موسوعة اللغة العربية

المبحث الثَّاني: البِداياتُ الجادَّةُ للدِّراساتِ اللُّغويَّةِ


أ- في الغَرْبِ:
ظهَرت في الغَربِ مَدْرستانِ أساسيَّتانِ هما: اليُونانيَّةُ واللَّاتينيَّةُ، وكان اليُونانيُّون هم أصْحابَ السَّبْقِ في العَمَلِ اللُّغويِّ، كما ارْتَبطَ عَمَلُهم بالفَلسَفةِ دون ارْتِباطٍ بالواقِعِ اللُّغويِّ الحيِّ على ألْسِنةِ النَّاسِ عامَّةً، وربَّما كان الدَّافِعُ لـهم وَراءَ ذلك هو الاتِّجاهَ الفَلسفيَّ لفِكرةِ المِثالِ أو الأنْموذَجِ، وما زال تَأثيرُ الفِكرِ الفَلسفيِّ على الدَّرسِ اللُّغويِّ واضِحًا في أعْمالِهم أو فيما نُقِل عنهم.
أمَّا بشأنِ اللَّاتِينيِّين فقد حذَوا حَذْوَ اليُونانيِّين بِدايةً، ثمَّ انْصَرفوا للُغتِهم وعَدُّوها مِثالًا يُحْتَذى، فحاولوا الوُصولَ إلى مَعاييرَ وقَواعِدَ عامَّةٍ يُمكِنُ أنْ تُطبَّـقَ على كلِّ اللُّغاتِ، فحاولوا وَضْعَ ما يُسمَّى بالقَواعِدِ العالَميَّةِ.
وانْطَلقتْ كلُّ هذه الأفْكارِ في أنْحاءِ أوروبَّا، فكان لها الأثَرُ الواضِحُ في الدَّرْسِ اللُّغويِّ، وما زال بعضُها جاريًا في مَدارِسِ العِلمِ هناك.
ب- في الشَّـرقِ:
وإذا نظَرنا إلى الشَّرقِ وجَدنا مَدْرستَينِ بارِزتَينِ ارْتَبطَ فيهما الدَّرسُ اللُّغويُّ بالدِّينِ وكُتبِه المُقدَّسةِ، وهما:
الهُـنودُ، وارْتَبطَ الدَّرسُ اللُّغويُّ عندَهم بكِتابـِهم المُقدَّسِ، والعَربُ، وارْتَبطَ الدَّرسُ اللُّغويُّ عندَهم بالقُرآنِ الكَريمِ.
وقد تَفوَّق الهُنودُ على اليُونانيِّينَ واللَّاتينيِّينَ في مَجالِ الدِّراسةِ اللُّغويَّةِ، بفَضْلِ الدِّراسةِ الوَصْفيَّةِ للُّغةِ السَّنسِكريتيَّةِ (لُغة الدِّينِ والأدَبِ عندَ الـهُنودِ) [63] ((البحث اللُّغوي عند الهنود)) أحمد مختار عمر (ص: 84). ، واعْتُبِر كِتابُ بانيني: Panini (القَرْن الرَّابِع ق. م): (القَوانينُ الصَّوتيَّةُ والنَّحْويَّةُ لِلُّغةِ السَّنسِكريتيَّةِ) طَفرَةً في الدَّرْسِ اللُّغويِّ، وبِدايةً جادَّةً لدِراسةِ اللُّغةِ دِراسةً وَصْفيَّةً حتَّى اعْتَبره عُلَماءُ اللُّغةِ المُحدَثون رائِدًا للنُّحاةِ الوَصْفيِّين القُدَماءِ [64] يُنظَر: ((العربية وعلم اللغة الحديث)) محمد محمد داود (ص: 78). .
أمَّا بشأنِ العَربِ؛ فمِنَ الأمانةِ العِلميَّةِ أنْ نَلفِتَ الانْتِباهَ إلى حَقيقةٍ مُهِمَّةٍ، وهي أنَّ جُهودَ العَربِ في الدَّرْسِ اللُّغويِّ، مِنَ القَرْنِ السَّابِعِ حتَّى القَرْنِ العاشِرِ المِيلاديِّ، تُمثِّلُ مُدَّةً سَخيَّةً في نَشْأةِ عُلومِ اللُّغةِ عند العَربِ، وقد نشَأتْ تحت تَأثيرِ دافِعَينِ واضِحَينِ همـا:
- خِدمَةُ الإسْلامِ والمُحافَظةُ على القُرآنِ الكَريمِ من اللَّحْنِ، وتَيسيرُ سُبُلِ فَهْمِه وقِراءتِه على غيرِ العَربِ ممَّن دخَلوا في الإسْلامِ مِنَ الأعاجِمِ. ويَذكُرُ الإمامُ السُّيوطيُّ أنَّه قد نشَأ أكْثَرُ مِن خَمْسينَ نوعًا مِن عُلومِ اللُّغةِ الَّتي قامَتْ لخِدمةِ القُرآنِ الكَريمِ [65] يُنظَر: ((الإتقان في علوم القرآن)) السيوطي (1/ 18). .
- خِدمَةُ اللُّغةِ العَربيَّةِ؛ لِلتَّغلُّبِ على الثُّنائيَّةِ المَوجودةِ في الواقِعِ اللُّغويِّ الحيِّ على ألْسِنةِ العَربِ، المُتمثِّلِ في تيَّارَيـنِ:
1- الفُصْحى: وهي النَّموذَجُ الَّذي يُمثِّلُ اللُّغةَ العامَّةَ أوِ المُشْترَكةَ، الَّتي يُمكِنُ أنْ تَتعامَلَ بها كلُّ القَبائِلِ في إطارِ مَعاييرَ مُحدَّدةٍ مِنَ القَواعِدِ الصَّوتيَّةِ والصَّرفيَّةِ والتَّركيبيَّةِ والدَّلاليَّةِ.
2- اللَّهَجاتُ المُختلِفةُ: الَّتي تَخْتلِفُ باخْتِلافِ البِيئاتِ والقَبائِلِ العَربيَّةِ، فنَشِطتْ همَّةُ العُلَماءِ العَربِ لجَمْعِ المادَّةِ اللُّغويَّةِ لِلُّغةِ العَربيَّةِ عن طَريقِ الرِّوايةِ الشَّفويَّةِ مِن أهْلِ اللُّغةِ الأصْليِّينَ، ووضَعوا حُدودًا لعَمليَّةِ جَمْعِ المادَّةِ؛ فحدَّدوا البِيئةَ المَكانيَّةَ وكذلك الزَّمانيَّةَ، وحدَّدوا القَبائِلَ الَّتي يَصِحُّ الأخْذُ عنها.
ج- اسْتِكمالُ الدِّراساتِ في الغَربِ:
معَ أواخِرِ القَرْنِ الثَّامِنَ عشَرَ المِيلاديِّ، وبِداياتِ القَرْنِ التَّاسعَ عشَرَ انْتَقلتِ الدِّراساتُ اللُّغويَّةُ إلى عَهْدٍ جَديدٍ، وكان مِن أبْرزِ هذه الجُهودِ الَّتي تُمثِّلُ نُقْطةَ تَحوُّلٍ في الدَّرسِ اللُّغويِّ جُهودُ اللُّغويِّ الألْمانيِّ جريم (Jacob Grimm/1787- 1863)، الَّذي نظَر في اللَّهَجاتِ مُعْتمِدًا على اللِّسانِ الحيِّ المَنْطوقِ، بعد أنْ كان البَحْثُ اللُّغويُّ يَعْتمِدُ على اللُّغةِ المَكْتوبةِ في القَديمِ، وكان المَنهَجُ فيها خَليطًا مِنَ الأفْكارِ: مِعياريٌّ وتاريخيٌّ، ووَصْفيٌّ، دون تَفْريقٍ بينَها.
ثمَّ سَيطرتِ الدِّراساتُ اللُّغويَّةُ المُقارِنةُ على الفِكرِ الأوروبِّيِّ في أواخِرِ القَرْنِ التَّاسِعَ عشَرَ وأوائِلِ القَرْنِ العِشرينَ، وظلَّ البَحْثُ في الدَّرسِ اللُّغويِّ على هذا النَّحْوِ يُعاني الخَلْطَ المَنهَجيَّ، حتَّى جاء اللُّغويُّ السُّويسريُّ دي سوسير (ت 1913م)، الَّذي يُعَدُّ في نَظرِ مُعظَمِ اللُّغويِّين الرَّائِدَ الأوَّلَ لعِلمِ اللُّغةِ الحَديثِ، ولا يَعْني هذا أنَّه المُبدِعُ لكلِّ الأفْكارِ اللُّغويَّةِ؛ فقد سبَقه اللُّغويُّون الَّذين جاؤوا قبلَه بأفْكارٍ لُغويَّةٍ، لكنَّها جاءتْ مُتناثِرةً في بُطونِ الكُتُبِ أو غيرَ واضِحةِ المَنهَجِ.
وقد ظهَرت أفْكارُ دي سوسير في كِتابٍ جمَع مادَّتَه تَلامِذتُه، ونُشِـر في عام 1916 تحت عُنوانِ: ((مُحاضَراتٌ في عِلمِ اللُّغةِ العامِّ))، وهو كِتابٌ يَتَّسمُ بالصُّعوبةِ والتَّعقيدِ، ويُلاحَظُ فيه تَجاوُزاتٌ غيرُ قَليلةٍ في اسْتِخدامِ المُصْطلَحاتِ؛ فهناك اضْطِرابٌ في اسْتِخدامِها بالكِتابِ يَصِلُ إلى حدِّ التَّضارُبِ.
وتَدورُ أفْكارُ دي سوسير ومَبادِئُه اللُّغويَّةُ -في عُمومِها- حولَ هَدفَينِ:
الأوَّلُ: تَصْحيحُ بعضِ الآراءِ الزَّائِفةِ الَّتي كانت تَشيعُ عند التَّقليديِّينَ مِنَ اللُّغويِّينَ.
الثَّاني: مُحاوَلةُ تَخْليصِ البَحْثِ اللُّغويِّ مِن تَبَعيَّتِه للعُلومِ الأخرى.
ويَتلخَّصُ فِكرُ دي سوسير في أنَّ اللُّغةَ حَقيقةٌ اجْتِماعيَّةٌ تَخضَعُ للتَّحْليلِ العِلميِّ، على أنَّها نِظامٌ بِنْيويٌّ تَتحدَّدُ قِيمةُ كلِّ عُنصُرٍ فيه بالإشارَةِ إلى وَظيفتِه، أي: إلى عَلاقتِه بالعَناصِرِ الأخرى في هذا النِّظامِ، بالإشارَةِ إلى خَواصِّه اللُّغويَّةِ؛ فيزيائيَّةً كانت أو سَيكولوجيَّةً، ولِذلك يَعودُ الفَضْلُ لكِتابِ دي سوسير في إرْساءِ أرْبعةِ أسُسٍ، هي:
التَّفريقُ بين المَنهَجِ الوَصْفيِّ والتَّاريخيِّ تَفْريقًا مُحدَّدًا وواضِحًا؛ فقد ميَّز بين البُعْدَينِ الأساسيِّينِ للدِّراسةِ اللُّغويَّةِ:
البُعْدُ الأوَّلُ: الدِّراسةُ التَّزامُنيَّةُ.
البُعْدُ الثَّاني: هو الدِّراسةُ التَّاريخيَّةُ، الَّتي تُعالِجُ فيها تارِيخيًّا عَوامِلَ التَّغيُّرِ الَّتي تَخضَعُ لـها اللُّغاتُ في مَسيرَةِ الزَّمنِ.
التَّفريقُ بين اللُّغةِ والكَلامِ، بوَصْفِ اللُّغةِ نِظامًا مُجرَّدًا مُخْتزَنًا في ذِهْنِ الجَماعةِ اللُّغويَّةِ، في حِينِ أنَّ الكَلامَ نَشاطٌ فَرديٌّ تَطْبيقيٌّ للنِّظامِ اللُّغويِّ.
تَحْديدُ العَلاقةِ بين الدَّالِّ والمَدلولِ؛ (فِكرةُ الاعْتِباطيَّةِ والعُرفيَّةِ في اللُّغةِ).
التَّركيزُ على اللُّغةِ المُعيَّنةِ في إطار النَّظرةِ البِنائيَّةِ (التَّركيبيَّةِ) [66] يُنظَر: ((العربية وعلم اللغة الحديث)) محمد محمد داود (ص: 77-81)، ((اللغة العربية النشأة والملامح والمناهج والصلة بالعلوم الأخرى)) أمين ناصر (ص: 2- 3). .

انظر أيضا: