المَسألةُ الثَّانيةُ: مَحَلُّ القَطعِ في حالِ تَكرارِ السَّرِقةِ أكثَرَ مِن مَرَّتَينِ
اختَلَف الفُقَهاءُ في حالِ تَكرارِ السَّرِقةِ أكثَرَ مِن مَرَّتَينِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: إذا تَكَرَّرَتِ السَّرِقةُ مِنَ السَّارِقِ للمَرَّةِ الثَّالِثةِ تُقطَعُ يَدُه اليُسرى، وفي الرَّابِعةِ تُقطَعُ رِجلُه اليُمنى، ويُعَزَّرُ في الخامِسةِ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ
[1454] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/333)، ((منح الجليل)) لعليش (9/294). ، والشَّافِعيَّةِ
[1455] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 301)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/ 155)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/467). ، ورِوايةٌ للحَنابِلةِ
[1456] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 453)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/285-286). ، وهو قَولُ بَعضِ السَّلَفِ
[1457] قال ابنُ قُدامةَ: (عن أحمَدَ أنَّه تُقطَعُ في الثَّالِثةِ يَدُه اليُسرى، وفي الرَّابِعةِ رِجلُه اليُمنى، وفي الخامِسةِ يُعَزَّرُ ويُحبَسُ، ورُويَ عن أبي بَكرٍ وعُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّهما قَطعَا يَدَ أقطَعِ اليَدِ والرِّجلِ، وهذا قَولُ قتادةَ، ومالِكٍ، والشَّافِعيِّ، وأبي ثَورٍ، وابنِ المُنذِرِ). ((المغني)) (9/125). ويَنظُرُ: ((الأوسط)) لابن المُنذِرِ (12/337). ، وقَولُ أكثَرِ العُلَماءِ
[1458] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (وعلى هذا التَّرتيبِ في قَطعِ اليَدِ ثُمَّ الرِّجلِ ثُمَّ اليَدِ ثُمَّ الرِّجلِ على ما وصَفنا: مَذهَبُ جَماعةِ فُقَهاءِ الأمصارِ أهلِ الفِقه والأثَرِ، وهو عَمَلُ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ بالمَدينةِ وغَيرِها، وشَذَّ قَومٌ عنِ الجُمهورِ فلم يَرَوا قَطعَ رِجلِ السَّارِقِ، ولم نَعُدَّه خِلافًا فتَرَكناهم، رُويَ ذلك عن رَبيعةَ، وبِه قال أصحابُ داودَ). ((التمهيد)) (14/383). ويُنظر: ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 453). .
الأدِلَّة:ِ أوَّلًا: مِنَ الكتابِ قَولُه تعالى:
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ [المائدة: 33] .
وَجهُ الدَّلالةِ: دَلَّت هذه الآيةُ على قَطعِ يَدِ ورِجلِ المُحارِبِ مِن خِلافٍ، فتُقاسُ عليه السَّرِقةُ
[1459] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 99). .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ 1- عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: (شَهِدتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قَطَعَ يَدًا بَعدَ يَدٍ ورِجلٍ)
[1460] أخرجه ابن أبي شيبة (28852)، والدارقطني (4/240)، والبيهقي (17345) واللفظ له. صَحَّح إسنادَه على شَرطِ البخاريِّ: الألبانيُّ في ((إرواء الغليل)) (8/91)، وذَكَر ثُبوتَه ابنُ المُنذِرِ في ((الأوسط)) (12/336)، وقال البَيهَقيُّ: مَوصولٌ. .
2- عن صَفيَّةَ ابنةِ أبي عُبَيدٍ: (أنَّ رَجُلًا سَرَقَ على عَهدِ أبي بَكرٍ مَقطوعةً يَدُه ورِجلُه، فأرادَ أبو بَكرٍ أن يَقطَعَ رِجلَه ويَدَعَ يَدَه يَستَطيبُ ويَتَطَهَّرُ بها ويَنتَفِعُ بها، فقال عُمَرُ: لا والذي نَفسي بيَدِه لتَقطَعَنَّ يَدَه الأُخرى. فأمَرَ به أبو بَكرٍ فقُطِعَت يَدُهـ)
[1461] أخرجه البيهقي في ((الخلافيات)) (5024). حَسَّن إسنادَه الألباني في ((إرواء الغليل)) (8/91)، وذكَرَ ثبوتَه ابنُ المنذر في ((الأوسط)) (12/337). .
وَجهُ الدَّلالةِ: في هذه الآثارِ دَلالةٌ على أنَّ القَطعَ يَكونُ أيضًا بَعدَ الثَّانيةِ والثَّالِثةِ، وأنَّه فِعلُ الصَّحابةِ
[1462] يُنظر: ((الأوسط)) لابن المنذر (12/337)، ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 99). .
ثالِثًا: أنَّ هذا مِن فِعلِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما
[1463] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 125). .
رابِعًا: يُعَزَّرُ إذا سَرَقَ بَعدَ المَرَّةِ الرَّابِعةِ؛ لأنَّ القَطعَ ثَبت بالكِتابِ والسُّنَّةِ، ولَم يَثبُتْ بَعدَ ذلك شَيءٌ آخَرُ، والسَّرِقةُ مَعصيةٌ، فتَعَيَّن التَّعزيرُ
[1464] يُنظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/178). .
القَولُ الثَّاني: إذا تَكَرَّرَتِ السَّرِقةُ مِنَ السَّارِقِ بَعدَ المَرَّةِ الثَّانيةِ لا يُقطَعُ، لَكِن يُحبَسُ حتَّى يَتوبَ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ
[1465] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 225). ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/ 66- 67). ، والحَنابِلةِ
[1466] ((الإنصاف)) للمرداوي (10/285-286)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/379). ، وهو قَولُ بَعضِ السَّلَفِ
[1467] قال ابنُ قُدامةَ: (إذا عادَ فسَرَقَ بَعدَ قَطعِ يَدِه ورِجلِه، لم يُقطَعْ مِنه شَيءٌ آخَرُ، وحُبِس. وبِهذا قال عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه، والحَسَنُ، والشَّعبيُّ، والنَّخعيُّ، والزُّهريُّ، وحَمَّادٌ). ((المغني)) (9/125). ويُنظر: ((الأوسط)) لابن المنذر (12/339)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (7/547). .
وذلك للآتي: أوَّلًا: لأنَّ في قَطعِ يَدِه الأُخرى تَفويتًا لمَنفعةِ جِنسِ اليَدِ، وذَهابَ عُضوَينِ مِن شِقٍّ، وحِكمةُ حَبسِه كَفُّه عنِ السَّرِقةِ وتَعزيرُه
[1468] يُنظر: ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/379). .
ثانيًا: لأنَّه لَو جازَ قَطعُ اليَدَينِ لقُطِعَتِ اليُسرى في المَرَّةِ الثَّانيةِ؛ لأنَّها آلةُ البَطشِ كاليُمنى، وإنَّما لم تُقطَعْ للمَفسَدةِ في قَطعِها
[1469] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 125). .
ثالِثًا: لأنَّ ذلك بمَنزِلةِ الإهلاكِ، فإنَّه لا يُمكِنُه أن يَتَوضَّأَ ولا يَغتَسِلَ ولا يَستَنجيَ، ولا يَحتَرِزَ مِن نَجاسةٍ ولا يُزيلَها عنه، ولا يَدفَعَ عن نَفسِه، ولا يَأكُلَ، ولا يَبطِشَ، وهذه المَفسَدةُ حاصِلةٌ بقَطعِها في المَرَّةِ الثَّالِثةِ؛ فوجَبَ أن يُمنَعَ قَطعُها
[1470] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 125). .
رابِعًا: لا يُقطَعُ في الثَّالِثةِ كَما لا يُقطَعُ إذا كانت إبهامُه اليُسرى مَقطوعةً أو شَلَّاءَ
[1471] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 225). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش