موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الثَّالثُ والعِشرونَ: تَجاهُلُ العارِفِ


وهُو: "سَوقُ المَعْلومِ مَساقَ غيرِه لنُكتَةٍ بَلاغيَّةٍ"، أو: "سُؤالُ المُتكلِّمِ عمَّا يَعلَمُه حَقيقةً، تَجاهُلًا منه لنُكتَةٍ".
وهذه النُّكتَةُ البَلاغيَّةُ هي الَّتي يُطلِقُ عليها البَلاغيُّونَ دَواعيَ التَّجاهُلِ، وهِي إحْدى أمورٍ؛ مِثلُ:
1- التَّوْبيخِ:
كقولِ ليلى بنْتِ طَريفٍ في رِثاءِ أخيها الوَليدِ: الطويل
أيَا شَجَرَ الخابُورِ ما لَكَ مُورِقًا
كأنَّك لم تَجزَعْ على ابنِ طَريفِ
فإنَّها تعلَمُ تَمامًا أنَّ الشجَرَ لا يَتأثَّرُ بموْتِ أحدٍ ولا حَياتِه، لكنْ كأنَّها أرادَتْ تَوبيخَ الشَّجرِ على عدَمِ حُزنِه على أخيها الَّذي حزِنتِ الدُّنيا على فقْدِه.
2- الحبِّ والتَّدلُّهِ:
كقولِ الشَّاعِرِ: البسيط
باللهِ يا ظَبَياتِ القاعِ قُلنَ لنا
لَيلايَ منْكنَّ أمْ ليلى مِنَ البشَرِ
فالشَّاعِرُ يسألُ الغِزْلانَ عن مَحْبوبتِه ليلى: أهِي مِن جنْسِ الغِزْلانِ أم مِن جنْسِ البشَرِ؟! يُريدُ بِهذا أنْ يُثبِتَ لمَحْبوبتِه ما في الغَزالِ مِن حُسْنِ العَينِ، واعْتدالِ القَوامِ وجَمالِه، وبَهاءِ المَنظَرِ، في أمْتنِ تَوْكيدٍ وأرْوعِ صُورةٍ.
3- المُبالَغةِ في المدْحِ:
كقول البُحْتُريِّ: البسيط
ألَمْعُ بَرقٍ سَرى أم ضَوءُ مِصْباحِ
أمِ ابْتِسامتُها بالمَنْظرِ الضَّاحي
فالشَّاعِرُ هنا لا يَسْتفسِرُ عن ذلك النُّورِ؛ فهُو يَرى ابْتِسامتَها أمامَه، إلا أنَّه لشدَّةِ مُشابهةِ ابْتِسامتِها للَمْعِ البَرقِ وضَوءِ المِصْباحِ، ادَّعى أنَّه شكَّ في هذا النُّورِ الحاصِلِ.
ومِثلُه قولُ حسَّانَ بنِ ثابِتٍ رضِي اللهُ عنه: الكامل
أنَسيمُ رِيقِك أخْتَ آلِ العَنبرِ
هذا أم اسْتَنْشَأْتِه مِن مِجْمَرِ
وبَديدُ ثَغرِك ما أرى أم لَمْحةٌ
مِن بارِقٍ أم مَعْدِنٌ مِن جَوهَرِ
فحسَّانُ في البيتِ الأوَّل يُبالِغُ في وصْفِ رائِحةِ فمِ المَحْبوبةِ، حتَّى إنَّه لَيُشبِّهُه في صُورةِ المُستفهِمِ الجاهِلِ حَقيقةَ الأمرِ، أهُو رائِحةُ رِيقِها أم بَخورٌ تَصاعَدَ مِن مِجْمَرٍ؟!
وفي البيتِ الثَّاني كذلك يَتساءَلُ مُسْتفهِمًا عن هذا الضِّياءِ الَّذي تَبدَّى أمامَه؛ أهُو مِنِ ابْتِسامةِ ثَغْرِها وجَلاءِ أسْنانِها أم لَمْحةُ برقٍ أم بَريقُ مَعدِنٍ انْعكسَ عليه ضَوءُ الشَّمسِ؟!
والشَّاعِرُ في البيتَينِ ليس بجاهِلٍ حَقيقةَ الأمرِ، وإنَّما أورَدَ تَشبيهَه على صُورةِ الاسْتِفهامِ ليكونَ أبلَغَ وأحْلى.
4- المُبالَغةِ في الذَّمِّ:
كقولِ زُهَيرِ بنِ أبي سُلمَى: الوافر
وَما أدْري وسَوفَ إٍخالُ أدْري
أقَومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ
فالشَّاعِرُ هنا يذكُرُ أنَّه لا يَعلَمُ هل آلُ حِصْنٍ رِجالٌ أم نِساءٌ، وهذا ذمٌّ لهم، كأنَّه يقولُ: هم نِساءٌ، أو: لا تَبدو عليهم أماراتُ الرُّجولةِ.
5- التَّعريضِ:
كقَولِه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعلَمُ يَقينًا أنَّه على الهُدى وأنَّ المُكذِّبينَ له على ضَلالٍ، فكان هذا تَعريضًا منه بحالِهم وإشارةً إلى ما تُخْفيه صُدورُهم.
6- الإيناسِ:
كقَولِه تعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه: 17] ؛ فإنَّه سُبحانه وتعالى يَعلَمُ ويَرى ما في يدِ مُوسى، لكنَّه أراد بذلك إيناسَه وطَمْأنةَ قلْبِه؛ فإنَّ المَقامَ مَقامُ خوْفٍ ورَهْبةٍ وهَيْبةٍ [450] ينظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/ 275)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 346). .

انظر أيضا: