الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الخامِسُ: ما يَفعَلُه الإمامُ قَبلَ قِتالِ البُغاةِ


على الإمامِ أن يُراسِلَ البُغاةَ ويَسألَهم عن سَبَبِ خُروجِهم، فإن كان لظُلمٍ مِنه أزالَه، وإن ذَكَروا شُبهةً كَشَفَها، فإن أبَوُا الرُّجوعَ وأصَرُّوا نَصَحَهم ووَعَظَهم ودَعاهم لطاعَتِه، فإن لم يُطيعوا قاتَلَهم، فإذا رَجَعوا ولَو في أثناءِ القِتالِ، أو ألقَوا السِّلاحَ، أوِ انهَزَموا، تَرَكَ قِتالَهم، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [1773] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 293 - 294)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/151)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/266). ، والمالِكيَّةِ [1774] ((الشرح الكبير)) للدردير (4/ 299)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (4/ 428). ، والشَّافِعيَّةِ [1775] نَصَّ الشَّافِعيَّةُ على وُجوبِ مُراسَلةِ الإمامِ لَهم وسُؤالِهم. ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 291 292)، ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (5/73-74). ، والحَنابِلةِ [1776] نَصَّ الحَنابِلةُ على وُجوبِ مُراسَلةِ الإمامِ لَهم وسُؤالِهم. ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 470 - 471)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/162). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/533). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
1- قال اللهُ تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى أمَر بالذِّكرى لِما فيها مِن نَفعٍ للمُؤمِنينَ، والبُغاةُ تُرجَى تَوبَتُهم، ولَعَلَّ شَرَّهم يَندَفِعُ بالتَّذكِرةِ [1777] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 293). .
2- قال اللهُ تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ في دَعوتِهم قَبلَ القِتالِ امتِثالًا للأمرِ الوارِدِ في الآيةِ بالإصلاحِ، ودَعوتُهم وتَذكيرُهم إصلاحٌ [1778] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (3/ 249). .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
أنَّ عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه بَعَثَ عَبدَ اللَّهِ بنَ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما إلى أهلِ حَروراءَ، فدَعاهم إلى التَّوبةِ وناظَرَهم قَبلَ قِتالِهم [1779] لَفظُه: جاءَ عَبدُ اللهِ بنُ شَدَّادٍ فدَخَلَ على عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها ونَحنُ عِندَها جُلوسٌ مَرجِعَه مِنَ العِراقِ لَياليَ قُتِلَ عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه، فقالت له: يا عَبدَ اللهِ بنَ شَدَّادٍ، هَل أنتَ صادِقي عَمَّا أسألُك عنه، تُحَدِّثُني عن هؤلاء القَومِ الذينَ قَتَلَهم عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه؟ قال: وما لي لا أصدُقُكِ؟! قالت: فحَدِّثْني عن قِصَّتِهم، قال: فإنَّ عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه لَمَّا كاتَبَ مُعاويةَ وحَكَمَ الحَكَمانِ خَرَجَ عليه ثَمانيةُ آلافٍ مِن قُرَّاءِ النَّاسِ، فنَزَلوا بأرضٍ يُقالُ لَها حَروراءُ مِن جانِبِ الكوفةِ، وإنَّهم عَتَبوا عليه فقالوا: انسَلَختَ مِن قَميصٍ ألبَسَكَه اللهُ تعالى واسمٍ سَمَّاكَ اللهُ تعالى به، ثُمَّ انطَلَقتَ فحَكَّمتَ في دينِ اللهِ، فلا حُكمَ إلَّا للهِ تعالى، فلَمَّا أن بَلَغَ عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه ما عَتَبوا عليه وفارَقوه عليه... فبَعَثَ إليهم عَليٌّ عَبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فخَرَجتُ مَعَه حتَّى إذا تواسَطْنا عَسكَرَهم قامَ ابنُ الكَوَّاءِ يَخطُبُ النَّاسَ، فقال: يا حَمَلةَ القُرآنِ، إنَّ هذا عَبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فمَن لم يَكُنْ يَعرِفُه فأنا أعرِفُه من كِتابِ اللهِ ما يَعرِفُه به، هذا مِمَّن نَزَلَ فيه وفي قَومِه: قَوْمٌ خَصِمُونَ فرُدُّوه إلى صاحِبِه ولا تُواضِعوه كِتابَ اللهِ، فقامَ خُطَباؤُهم فقالوا: واللهِ لنواضِعَنَّه كِتابَ اللهِ، فإن جاءَ بحَقٍّ نَعرِفُه لنَتَّبِعُنَّه، وإن جاءَ بباطِلٍ لنُبَكِّتَنَّه بباطِلِه، فواضَعوا عَبدَ اللهِ الكِتابَ ثَلاثةَ أيَّامٍ، فرَجَعَ مِنهم أربَعةُ آلافٍ كُلُّهم تائِبٌ فيهمُ ابنُ الكَوَّاءِ، حتَّى أدخَلَهم على عَليٍّ الكوفةَ، فبَعَثَ عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه إلى بَقيَّتِهم، فقال: قد كان مِن أمرِنا وأمرِ النَّاسِ ما قد رَأيتُم فقِفوا حَيثُ شِئتُم حتَّى تَجتَمِعَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بَينَنا وبَينَكُم أن لا تَسفِكوا دَمًا حَرامًا، أو تَقطَعوا سَبيلًا، أو تَظلِموا ذِمَّةً؛ فإنَّكُم إن فعَلتُم فقد نَبَذنا إليكُمُ الحَربَ على سَواءٍ، إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الخائِنينَ، فقالت له عائِشةُ: يا ابنَ شَدَّادٍ فقد قَتَلَهم! فقال: واللهِ ما بَعَثَ إليهم حتَّى قَطَعوا السَّبيلَ، وسَفكوا الدَّمَ، واستَحَلُّوا أهلَ الذِّمَّةِ، فقالت: آللَّهِ! قال: آللَّهِ الذي لا إلَهَ إلَّا هو لَقد كان... أخرجه مِن طُرُقٍ: أحمد (656) واللفظ له، والحاكم (2657)، والبيهقي (16820). صَحَّحه الحاكِمُ وقال: على شَرطِ الشَّيخَينِ، والبيهقي، والألباني في ((إرواء الغليل)) (2459). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الأثَرُ صَريحٌ في أنَّه رَضِيَ اللهُ عنه لم يُقاتِلْهم حتَّى دَعاهم ووعَظَهم وأزالَ شُبهَتَهم [1780] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 294)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/ 405). .

انظر أيضا: