الفَرعُ الثَّاني: وَقتُ الصَّلبِ
اختَلَف الفُقَهاءُ في وقتِ الصَّلبِ
[1627] وكَيفيَّةُ الصَّلبِ: أن تُغرَزَ خَشَبةٌ في الأرضِ، بأن يُربَطَ جَميعُه بها بَعدَ وضعِ قدَمَيه على خَشَبةٍ عَريضةٍ مِنَ الأسفلِ، ورَبطِ يَدَيه على خَشَبةٍ عَريضةٍ مِنَ الأعلى. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (4/115). وأمَّا مُدَّةُ الصَّلبِ فذَهَبَ الحَنَفيَّةُ والشَّافِعيَّةُ إلى أنَّها ثَلاثةُ أيَّامٍ، ولا يَبقى أكثَرَ مِن ذلك، وعِندَ الحَنابِلةِ: يُصلَبُ حتَّى يَشتَهرَ أمرُه، ولم نَجِدْ للمالِكيَّةِ نَصًّا صَريحًا في ذلك. يُنظر: ((الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين)) (4/115)، ((روضة الطالبين)) للنووي (10/ 157)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/381). ، على ثَلاثةِ أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: الصَّلبُ يَكونُ بَعدَ القَتلِ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ
[1628] قال ابنُ عُثَيمين: (وقَولُه: «قَتلٌ ثُمَّ صَلبٌ» فيُصلَبُ بَعدَ القَتلِ، أي: نَربِطُه على خَشَبةٍ لَها يَدانِ مُعتَرِضَتانِ، وعودٌ قائِمٌ، فنُقيمُه عليها ونَربِطُه، ونَربِطُ يَدَيه على الخَشَبَتَينِ المَعروضَتَينِ. وقَولُه: «حتَّى يَشتَهرَ» ويَتَّضِحَ أمرُه، ومِثلُ هذا يَشتَهرُ بسُرعةٍ؛ لأنَّه خِلافُ المُعتادِ. وظاهرُ كَلامِ المُؤَلِّفِ بَل صَحيحُه أنَّه يُقتَلُ قَبلَ الصَّلبِ. والقَولُ الثَّاني: أنَّه يُصلَبُ قَبلَ القَتلِ، وفائِدةُ هذا القَولِ أنَّه إذا صُلِبَ وهو حَيٌّ كان ذلك أشَدَّ في حُزنِه؛ لأنَّ المَيِّتَ ما يَشعُرُ بما يَنالُه مِنَ الخِزيِ والعارِ -والعياذُ باللهِ- بخِلافِ الحَيِّ،... فهذا المَيِّتُ إذا صُلِبَ، ومَرَّ به النَّاسُ لا يَشعُرُ بذلك، لَكِن إذا صُلِبَ وهو حَيٌّ، وصارَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عليه ويَنظُرونَ إليه وهو يَنظُرُ إليهم، كان ذلك أشَدَّ في عارِه وخِزيِه. ويَنبَغي أن يُنظَرَ في هذا إلى المَصلَحةِ، فإذا رَأى القاضي أنَّ المَصلَحةَ أن يُصلَبَ قَبلَ أن يُقتَلَ فَعَل). ((الشرح الممتع)) (14/ 371). : الحَنَفيَّةِ
[1629] للحَنَفيَّةِ تَفصيلٌ في المَسألةِ؛ فيَرَونَ إنِ اختارَ الإمامُ صَلْبَه فإنَّه يَصلُبُه ويَقتُلُه مَصلوبًا، وأمَّا إنِ اختارَ قَتلَه وصَلبَه فإنَّه يَقتُلُه ثُمَّ يَصلُبُه مَيِّتًا. ((المبسوط)) للسرخسي (9/ 167)، ((حاشية ابن عابدين على الدر المختار)) (4/115). ، والشَّافِعيَّةِ -في الأظهَرِ-
[1630] ((روضة الطالبين)) للنووي (10/ 157)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/7). ، والحَنابِلةِ
[1631] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/458-459)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/293). ، وقَولُ أشهَبَ مِنَ المالِكيَّةِ
[1632] يُنظر: ((المنتقى شرح الموطأ)) للباجي (7/172)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد الحفيد (4/239). .
الأدِلَّة:ِ أوَّلًا: مِنَ الكتابِ قال اللهُ تعالى:
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33] .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ اللَّهَ تعالى قَدَّم القَتلَ على الصَّلبِ، فدَلَّ على ثُبوتِ التَّرتيبِ بَينَهما؛ فيَجِبُ تَقديمُ الأوَّلِ في اللَّفظِ
[1633] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 147-148). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ 1- عن شَدَّادِ بنِ أوسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((ثِنْتانِ حَفِظتُهما عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحسانَ على كُلِّ شَيءٍ، فإذا قَتَلتُم فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذَبَحتُم فأحسِنوا الذَّبحَ)) [1634] أخرجه مسلم (1955). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَتَّخِذوا شَيئًا فيه الرُّوحُ غَرَضًا)) [1635] أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغةِ الجَزمِ بَعدَ حَديثِ (5515)، وأخرجه مَوصولًا مُسلِمٌ (1957) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ صَلبَه ثُمَّ طَعنَه على الخَشَبةِ ليس قِتلةً حَسَنةً، وهو مِنِ اتِّخاذِ الرُّوحِ مَرمًى وهَدَفًا؛ فلِهذا لا يَحِلُّ
[1636] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (12/294)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/95). .
القَولُ الثَّاني: يُصلَبُ حَيًّا، ثُمَّ يُقتَلُ مَصلوبًا قَبلَ نُزولِه، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ
[1637] ((الشرح الكبير)) للدردير (4/349)، ((منح الجليل)) لعليش (9/334). ، وقَولٌ للحَنَفيَّةِ
[1638] ((المبسوط)) للسرخسي (9/ 167)، ((حاشية ابن عابدين على الدر المختار). ((4/115). ، ووَجهٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ
[1639] ((روضة الطالبين)) للنووي (10/ 157)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/7). ، وهو قَولُ بَعضِ السَّلَفِ
[1640] قال ابنُ حَزمٍ: (وقال اللَّيثُ بنُ سَعدٍ، والأوزاعيُّ، وأبو يوسُفَ: يُصلَبُ حَيًّا ثُمَّ يُطعَنُ بالحَربةِ حتَّى يَموتَ). ((المحلى بالآثار)) (12/294). .
وذلك للآتي: أوَّلًا: لأنَّ الصَّلبَ عُقوبةٌ، وإنَّما يُعاقَبُ الحَيُّ، أمَّا المَيِّتُ فليس مِن أهلِ العُقوبةِ
[1641] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/95). ((المغني)) لابن قدامة (9/ 147). .
ثانيًا: أنَّ الصَّلبَ جَزاءٌ على المُحارَبةِ، فيُشرَعُ في الحَياةِ كَسائِرِ الأجزِيةِ
[1642] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 147). .
ثالِثًا: أنَّ صَلبَ المُحارِبِ بَعدَ قَتلِه يَمنَعُ تَكفينَه ودَفنَه، فلا يَجوزُ
[1643] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 147). .
القَولُ الثَّالِثُ: يُصلَبُ حَيًّا ويُترَكُ حتَّى يَموتَ، ويَيبَسَ كُلُّه ويَجِفَّ
[1644] أي: في حالةِ ما إذا اختارَ الإمامُ الصَّلبَ؛ لأنَّ الحُكمَ عِندَهم إمَّا القَتلُ وإمَّا الصَّلبُ. ، وهو قَولُ الظَّاهريَّةِ
[1645] قال ابنُ حَزمٍ: (قال بَعضُ أصحابِنا الظَّاهريِّينَ: يُصلَبُ حَيًّا ويُترَكُ حتَّى يَموتَ، ويَيبَسَ كُلُّه ويَجِفَّ، فإذا يَبِسَ وجَفَّ أُنزِلَ... فصَحَّ يَقينًا أنَّ اللَّهَ تعالى لم يوجِبْ قَطُّ عليهم حُكمَينِ مِن هذه الأحكامِ، ولا أباحَ أن يُجمَعَ عليهم خِزْيانِ مِن هذه الأخزاءِ في الدُّنيا، وإنَّما أوجَبَ على المُحارِبِ أحَدَها لا كُلَّها، ولا اثنَينِ مِنها ولا ثَلاثةً، فصَحَّ بهذا يَقينًا لا شَكَّ فيه أنَّه إن قُتِلَ فقد حَرُمَ صَلبُه وقَطعُه ونَفيُه، وأنَّه إن قُطِعَ فقد حَرُمَ قَتلُه وصَلبُه ونَفيُه... فصَحَّ يَقينًا أنَّ الواجِبَ أن يُخَيَّرَ الإمامُ صَلبه إن صَلَبَه حَيًّا، ثُمَّ يَدَعَه حتَّى يَيبَسَ ويَجِفَّ كُلُّه؛ لأنَّ الصَّلبَ في كَلامِ العَرَبِ يَقَعُ على مَعنَيَينِ: أحَدُهما: مِنَ الأيدي، والرَّبط على الخَشَبةِ، قال اللهُ تعالى حاكيًا عن فِرعَونَ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، والوَجهُ الآخَرُ: التَّيبيسُ، قال الشَّاعِرُ يَصِفُ فلاةً مُضِلَّةً: بها جِيَفُ الحَسرى فأمَّا عِظامُها فبِيضٌ وأمَّا جِلدُها فصَليبُ، يُريدُ أنَّ جِلدَها يابِسٌ... قال أبو مُحَمَّدٍ رَحِمَه اللهُ: فوجَبَ جَمعُ الأمرَينِ مَعًا، حتَّى إذا أنفَذنا أمرَ اللهِ تعالى فيه وجَبَ به ما افتَرَضَه اللَّهُ تعالى للمُسلِمِ على المُسلِمِ: مِنَ الغُسلِ، والتَّكفينِ، والصَّلاةِ، والدَّفنِ، على ما قد ذَكَرنا قَبلَ هذا). ((المحلى بالآثار)) (12/294 - 296). ، وقَولٌ للشَّافِعيَّةِ
[1646] ((روضة الطالبين)) للنووي (10/ 157). .
الأدِلَّة:ِ أوَّلًا: مِنَ الكتابِ قال اللهُ تعالى:
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33] .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ العُقوباتِ على التَّخييرِ، فلَوِ اختارَ القَتلَ حَرُمَ الصَّلبُ، ولَوِ اختارَ الصَّلبَ حَرُمَ القَتلُ
[1647] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (12/295). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ عن شَدَّادِ بنِ أوسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((ثِنْتانِ حَفِظتُهما عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحسانَ على كُلِّ شَيءٍ، فإذا قَتَلتُم فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذَبَحتُم فأحسِنوا الذَّبحَ)) [1648] أخرجه مسلم (1955). وَجهُ الدَّلالةِ: فيه دَليلٌ على تَحريمِ الجَمعِ بَينَ القَتلِ والصَّلبِ؛ لأنَّه ليس فيه إحسانُ القِتلةِ
[1649] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (12/295). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش