موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: تاريخُ عِلمِ اللُّغةِ


في تاريخِ أيِّ عِلمٍ -كما هـو الشَّأنُ في الدِّراساتِ التَّاريخيَّةِ الأكْثَرِ عُموميَّةً- هناك إغْراءٌ قَويٌّ لرُؤيةِ واسْتِخلاصِ أفْكارٍ رَئيسيَّةٍ (themes) شائِعةٍ، أو أنْماطٍ يَتَضمَّنُها ويُثبِتُها تَعاقُبُ الوَقائِعِ والنَّشاطاتِ، وهذه الأفْكارُ الرَّئيسيَّةُ والأنْماطُ حيثُما تُكشَفْ بوُضوحٍ فإنَّه يُمكِنُها أنْ تُثبِتَ التَّفْسيراتِ الواعيةَ لرِواياتِ المُؤرِّخينَ، كما أنَّ هناك ارْتِباطاتٍ مُحدَّدةً شَديدةَ الوُضوحِ تُعبِّرُ عن نفْسِها، وعلى سَبيلِ المِثالِ: فإنَّ إخْفاقَ العُصورِ القَديمةِ في الغَربِ في تَطْويرِ نَظريَّةٍ مُناسِبةٍ لعِلمِ اللُّغةِ التَّاريخيِّ -على الرَّغمِ مِنَ الافْتِتانِ الواضِحِ بدِراسةِ الاشْتِقاق- قد يكونُ مُرْتبِطًا بإخْفاقِ المُؤرِّخينَ القُدَماءِ في تَصوُّرِ حَقيقةِ التَّغيُّرِ بوَصْفِها أكْثَرَ مِن مُجرَّدِ ظُهورِ مـا هـو مَـوجودٌ دائِمًا بالفِطْرةِ في النِّظامِ السِّياسيِّ أو في شَخْصيَّةِ الإنْسانِ، ويَجبُ أنْ تكونَ أهْدافُنا أكْثَرَ حَداثَةً على الأقلِّ في المَرحلةِ الحاليَّة؛ لمَعْرفتِنا بمُعظَمِ تاريخِ عِلمِ اللُّغةِ وبَحْثِنا فيه، وأهَميَّةُ تاريخِ أيِّ عِلمٍ هي أنَّه يُساعِدُ على وَضْعِ الحاضِرِ في وَضْعِه الصَّحيحِ. وعُلَماءُ اللُّغةِ اليومَ ليسوا وَحْدَهم في إنْجازاتِهم ونِقاشاتِهم ومُشْكِلاتِهم، وهم وَرَثةُ أكْثَرِ مِن ألْفَي عامٍ مِنَ التَّساؤُلِ الَّذي لم تُخفِقْ في إثارَتِه في العُقولِ المُدقِّقةِ المُتسائِلةِ غَرابةُ الكَلامِ الإنْسانيِّ، وجَمالُه، وأهَمِّيَّتُه [58] يُنظَر: ((موجز تاريخ علم اللغة)) لروبنز (ص: 22). .
ولمَّا كانتِ اللُّغةُ قَديمةً قِدَمَ الإنْسانِ، فالاهْتِمامُ بـها مُوغِلٌ في القِدَمِ أيضًا، فلقد شغَل العُلَماءُ تَفْكيرَهم لعِدَّةِ قُرونٍ بالبَحْثِ عن نَشْأةِ اللُّغةِ الإنْسانيَّةِ، وما أقْدَمُ لُغةٍ في العالَمِ؟ وهل نشَأتْ جَميعُ اللُّغاتِ مِن مَصْدرٍ واحِدٍ (اللُّغةِ الأمِّ)؟ وما اللُّغةُ المُسْتخدَمةُ في الجنَّةِ؟ وكيف تَتابَعتِ الكَلماتُ منذُ البَـدْءِ؟
تَساؤُلاتٌ عَديدةٌ مرَّتْ بالتَّجارِبِ والنِّقاشِ الَّذي يَعودُ إلى ما يَقرُبُ مِن ثَلاثةِ آلافِ عامٍ مضَتْ، ولم يَتوصَّلْ أحدٌ للإجابَةِ الشَّافيةِ عن هذه التَّساؤُلاتِ الحائِرةِ حولَ نَشْأةِ اللُّغةِ، وأخَذتِ الأجْيالُ المُتعاقِبةُ تَطرَحُ التَّساؤُلاتِ نفْسَها دون الوُصولِ إلى إجابَةٍ يَقينيَّةٍ.
وفي القَرْنِ التَّاسِعَ عشَرَ -في عامِ 1866م- أصْدرَتِ الجَمْعيَّةُ اللُّغويَّةُ بباريسَ قانونًا يَمنَعُ مُناقَشةَ هذا المَوضوعِ في النَّدَواتِ واللِّقاءاتِ العِلميَّةِ الَّتي تُقامُ بشأنِ اللُّغةِ؛ وذلك لأنَّ عِلمَ اللُّغةِ الحَديثَ يَتناوَلُ اللُّغةَ تَناوُلًا عِلميًّا يَقومُ على المَنهَجيَّةِ والدِّقَّةِ والتَّعامُلِ معَ الواقِعِ اللُّغويِّ الحَيِّ (المَنْطوق)، أمَّا المَسائِلُ الَّتي هي في عِلمِ الغَيبِ، وبخاصَّةٍ تلك اللُّغاتُ الَّتي انْدَثرتْ؛ فالكَلامُ فيها مِن قَبيلِ الظَّنِّ، فهو احْتِماليٌّ وليس يَقينيًّا.
لذلك عدَل عِلمُ اللُّغةِ الحَديثُ عنِ البَحْثِ في نَشْأةِ اللُّغةِ إلى دِراسةِ اللُّغةِ في واقِعِها الحَيِّ المَنْطوقِ، لكنْ معَ ذلك اسْتَمرَّتِ المُحاوَلاتُ، وعاد الاهْتِمامُ -في العَصْرِ الحاضِرِ- بالتَّعرُّفِ على نَشْأةِ اللُّغةِ، وذلك في ضَوءِ اكْتِشافاتِ الآثارِ والتِّقنيَّاتِ الحَديثةِ للتَّحْليلِ، الَّتي تُوحي إلينا ببعضِ المَلامِحِ عن مَوضوعِ نَشْأةِ اللُّغةِ.
وفيما يَأتي تَفْصيلٌ لأهَمِّ مَراحِلِ تاريخِ عِلمِ اللُّغةِ:

انظر أيضا: