موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الثَّاني: سَجْعُ الكُهَّانِ


كانَ في الجاهِليَّةِ أشْخاصٌ يَزعُمون أنَّهم يَعلَمونَ الغَيْبَ، وأنَّ لهم خُدَّامًا مِن الجِنِّ، يُسمَّى الواحِدُ مِنهم رَئِيًّا، فكانوا يُخْبِرونَهم بالأمورِ المُسْتقبَلةِ، ويُطْلِعونَهم على الغَيْبِ؛ ولِهذا كانَ لِهؤلاء الكَهَنةِ تَأثيرٌ كَبيرٌ في النَّاسِ، وكانَتْ لهم رِياسةٌ في قَوْمِهم؛ فكانَتِ القَبيلةُ تَصدُرُ عن رَأيِهم، ويَأخُذونَ بقَوْلِهم في الحُروبِ والغَزواتِ والأسْفارِ، ويُفسِّرونَ لهم رُؤاهم وأحْلامَهم.
ويَدُلُّ على تلك المَكانةِ أنَّ بَني أسَدٍ لمَّا ثارَتْ على حُجْرٍ -أبي امْرِئِ القَيْسِ- وتَمكَّنَ مِنهم حُجْرٌ، وأُسِرَ مِنهم عَدَدٌ كَبيرٌ، مِنهم عَبيدُ بنُ الأبْرَصِ الشَّاعِرُ، أخَذَ عَبيدٌ يَعْتذِرُ إليه ويَمدَحُه بالشِّعْرِ حتَّى عَفا عنهم ورَحِمَهم، وبيْنَما هم في طَريقِهم إلى بِلادِهم تَنَبَّأ لهم كاهِنُهم عَوْفُ بنُ رَبيعةَ الأسَديُّ، فقالَ: يا عِبادي، قالوا: لَبَّيكَ ربَّنا، قالَ: "مَن المَلِكُ الأصْهَب، الغَلَّابُ غيْرُ المُغلَّب، في الإبِلِ كأنَّها الرَّبْرَب، لا يَعلَقُ رَأسَه الصَّخَب، هذا دَمُه ينْثَعِب، وهذا غدًا أوَّلُ مَن يَسلُب؟ قالوا: مَن هو يا ربَّنا؟ قالَ: لولا أن تَجيشَ نَفْسٌ جاشِية، لأخْبَرْتُكم أنَّه حُجْرُ ضاحِية" فرَكِبوا إليه كلَّ صَعْبٍ وذَلولٍ حتَّى أتَوا إليه فقَتَلوه [286] ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/ 109)، ((الأغاني)) للأصفهاني (9/ 58). .
وكما يَظهَرُ مِن كَلامِ عَوْفِ بنِ رَبيعةَ الأسَديِّ، فإنَّ الكُهَّانَ قدِ اعْتَمدوا في كَلامِهم على السَّجْعِ، واخْتِيارِ الكَلِماتِ الغامِضةِ الَّتي لا يَبينُ معَها المَعنى المُرادُ، ويُكثِرونَ مِن اسْتِعمالِ الرَّمْزِ في كَلامِهم.
وقد كانَ أكْثَرُ هؤلاء الكُهَّانِ في اليَمَنِ يَعيشونَ في بُيوتِها الوَثَنيَّةِ، ورُبَّما قَطَعَ العَربيُّ مَسيرةَ أيَّامٍ ولَيالٍ ليَأخُذَ رَأيَ أحَدِ أولئك الكُهَّانِ الَّذين انْتَشرَ أمْرُهم واشْتَهرَ كَلامُهم؛ فمِن هؤلاء شِقُّ بنُ الصَّعْبِ، وسَطيحُ بنُ رَبيعةَ الذِّئْبيُّ، وسَوادُ بن قارِبٍ الدَّوْسيُّ الَّذي أدْرَكَ الإسلامَ وأسْلَمَ، والمَأمورُ الحارِثيُّ وغيْرُهم.
ومِن الكاهِناتِ النِّساءِ: الشَّعْثاءُ، وكاهِنةُ ذي الخَلَصةِ، والكاهِنةُ السَّعْديَّةُ، والزَّرْقاءُ بِنْتُ زُهَيْرٍ، والغَيْطلةُ القُرَشيَّةُ، وزَبْراءُ كاهِنةُ بَني رِئامٍ [287] يُنظر: ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 38)، ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (1/ 420). .
ومِن سَجْعِهم قَوْلُ سَلَمةَ بنِ أبي حيَّةَ، المَشْهورِ بعُزَّى سَلَمةَ: "والأرْضِ والسَّماء، والعُقابِ والصَّقْعاء، واقِعةٌ ببَقْعاء، لقد نَفَرَ المَجْدُ بَني العَشْراء للمَجْدِ والسَّناء" [288] يُنظر: ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 241)، ((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي صفوت (1/ 100). .
وقَوْلُ زَبْراءَ كاهِنةِ بَني رِئامٍ تُحذِّرُهم مِن عَدُوٍّ مُقبِلٍ عليهم: "واللَّوْحِ الخافِق، واللَّيلِ الغاسِق، والصَّباحِ الشَّارِق، والنَّجْمِ الطَّارِق، والمُزْنِ الوادِق، إنَّ شَجَرَ الوادي ليأدو خَتْلًا، ويَحرُقُ أنْيابًا عُصْلًا، وإنَّ صَخْرَ الطَّوْدِ ليُنذِرُ ثُكْلًا، لا تَجِدون عنه مَعْلًا" [289] ((أمالي القالي)) (1/ 127)، ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (1/ 421). .
وقد كَرِهَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذا السَّجْعَ وعابَه؛ فقد رَوى أبو هُرَيرةَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ قَضى في امْرَأتَينِ مِن هُذَيلٍ اقْتَتلَتا، فرَمَتْ إحْداهُما الأخرى بحَجَرٍ، فأصابَ بَطْنَها وهي حامِلٌ، فقَتلَتْ وَلَدَها الَّذي في بَطْنِها، فاخْتَصَموا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقَضى أنَّ دِيَةَ ما في بَطْنِها غُرَّةٌ؛ عبْدٌ أو أمَةٌ، فقالَ وَلِيُّ المَرْأةِ الَّتي غَرِمَتْ: كيف أغْرَمُ -يا رَسولَ اللهِ- مَن لا شَرِبَ ولا أكَل، ولا نَطَقَ ولا اسْتَهَل، فمِثْلُ ذلك يُطَل! فقالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((إنَّما هذا مِن إخْوانِ الكُهَّانِ )) [290] أخرجه البخاري (5758)، ومسلم (1681). .
وليس في هذا الحَديثِ ذَمٌّ للسَّجْعِ مُطلَقًا، وإنَّما اسْتِقباحٌ لِما أتى به المُتكلِّمُ؛ حيثُ تَكلَّفَ التَّسْجيعَ والإتْيانَ به على غيْرِ الطَّبْعِ والسَّليقةِ، وإنَّما يُعابُ السَّجْعُ إذا احْتاجَ مُتكلِّفُه إلى تَنْقيصِ المَعنى أو زِيادتِه، فالَّذي فاتَه مِن المَعنى يَقبُحُ، وتَرْكُ السَّجْعِ لا يَقبُحُ، فيكونُ حينَئذٍ السَّجْعُ قَبيحًا لاسْتِلزامِ القُبْحِ، وهو ما قالَ فيه الإمامُ عبْدُ القاهِرِ الجُرْجانيُّ: (ولن تَجِدَ أيْمَنَ طائِرًا، وأحْسَنَ أوَّلًا وآخِرًا، وأهْدى إلى الإحْسانِ، وأجْلَبَ للاسْتِحسانِ؛ مِن أن تُرسِلَ المَعانيَ على سَجيَّتِها، وتَدَعَها تَطْلُب لأنْفُسِها الألْفاظَ؛ فإنَّها إذا تُرِكَتْ وما تُريدُ لم تَكْتَسِ إلَّا ما يَليقُ بها، ولم تَلبَسْ مِن المَعارِضِ إلَّا ما يَزِينُها، فأمَّا أن تَضَعَ في نفْسِك أنَّه لا بُدَّ مِن أن تُجنِّسَ أو تَسجَعَ بلَفْظَينِ مَخْصوصَينِ، فهو الَّذي أنت مِنه بعَرَضِ الاسْتِكراهِ، وعلى خَطَرٍ مِن الخَطَأِ والوُقوعِ في الذَّمِّ) [291] ((أسرار البلاغة)) لعبد القاهر الجرجاني (ص: 14). .

انظر أيضا: