعدَ مَوتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُبطِلٌ لدَعوى نَسخِها، والمُدَّعونَ للنَّسخِ ليس مَعَهم كِتابٌ ولا سُنَّةٌ ولا إجماعٌ بصَحيحِ دَعواهم). ((تبصرة الحكام)) (2/291-293). ، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [2176] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 208). ((الفتاوى الهندية)) (2/ 167). ، والمالِكيَّةِ [2177] ((الشرح الكبير)) للدردير (4/ 354)، ((منح الجليل)) لعليش (9/ 354 - 355). ، والشَّافِعيَّةِ [2178] ((روضة الطالبين)) للنووي (10/ 174)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/ 21). ، والحَنابِلةِ [2179] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 427)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 124). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
قَولُه تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء: 34] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ سُبحانَه وتعالى أباحَ الضَّربَ عِندَ نُشوزِ النِّساءِ، فكان فيه التَّنبيهُ على التَّعزيرِ [2180] يُنظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/ 191)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/19). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رَجُلًا مِن مُزَينةَ أتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، كَيف تَرى في حَريسةِ الجَبَلِ؟ فقال: هيَ ومِثلُه والنَّكالُ، وليس في شَيءٍ مِنَ الماشيةِ قَطعٌ إلَّا فيما آواه المُراحُ، فبَلَغَ ثَمَنَ المِجَنِّ، ففيه قَطعُ اليَدِ، وما لم يَبلُغْ ثَمَنَ المِجَنِّ ففيه غَرامةُ مِثلَيه، وجَلَداتُ نَكالٍ)) [2181] أخرجه من طرق: النسائي (4959) واللفظ له، وابن ماجه (2596)، وأحمد (6683). حَسَّنه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4959)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6683)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/162). .              
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَعَلَ في سَرِقةِ التَّمرِ إذا كان دونَ نِصابٍ غُرمَ مِثلِه وجَلَداتِ نَكالٍ [2182] يُنظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/ 191)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/19). .
2- عن أبي بُردةَ الأنصاريِّ أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لا يُجلَدُ أحَدٌ فوقَ عَشَرةِ أسواطٍ، إلَّا في حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ)) [2183] أخرجه البخاري (6850)، ومسلم (1708) واللفظ له .                         

انظر أيضا: