الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: قاطِعُ الطَّريقِ إذا قَتَل فقَط هَل يُقتَلُ حَدًّا أم قِصاصًا؟


قاطِعُ الطَّريقِ إذا قَتَلَ فقَط تعيَّنَ وُجوبُ قَتلِه حَدًّا [1613] أي: لا يَكونُ قَتلُه قِصاصًا، والفَرقُ أنَّ قَتلَه حَدًّا لا يَصِحُّ فيه عَفوُ أولياءِ القَتيلِ، بخِلافِ القَتلِ قِصاصًا. ، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [1614] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 237). ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/73). ، والمالِكيَّةِ [1615] ((التاج والإكليل)) للمواق (8/ 430)، ((منح الجليل)) لعليش (9/342). ، والشَّافِعيَّةِ [1616] ((فتح العزيز بشرح الوجيز)) للرافعي (11/253)، ((روضة الطالبين)) للنووي (10/ 156)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/160)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/6). ، والحَنابِلةِ [1617] ((الإنصاف)) للمرداوي (10/296)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/153). ، وحُكيَ فيه الإجماعُ [1618] قال ابنُ المُنذِرِ: (أجمَعوا أنَّ أمرَ المُحارِبِ إلى السُّلطانِ، وإن قَتلَ المُحارِبِ أخا امرِئٍ أو أباه في حالةِ المُحارَبةِ؛ أنَّ عَفوَ طالِبِ الدَّمِ لا يَجوزُ في حالةِ المُحارَبةِ). ((الإجماع)) (ص: 117 ). وقال الطَّحاويُّ -بَعدَ أن ساقَ حَديثَ العُرَنيِّين-: (ولا اختِلافَ بَينَ أهلِ العِلمِ فيما يُقامُ على مَن كان مِنه مِثلُ الذي كان مِن أولَئِكَ القَومِ؛ أنَّه حَدُّ اللهِ عَزَّ وجَلَّ للمُحارَبةِ التي كانت، لا حَقٌّ للَّذينِ حورِبوا بها، وأنَّ الذينَ حورِبوا بها لَو عَفا أولياؤُهم عَمَّا كان أتى إلى أصحابِهم؛ أنَّ عَفوَهم باطِلٌ). ((شرح مشكل الآثار)) (5/ 71). وقال ابنُ قُدامةَ: (إذا قَتَلَ وأخَذَ المالَ فإنَّه يُقتَلُ ويُصلَبُ، في ظاهرِ المَذهَبِ، وقَتلُه مُتَحَتِّمٌ لا يَدخُلُه عَفوٌ، أجمَعَ على هذا كُلُّ أهلِ العِلمِ). ((المغني)) (9/ 147). وقال القُرطُبيُّ: (لا خِلافَ في أنَّ الحِرابةَ يُقتَلُ فيها مَن قَتَل). ((تفسير القرطبي)) (6/ 154). وقال شَمسُ الدِّينِ ابنُ قُدامةَ: (وإذا قَتَلَ وأخَذَ المالَ فإنَّه يُقتَلُ ويُصلَبُ في ظاهرِ المَذهَبِ، وقَتلُه مُتَحَتِّمٌ لا يَدخُلُه عَفوٌ، أجمَعَ على هذا كُلُّ أهلِ العِلمِ). ((الشرح الكبير)) (10/ 306).  وقال ابنُ تَيميَّةَ: (فمَن كان مِنَ المُحارِبينَ قد قَتَلَ فإنَّه يَقتُلُه الإمامُ حَدًّا، لا يَجوزُ العَفوُ عنه بحالٍ بإجماعِ العُلَماءِ... ولا يَكونُ أمرُه إلى ورَثةِ المَقتولِ، بخِلافِ ما لَو قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا لعَداوةٍ بَينَهما أو خُصومةٍ أو نَحوِ ذلك مِنَ الأسبابِ الخاصَّةِ، فإنَّ هذا دَمُه لأولياءِ المَقتولِ... لأنَّه قَتَله لغَرَضٍ خاصٍّ، وأمَّا المُحارِبونَ فإنَّما يَقتُلونَ لأخذِ أموالِ النَّاسِ، فضَرَرُهم عامٌّ بمَنزِلةِ السُّرَّاقِ، فكان قَتلُهم حَدًّا للَّهِ، وهذا مُتَّفَقٌ عليه بَينَ الفُقَهاءِ). ((مجموع الفتاوى)) (28/ 310-311). وخالَف ابنُ حَزمٍ في ذلك، وقال: عُقوبةُ قاطِعِ الطَّريقِ إذا قَتَلَ فقَط أن يُقتَلَ قِصاصًا، ولِوليِّ المَقتولِ أن يَعفوَ عنه يُنظر: ((المحلى بالآثار)) (11/ 183- 184). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ ناسًا مِن عُرَينةَ قَدِموا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدينةَ فاجتَوَوها، فقال لَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إن شِئتُم أن تَخرُجوا إلى إبِلِ الصَّدَقةِ فتَشرَبوا مِن ألبانِها وأبوالِها، ففعَلوا، فصَحُّوا، ثُمَّ مالوا على الرُّعاةِ فقَتَلوهم، وارتَدُّوا عنِ الإسلامِ، وساقوا ذَودَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبَلَغَ ذلك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبَعَثَ في أثَرِهم، فأُتِيَ بهم، فقَطعَ أيديَهم وأرجُلَهم، وسَمَل أعيُنَهم، وتَرَكَهم في الحَرَّةِ حتَّى ماتوا)) [1619] أخرجه البخاري (5685)، ومسلم (1671) واللَّفظُ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَتَلَ العُرَنيِّين الذينَ قَتَلوا الرِّعاءَ قَتْلَ حِرابةٍ، ولَم يَذكُروا أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جَعَلَ في ذلك خيارًا لأولياءِ الرِّعاءِ [1620] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابنِ حَزمٍ (11/ 181). .
2- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((دَينُ اللهِ أحَقُّ أن يُقضى)) [1621] أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148)، ولفظُ البخاريِّ: عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أُمِّي ماتَت وعليها صَومُ شَهرٍ، أفأقضيه عنها؟ قال: نَعَم، قال: فدَينُ اللهِ أحَقُّ أن يُقضى. .
3- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها -في قِصَّة عِتقِ بَرِيرةَ- أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قَضاءُ اللَّهِ أحَقُّ، وشَرطُ اللَّهِ أوثَقُ)) [1622] أخرجه البخاري (2168)، ولفظُه: عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: جاءَتني بَريرةُ فقالت: كاتَبتُ أهلي على تِسعِ أواقٍ، في كُلِّ عامٍ وَقيَّةٌ، فأعينيني، فقُلتُ: إنْ أحَبَّ أهلُكِ أن أعُدَّها لهم، ويَكونَ ولاؤُكِ لي فعَلتُ، فذَهَبَت بَريرةُ إلى أهلِها، فقالت لهم فأبَوا ذلك عليها، فجاءَت مِن عِندِهم ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالِسٌ، فقالت: إنِّي قد عَرَضتُ ذلك عليهم فأبَوا إلَّا أن يَكونَ الولاءُ لهم، فسَمِعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرَت عائِشةُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: خُذيها واشتَرِطي لهمُ الولاءَ، فإنَّما الولاءُ لمَن أعتَقَ، ففعَلَت عائِشةُ، ثُمَّ قامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النَّاسِ، فحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه، ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ، ما بالُ رِجالٍ يَشتَرِطونَ شُروطًا ليسَت في كِتابِ اللهِ، ما كان مِن شَرطٍ ليسَ في كِتابِ اللهِ فهو باطِلٌ، وإن كان مِئةَ شَرطٍ، قَضاءُ اللهِ أحَقُّ، وشَرطُ اللهِ أوثَقُ، وإنَّما الولاءُ لمَن أعتَقَ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
لمَّا اجتَمَعَ حَقَّانِ أحَدُهما للَّهِ، والثَّاني لوَليِّ المَقتولِ، كان حَقُّ اللهِ تعالى أحَقَّ بالقَضاءِ، ودَينُه أَولى بالأداءِ [1623] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (11/ 289). .
ثانيًا: لكَونِ القَتلِ حَدًّا مِن خالِصِ حَقِّ اللهِ تعالى، لا يَسَعُ فيه عَفوُ غَيرِه [1624] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (4/114). .
ثالِثًا: أنَّ المُحارَبةَ تُفيدُ زيادةً على مُجَرَّدِ القَتلِ، ولا زيادةَ هنا إلَّا التَّحَتُّمُ، فلا يَسقُطُ بعَفوِ مُستَحِقِّ القَوَدِ [1625] يُنظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/6).  .
رابِعًا: للزَّجرِ عنِ الإفسادِ في الأرضِ [1626] يُنظر: ((منح الجليل)) لعليش (9/342). .

انظر أيضا: