الموسوعة الفقهية

المَسألةُ الرَّابِعةُ: هَل يُشتَرَطُ أن يَكونَ الإقرارُ أربَعَ مَرَّاتٍ؟


لا يُشتَرَطُ أن يَكونَ الإقرارُ أربَعَ مَرَّاتٍ، ويَكفي أن يُقِرَّ مَرَّةً واحِدةً [534] قال الشِّنقيطيُّ: (أظهَرُ قَولَي أهلِ العِلمِ في هذه المَسألةِ عِندي هو الجَمعُ بَينَ الأحاديثِ الدَّالَّةِ على اشتِراطِ الأربَعِ، والأحاديثِ الدَّالَّةِ على الاكتِفاءِ بالمَرَّةِ الواحِدةِ؛ لأنَّ الجَمعَ بَينَ الأدِلَّةِ واجِبٌ متى ما أمكنَ؛ لأنَّ إعمالَ الدَّليلَينِ أَولى مِن إلغاءِ أحَدِهما، ووَجهُ الجَمعِ المَذكورِ هو حَملُ الأحاديثِ التي فيها التَّراخي عن إقامةِ الحَدِّ بَعدَ صُدورِ الإقرارِ مَرَّةً على مَن كان أمرُه مُلتَبِسًا في صِحَّةِ عَقلِه واختِلالِه، وفي سُكرِه، وصَحْوِه مِنَ السُّكرِ، ونَحوِ ذلك، وحَملُ أحاديثِ إقامةِ الحَدِّ بَعدَ الإقرارِ مَرَّةً واحِدةً على مَن عُرِفت صِحَّةُ عَقلِه وصَحوُه مِنَ السُّكرِ، وسَلامةُ إقرارِه مِنَ المُبطِلاتِ). ((أضواء البيان)) (5/386). ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [535] ((التاج والإكليل)) للمواق (8/ 394)، ((منح الجليل)) لعليش (9/ 255). ، والشَّافِعيَّةِ [536] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 296)، ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (5/ 84)، (مغني المحتاج)) للشربيني (4/ 149). ، وقَولُ الظَّاهريَّةِ [537] قال ابنُ حَزمٍ: (وبِإقرارِه مَرَّةً يَلزَمُ كُلُّ ما ذَكَرنا مِن حَدٍّ أو قَتلٍ أو مالٍ، وقال الحَنَفيُّونَ: لا يَلزَمُ الحَدُّ في الزِّنا إلَّا بإقرارِ أربَعِ مَرَّاتٍ. وقال أبو يوسُفَ: لا يَلزَمُ في السَّرِقةِ إلَّا بإقرارِ مَرَّتَينِ، وأقاموا ذلك مَقامَ الشَّهادةِ، وقال مالِكٌ والشَّافِعيُّ وأبو سُلَيمانَ كَقَولِنا). ((المحلى بالآثار)) (7/105). ، وقال به بَعضُ السَّلَفِ [538] يُنظر: ((الإشراف على مذاهب العلماء)) لابن المنذر (7/ 263). ، واختارَه ابنُ المُنذِرِ [539] قال ابنُ المُنذِرِ: (الإقرارُ مَرَّةً واحِدةً يوجِبُ الحَدَّ). ((الإشراف)) (7/263). ، والصَّنعانيُّ [540] قال الصَّنعانيُّ: (الحَديثُ دَليلٌ... على أنَّه يَجِبُ الرَّجمُ على الزَّاني المُحصَنِ، وعلى أنَّه يَكفي في الاعتِرافِ بالزِّنا مَرَّةٌ واحِدةٌ كَغَيرِه مِن سائِرِ الأحكامِ). ((سبل السلام)) (4/406). ، والشَّوكانيُّ [541] قال الشَّوكانيُّ: (أمَّا الاستِدلالُ بالقياسِ على شَهادةِ الزِّنا فإنَّه لمَّا اعتُبِرَ فيه أربَعةُ شُهودٍ اعتُبِرَ في إقرارِه أن يَكونَ أربَعَ مَرَّاتٍ، ففي غايةِ الفسادِ؛ لأنَّه يَلزَمُ مِن ذلك أن يُعتَبَرَ في الإقرارِ بالأموالِ والحُقوقِ أن يَكونَ مَرَّتَينِ؛ لأنَّ الشَّهادةَ في ذلك لا بُدَّ أن تَكونَ مِن رَجُلَينِ، ولا يَكفي فيها الرَّجُلُ الواحِدُ، واللَّازِمُ باطِلٌ بإجماعِ المُسلِمينَ، فالمَلزومُ مِثلُه، وإذ قد تَقَرَّرَ لَك عَدَمُ اشتِراطِ الأربَعِ عَرَفتَ عَدَمَ اشتِراطِ ما ذَهَبَت إليه الحَنَفيَّةُ والقاسِميَّةُ مِن أنَّ الأربَعَ لا تَكفي أن تَكونَ في مَجلِسٍ واحِدٍ، بَل لا بُدَّ أن تَكونَ في أربَعةِ مَجالِسَ). ((نيل الأوطار)) (7/ 117). وقال: (وبمَجموعِ ما ذَكَرناه يَتَّضِحُ لَك أنَّ الإقرارَ بالزِّنا مَرَّةً واحِدةً يوجِبُ الحَدَّ مِن غَيرِ فرقٍ بَينَ الرَّجمِ والجَلدِ). ((السيل الجرار)) (ص: 843). ، وابنُ بازٍ [542] قال ابنُ بازٍ: (إذا اعتَرَف بالزِّنا ولَو مَرَّةً، إنِ اعتَرَف يُقامُ عليه الحَدُّ، وإذا كَرَّرَه كَما فعَلَ ماعِزٌ كان أثبَتَ لذلك، والعُلَماءُ اختَلَفوا في هذا؛ فمنهم مَن شَرط أربَعًا، والصَّوابُ أنَّه ما يُشتَرَطُ التَّكرارُ، مَتى ثَبَتَ على الإقرارِ ولم يَرجِعْ عن إقرارِه يُقامُ عليه الحَدُّ، كَما أقامَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ماعِزٍ، وأقامَه على الغامِديَّةِ، ولم يَشتَرِطِ التَّكرارَ، وأقامَه على اليَهوديَّينِ والجُهَنيَّةِ). ((الموقع الرسمي للشيخ ابن باز)). ، وابنُ عُثَيمين [543] قال ابنُ عُثَيمين: (القَولُ الرَّاجِحُ ما ذَهَبَ إليه الجُمهورُ مِن أنَّه إذا أقَرَّ مَرَّةً واحِدةً وهو بالِغٌ عاقِلٌ يَعلَمُ ما يَقولُ، فإنَّه يَثبُتُ عليه الحَدُّ). ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (5/343). وقال: (الأقرَبُ أنَّه يُشتَرَطُ تَكرارُ الإقرارِ، إلَّا إذا كان هناكَ شُبهةٌ، وإلَّا فأكبَرُ بَيِّنةٍ وأكبَرُ دَليلٍ أن يُقِرَّ الفاعِلُ، فكَيف يُقِرُّ وهو بالِغٌ عاقِلٌ يَدري ما يَقولُ ثُمَّ نَقولُ: لا حُكمَ لهذا الإقرارِ؟! فلَو أقَرَّ ثَلاثَ مَرَّاتٍ لا نَعتَبِرُه إقرارًا. فالصَّوابُ: أنَّ الإقرارَ مَرَّةً واحِدةً يَكفي إلَّا مَعَ وُجودِ شُبهةٍ). ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 169). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَن أبي هُرَيرةَ وزَيدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنيِّ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّهما قالا: ((إنَّ رَجُلًا مِنَ الأعرابِ أتى رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أنشُدُك اللَّهَ إلَّا قَضَيتَ لي بكِتابِ اللهِ. فقال الخَصمُ الآخَرُ -وهو أفقَهُ مِنه-: نَعَم، فاقضِ بَينَنا بكِتابِ اللهِ، وأْذَنْ لي. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: قُلْ، قال: إنَّ ابني كان عَسيفًا على هذا، فزَنى بامرَأتِه، وإنِّي أُخبِرتُ أنَّ على ابني الرَّجمَ، فافتَدَيتُ مِنه بمِائةِ شاةٍ ووليدةٍ، فسَألتُ أهلَ العِلمِ فأخبَروني أنَّما على ابني جَلْدُ مِائةٍ، وتَغريبُ عامٍ، وأنَّ على امرَأةِ هذا الرَّجمَ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: والذي نَفسي بيَدِه لأقضيَنَّ بَينَكُما بكِتابِ اللهِ، الوليدةُ والغَنَمُ رَدٌّ، وعلى ابنِك جَلدُ مِائةٍ وتَغريبُ عامٍ، واغْدُ يا أُنَيسُ إلى امرَأةِ هذا، فإنِ اعتَرَفت فارجُمْها، قال: فغَدا عليها فاعتَرَفَت، فأمَر بها رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فرُجِمَت)) [544] أخرجه البخاري (2724، 2725)، ومسلم (1697، 1698) واللفظ له. .
أوجُهُ الدَّلالةِ:
- قَوله: "فإنِ اعتَرَفت"، واعتِرافُ مَرَّةٍ واحِدةٍ يُعتَبَرُ اعتِرافًا، وقد أوجَبَ عليها الرَّجمَ به [545] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 64).  .
- فيه دَليلٌ أنَّ اعتِرافَ الزَّاني مَرَّةً واحِدةً بالزِّنا يوجِبُ عليه الحَدَّ ما لم يَرجِعْ؛ لقَولِه: "فإنِ اعتَرَفت فارجُمْها"، ولم يَقُلْ: إنِ اعتَرَفت أربَعَ مَرَّاتٍ [546] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (9/93).  .
ثانيًا: لأنَّ الحَدَّ حَقٌّ، فيَثبُتُ باعتِرافِ مَرَّةٍ واحِدةٍ، كَسائِرِ الحُقوقِ [547] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 64).  .

انظر أيضا: