المَبحَثُ الثَّالثُ: حُكمُ إقامةِ الحَدِّ
من أصابَ ذَنبًا فيه حَدٌّ مِن حُدودِ اللهِ الخالصةِ
[5] أمَّا إذا لم يَكُنِ الحَدُّ خالصًا للهِ، كَحَدِّ القَذفِ، فإنَّه لا يُقامُ عليه الحَدُّ إلَّا بطَلبٍ مِنَ المَقذوفِ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ، وسيَأتي الكَلامُ عن هذه المَسألةِ. ، وبَلغَ أمرُه إلى الحاكِمِ، وجَب إقامَةُ الحَدِّ عليه، ولا تَجوزُ الشَّفاعةُ لإسقاطِ الحَدِّ عنه.
الأدِلَّةُ:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِقَولُ اللهِ تعالى:
وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النور: 2] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ المَنهيَّ عنه المُؤمِنونَ مِن أخذِ الرَّأفةِ بهما هو تَركُ إقامةِ حَدِّ اللهِ عليهما، فأمَّا إذا أُقيمَ عليهما الحَدُّ فلم تَأخُذْهم بهما رَأفةٌ في دينِ اللهِ
[6] يُنظر: ((تفسير الطبري)) (19/ 91)، ((تفسير ابن كثير)) (6/ 7). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أنَّ قُرَيشًا أهَمَّهم شَأنُ المَرأةِ التي سَرَقَت في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غَزوةِ الفتحِ، فقالوا: مَن يُكَلِّمُ فيها رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقالوا: ومَن يَجتَرِئُ عليه إلَّا أُسامةُ بنُ زَيدٍ حِبُّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأُتيَ بها رَسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكَلَّمَه فيها أُسامةُ بنُ زَيدٍ، فتَلَوَّن وَجهُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أتشفَعُ في حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ؟ فقال له أُسامةُ: استَغفِرْ لي يا رَسولَ اللهِ، فلمَّا كان العَشيُّ قامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاختَطَبَ فأثنى على اللهِ بما هو أهلُه، ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ، فإنَّما أهلَكَ الذينَ مِن قَبلِكُم أنَّهم كانوا إذا سَرَقَ فيهمُ الشَّريفُ تَرَكوه، فإذا سَرَقَ فيهمُ الضَّعيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وإنِّي والذي نَفسي بيَدِه لو أنَّ فاطِمةَ بنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَت لقَطَعتُ يَدَها، ثُمَّ أمَر بتلك المَرأةِ التي سَرَقَت فقُطِعَت يَدُها )) [7] أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:في الحَديثِ تَحريمُ الشَّفاعةِ في الحَدِّ بَعدَ رَفعِه إلى الإمامِ
[8] يُنظر: ((طرح التثريب)) للعراقي (8/ 34). .
2- عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((تَعافَوُا الحُدودَ قَبلَ أن تَأتوني به، فما أتاني مِن حَدٍّ فقد وجَبَ)) [9] أخرجه من طرق: عبد الرزاق (20905) واللفظ له، وابن أبي شيبة (28661)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (37/305). صحَّحه أبو حاتم الرازي في ((علل ابن أبي حاتم)) (2045)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/274). .
وَجهُ الدَّلالةِ:في الحَديثِ جَوازُ العَفوِ عنِ الحَدِّ ما لم يَبلُغِ السُّلطانَ
[10] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 87). .
3- عن صَفوانَ بنِ أُميَّةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه:
((سُرِقَت خَميصَتُه مِن تَحتِ رَأسِه وهو نائِمٌ في مَسجِدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخَذَ اللِّصَّ فجاءَ به إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَر بقَطعِه، فقال صَفوانُ: أتَقطَعُه؟ قال: فهَلَّا قَبلَ أن تَأتيَني به تَرَكتَهـ)) [11] أخرجه من طرق: أبو داود (4394) باختلاف يسير، والنسائي (4884) واللفظ له، وابن ماجه (2595) بنحوه. صحَّحه ابنُ العربي في ((القبس)) (3/1024)، ومحمد بن عبد الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (4/563)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/652)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4884)، وصحَّحه بطرقه وشاهده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4394). .
وَجهُ الدَّلالةِ:في الحَديثِ دَلالةٌ على أنَّ الحُدودَ إذا بَلَغَتِ السُّلطانَ لم يَجُزْ أن يُتَشَفَّعَ فيها، ولا أن يَترُكَ إقامَتَها
[12] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (5/ 342). .
ثالثًا: مِنَ الآثارِعن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما قال: (... ومَن حالت شَفاعَتُه دونَ حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ، فقدَ ضادَّ اللَّهَ في حُكمِه ...)
[13] أخرجه من طرق: عبد الرزاق (20905) واللفظ له، وابن أبي شيبة (28661)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (37/305). صحَّحه أبو حاتم الرازي في ((علل ابن أبي حاتم)) (2045)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/274). .
وَجهُ الدَّلالةِ:فيه تَحريمُ الشَّفاعةِ في الحَدِّ بَعدَ رَفعِه إلى الإمامِ
[14] يُنظر: ((طرح التثريب)) للعراقي (8/ 34). .
رابعًا: مِنَ الإجماعِنَقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ بَطَّالٍ
[15] قال ابنُ بَطَّالٍ: (أجمَعَ العُلماءُ أنَّه مَن أصابَ ذَنبًا فيه حَدٌّ أنَّه لا تَرفعُه التَّوبةُ، ولا يَجوزُ للإمامِ العَفوُ عنه إذا بَلغَهـ). ((شرح صحيح البخاري)) (8/ 242). ، وابنُ حَزمٍ
[16] قال ابنُ حَزمٍ: (عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: «لا عَفوَ عنِ الحُدودِ ولا عن شَيءٍ مِنها بَعدَ أن تَبلُغَ الإمامَ، فإنَّ إقامَتَها مِنَ السُّنَّةِ»، فهذا قَولُ صاحِبٍ لا يُعرَفُ له مُخالِفٌ). ((المحلى بالآثار)) (12/ 266). ، وابنُ عَبدِ البَرِّ
[17] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (السُّلطانُ لا يَحِلُّ له أن يُعَطِّلَ حَدًّا مِنَ الحُدودِ التي للهِ عَزَّ وجَلَّ إقامَتُها عليه إذا بَلَغَته، كما ليسَ له أن يَتَجَسَّسَ عليها إذا استَتَرَت عنه، وبأنَّ الشَّفاعةَ في ذَوي الحُدودِ حَسَنةٌ جائِزةٌ وإن كانتِ الحُدود فيها واجِبةً إذا لم تَبلُغِ السُّلطانَ، وهذا كُلُّه لا أعلمُ فيه خِلافًا بَينَ العُلماءِ). ((الاستذكار)) (7/ 540). ، وابنُ قُدامةَ
[18] قال ابنُ قُدامةَ: (أجمَعوا على أنَّه -يَعني الحَدَّ- إذا بَلغَ الإمامَ لم تُجِزِ الشَّفاعةُ فيهـ). ((المغني)) (9/ 139). ، وأبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ
[19] قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (تَحريمُ الشَّفاعةِ في الحُدودِ إذا بَلغَتِ الإمامَ، فيَحرُمُ على الشَّافِعِ وعلى المُشَفِّعِ، وهذا لا يُختَلَفُ فيهـ). ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (5/ 78). ، والنَّوَويُّ
[20] قال النَّوَويُّ: (أجمَعَ العُلماءُ على تَحريمِ الشَّفاعةِ في الحَدِّ بَعدَ بُلوغِه إلى الإمامِ). ((شرح النووي لصحيح مسلم)) (11/ 186). ، والشَّوكانيُّ
[21] قال الشَّوكانيُّ: (العَفوُ بَعدَ الرَّفعِ إلى الإمامِ لا يَسقُطُ به الحَدُّ، وهو مُجمَعٌ عليهـ). ((نيل الأوطار)) (7/ 155). .
خامِسًا: لأنَّ عَفوَ الأولياءِ في إسقاطِ الحُدودِ باطِلٌ؛ لأنَّ هذا حَدٌّ يُقامُ لحَقِّ اللهِ تعالى، فلا عَفوَ فيه للأولياءِ، ولا للإمامِ أيضًا؛ لأنَّه ليسَ بصاحِبِ الحَقِّ، بَل هو نائِبٌ في الاستيفاءِ، فهو في العَفوِ كغَيرِه
[22] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (9/ 167). .
مطلبٌ: مَسؤوليَّةُ إقامةِ الحُدودِ مَسؤوليَّةُ إقامةِ الحُدودِ على الإمامِ أو نائِبِه
[23] هذا بالنِّسبةِ للأحرارِ، وأمَّا العبيدُ فهناك خلافٌ في إقامةِ السَّاداتِ الحدودَ على عبيدِهم. قال ابنُ رُشدٍ: (وأمَّا من يقيمُ هذا الحَدَّ فاتَّفَقوا على أنَّ الإمامَ يُقيمُه، وكذلك الأمرُ في سائِرِ الحدودِ. واختلفوا في إقامةِ السَّاداتِ الحُدودَ على عَبيدِهم). ((بداية المجتهد ونهاية المقتصد)) (4/ 228). .
الأدِلَّةُ:أوَّلًا: مِنَ الإجماعِنَقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ رُشدٍ
[24] قال ابنُ رُشدٍ: (وأمَّا من ُيقيمُ هذا الحَدَّ فاتَّفَقوا على أنَّ الإمامَ يُقيمُه، وكذلك الأمرُ في سائرِ الحدودِ). ((بداية المجتهد ونهاية المقتصد)) (4/ 228). ، وابنُ العَرَبيِّ
[25] قال ابنُ العَرَبيِّ: (لا ِخِلافَ أنَّ المخاطَبَ بهذا الأمرِ بالجَلدِ الإمامُ ومن ناب عنهـ). ((أحكام القرآن)) (3/ 334). ، والرَّازيُّ
[26] قال الرَّازيُّ: (احتَجَّ المتكَلِّمون بهذه الآيةِ في أنَّه يَجِبُ على الأمَّةِ أن يَنصِبوا لأنفُسِهم إمامًا مُعَيَّنًا، والدَّليلُ عليه أنَّه تعالى أوجَبَ بهذه الآيةِ إقامةَ الحَدِّ على السُّرَّاقِ والزُّناةِ، فلا بُدَّ من شَخصٍ يكونُ مخاطَبًا بهذا الخِطابِ، وأجمعت الأمَّةُ على أنَّه ليس لآحادِ الرَّعيَّةِ إقامةُ الحدودِ على الجُناةِ، بل أجمعوا على أنَّه لا يجوزُ إقامةُ الحدودِ على الأحرارِ الجُناةِ إلَّا للإمامِ). ((تفسير الرازي)) (11/ 356). ، والقُرطبيُّ
[27] قال القُرطُبيُّ: (لا ِخِلافَ أنَّ المُخاطَبَ بهذا الأمرِ الإمامُ ومَن ناب مَنابَهـ). ((تفسير القرطبي)) (12/ 161). .
ثانيًا: أنَّ الحَدَّ حَقُّ اللهِ تعالى؛ لأنَّ المقصودَ منه إخلاءُ العالَمِ عن الفَسادِ، فيستوفيه من هو نائبٌ عن الشَّرعِ، وهو الإمامُ أو نائِبُه
[28] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/11)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/297). .
ثالثًا: أنَّه يَفتَقِرُ إلى الاجتهادِ، ولا يُؤمَنُ فيه الحَيفُ؛ فوجَبَ تفويضُه إليه
[29] يُنظر: ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/336). .
رابعًا: أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يُقيمُ الحُدودَ في حياتِه، وكذا خُلَفاؤه مِن بَعدِه، ويقومُ نائِبُ الإمامِ فيه مَقامَه
[30] يُنظر: ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/336). .