موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الثَّالِثُ: الوَصايا


اعْتادَ العَربُ أنَّ الإنْسانَ إذا أحَسَّ بدُنُوِّ أجَلِه أو عَزَمَ على السَّفَرِ أو نَحْوِ ذلك يوصي أهْلَه بما فيه صَلاحُهم ورُشْدُهم، ويُرَغِّبُهم في الفَضائِلِ والتَّخلُّقِ بالأخْلاقِ القَويمةِ. وقد تَنوَّعَتْ طُرُقُ أداءِ تلك الوَصايا ونَقْلِها بيْنَ المُشافَهةِ والكِتابةِ؛ ولِهذا فإنَّ الوَصايا جَمَعَتْ في خَصائِصِها خَصائِصَ الرِّسالةِ المَكْتوبةِ والخُطبةِ الشَّفَويَّةِ.
وقد أُلِّفَتْ بعضُ الكُتُبِ في الوَصايا، مِثلُ كِتابِ الوَصايا لدِعْبِلٍ الخُزاعيِّ، والوَصايا لأبي حاتِمٍ السِّجِسْتانيِّ، ووَصايا المُلوكِ وأبْناءِ المُلوكِ للوَشَّاءِ، كما أفْرَدَ لها المُؤلِّفونَ في الأدَبِ أبْوابًا أو فُصولًا في كُتُبِهم للحَديثِ عنها وبَيانِ خَصائِصِها وذِكْرِ أمْثِلتِها.
ومِن وَصايا العَربِ وَصيَّةُ امْرأةِ عَوْفِ بنِ مُحَلِّمٍ الشَّيْبانيِّ توصي ابْنتَها حينَ حُمِلَتْ لزَوْجِها الحارِثِ بنِ عَمْرٍو مَلِكِ كِنْدةَ فقالَتْ: (أيْ بُنيَّةُ: إنَّ الوَصيَّةَ لو تُرِكَتْ لفَضْلِ أدَبٍ تُرِكَتْ لذلك مِنك، ولكنَّها تَذْكِرةٌ للغافِلِ، ومَعونةٌ للعاقِلِ، ولو أنَّ امْرأةً اسْتَغْنَتْ عنِ الزَّواجِ لغِنى أبَوَيْها، وشِدَّةِ حاجتِها إليها، كنْتِ أغْنى النَّاسِ عنه، ولكنَّ النِّساءَ للرِّجالِ خُلِقْنَ، ولهنَّ خُلِقَ الرِّجالُ.
أيْ بُنيَّةُ: إنَّكِ فارَقْتِ الجَوَّ الَّذي مِنه خرَجْتِ، وخَلَّفْتِ العُشَّ الَّذي فيه دَرَجْتِ، إلى وَكْرٍ لم تَعْرِفيه، وقَرينٍ لم تَألَفيه، فأصْبَحَ بمِلْكِه عليكِ رَقيبًا ومَليكًا، فكوني له أمَةً يكنْ لك عَبْدًا وَشيكًا.
يا بُنيَّةُ: احْمِلي عنِّي عشْرَ خِصالٍ تكنْ لك ذُخْرًا وذِكْرًا: الصُّحْبةُ بالقَناعة، والمُعاشَرةُ بحُسْنِ السَّمْعِ والطَّاعة، والتَّعهُّدُ لمَوقِعِ عَيْنِه، والتَّفقُّدُ لمَوضِعِ أنْفِه؛ فلا تَقَعُ عَيْنُه مِنك على قَبيح، ولا يَشَمُّ مِنك إلَّا أطْيَبَ ريح، والكُحْلُ أحْسَنُ الحُسْنِ، والماءُ أطْيَبُ الطِّيبِ المَفْقودِ، والتَّعهُّدُ لوَقْتِ طَعامِه، والهُدوءُ عنه عنْدَ مَنامِه؛ فإنَّ حَرارةَ الجوعِ مَلْهَبة، وتَنْغيصَ النَّوْمِ مَغْضَبة، والاحْتِفاظُ ببَيْتِه ومالِه، والإرْعاءُ على نفْسِه وحَشَمِه وعيالِه؛ فإنَّ الاحْتِفاظَ بالمالِ حُسْنُ التَّقْدير، والإرْعاءَ على العِيالِ والحَشَمِ جَميلُ حُسْنِ التَّدْبير، ولا تُفْشي له سِرًّا، ولا تَعْصي له أمْرًا؛ فإنَّكِ إن أفْشَيْتِ سِرَّه لم تَأمَني غَدْرَه، وإن عَصَيْتِ أمْرَه أوْغَرْتِ صَدْرَه، ثُمَّ اتَّقي مِن ذلك الفَرَحَ إن كانَ تَرِحًا، والاكْتِئابَ عنْدَه إن كانَ فَرِحًا؛ فإنَّ الخَصْلةَ الأُولى مِن التَّقْصير، والثَّانيةَ مِن التَّكْدير، وكوني أشَدَّ ما تكونينَ له إعْظامًا، يكنْ أشَدَّ ما يكونُ لكِ إكْرامًا، وأشَدَّ ما تكونينَ له مُوافَقة، يكنْ أطْوَلَ ما تكونينَ له مُرافَقة، واعْلَمي أنَّكِ لا تَصِلينَ إلى ما تُحبِّينَ، حتَّى تُؤْثري رِضاه على رِضاكِ، وهَواه على هَواكِ فيما أحْبَبْتِ وكَرِهْتِ، واللهُ يَخِيرُ لكِ) [292] ((مجمع الأمثال)) للميداني (2/262)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (7/ 90). .
وكذلك وَصيَّةُ ذي الإصْبَعِ العَدْوانيِّ يوصي ابنَه أُسَيْدًا وقد حضَرَتْه المَنيَّةُ، فقالَ: (يا بُنيَّ إنَّ أباكَ قد فَنيَ وهو حَيٌّ، وعاشَ حتَّى سَئِمَ العَيْشَ، وإنِّي موصيكَ بما إن حَفِظْتَه بلَغْتَ في قَوْمِك ما بلَغْتُه، فاحْفَظْ عنِّي: ألِنْ جانِبَك لقَوْمِك يُحبِّوك، وتَواضَعْ لهم يَرْفَعوك، وابْسُطْ لهم وَجْهَك يُطيعوك، ولا تَسْتأثِرْ عليهم بشيءٍ يُسَوِّدوك، وأكْرِمْ صِغارَهم كما تُكرِمُ كِبارَهم، يُكرِمْك كِبارُهم ويَكبَرْ على مَودَّتَك صِغارُهم، واسْمَحْ بمالِك، وارْحَمْ حَريمَك، وأعْزِزْ جارَك، وأعِنْ مَن اسْتَعانَ بك، وأكْرِمْ ضَيْفَك، وأسْرِعِ النَّهْضةَ في الصَّريخِ؛ فإنَّ لك أجَلًا لا يَعْدوك، وصُنْ وَجْهَك عن مَسألةِ أحَدٍ شيئًا، فبذلك يَتِمُّ سُؤْدُدُك) [293] ((الأغاني)) للأصفهاني (3/ 69)، ((التذكرة الحمدونية)) لبهاء الدين ابن حمدون (2/ 40). .
خَصائِصُ الوَصايا في الجاهِليَّةِ:
تَتَنوَّعُ خَصائِصُ الوَصايا الجاهِليَّةِ بيْنَ الخَصائِصِ الفَنِّيَّةِ والفِكريَّةِ؛ فأبْرَزُ الخَصائِصِ الفَنِّيَّةِ يتَمثَّلُ في:
1- التَّنْويعِ بيْنَ اللُّغةِ المُرْسَلةِ الخالِيةِ مِن المُحسِّناتِ البَديعيَّةِ، وبيْنَ الأُسلوبِ المُسجَّعِ، والاعْتِمادِ على الجُمَلِ القَصيرةِ المُتوازِنةِ.
2- ضَعْفِ الرَّوابِطِ بيْنَ الأفْكارِ، وعَدَمِ التَّسَلْسُلِ بيْنَ الجُمَلِ على أساسِ المَعاني.
3- الاعْتِمادِ على الأُسلوبِ الإنْشائيِّ مِن أمْرٍ ونَهْيٍ واسْتِفهامٍ.
4- الاعْتِمادِ على الأُسلوبِ المُوجَزِ الَّذي لا مَجالَ فيه للحَشْوِ والإطْنابِ.
أمَّا الخَصائِصُ الفِكريَّةُ فمِنها:
1- الحَثُّ على مَكارِمِ الأخْلاقِ والعِفَّةِ والتَّحلِّي بالخِصالِ الكَريمةِ.
2- انْعِكاسُ أثَرِ التَّفْكيرِ الهادِئِ العَميقِ في حَلِّ المُشْكلاتِ، واسْتِنباطِ المَعاني مِن التَّجارِبِ الحَيَّةِ العَمليَّةِ، وليس مِن الفَلسفةِ النَّظَريَّةِ [294] ينظر: ((الأدب الجاهلي: قضاياه أغراضه أعلامه فنونه)) لغازي طليمات وعرفات الأشقر (ص: 561)، ((النثر في العَصْر الجاهلي)) لهاشم مناع (ص: 148). .

انظر أيضا: