موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: أقْسامُ المُبالَغةِ


تَنقسِمُ المُبالَغةُ بحسَبِ الوصْفِ المُدَّعى إلى تَبْليغٍ وإغْراقٍ وغُلُوٍّ:
1- التَّبليغُ:
وهُو أنْ يكونَ الوصْفُ المُدَّعى مُمْكنًا عقْلًا وعادَةً، كقولِ امْرِئِ القَيْسِ في وصْفِ فَرسِه الطويل:
فعادى عِداءً بينَ ثَوْرٍ ونَعْجةٍ
دِراكًا ولم يُنضَحْ بماءٍ فيُغسَلِ
يذكُرُ امْرُؤُ القَيسِ أنَّ فرسَه قد طارَدَ ثورًا ونَعْجةً في شَوطٍ واحِدٍ، وأنَّه قد أدرَكَهما معًا دُونَ أنْ يَنالَه شيءٌ مِنَ التَّعبِ، وأنَّه لم يَعرَقْ عَرَقًا يَسيلُ على جَسدِه كالماءِ الَّذي يَغْسِلُه، أيْ: صادَهما دُونَ مَشقَّةٍ مُفْرِطةٍ، وهُو أمرٌ مُمكِنٌ عقْلًا وعادَةً.
ومنه قولُه تعالى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] ؛ فلوِ اكْتَفى القُرآنُ بقَولِه: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ لأدَّى الغَرَضَ، وهُو شدَّةُ الظَّلامِ الحاصِلِ مِن تَلاطُمِ الأمْواجِ وتَتابُعِها، لكنَّ تَرادُفَ الصِّفاتِ بعد ذلك أفادَ المُبالَغةَ في وصْفِ ضلَالِ الكُفَّارِ وجَهْلِهم، وأنَّه ضَلالٌ مُطبِقٌ أحاط بهم مِن كلِّ ناحِيةٍ، وتَواترتْ طَبقاتُه بعضُها فوقَ بعضٍ. والآيةُ مِن أمْثِلةِ التَّبليغِ؛ إذْ كونُ الظَّلامِ حاصِلًا مِن هذه الأمورِ مُمْكنٌ عقْلًا وعادَةً.
ومنه أيضًا قولُ ابنِ نُباتَةَ: البسيط
لم يُبْقِ جودُك لي شيئًا أؤمِّلُه
تَركْتَني أصْحَبُ الدُّنيا بِلا أمَلِ
فالشَّاعِرُ يُبالِغُ في وصْفِ كرَمِ المَمْدوحِ وجُودِه؛ فيَصفُه بأنَّه قد حقَّق له كلَّ أمانيه، حتَّى صار بلا غايَةٍ يُؤمِّلُ الحُصولَ عليها، وأصبَحَ في الدُّنيا بلا أمَلٍ يَرجو أنْ يُمْهِلَه العُمرُ وتُواتيه الفُرصةُ لاقْتِناصِه. وهذا المَعْنى وإنْ كان فيه مُبالَغةٌ إلَّا أنَّه مُمْكِنٌ عقْلًا وعادَةً.
ومنه قولُ ابنِ الرُّوميِّ في البُخْلِ: الكامل
لو أنَّ قصرَك يا ابنَ يُوسُفَ مُمْتَلٍ
إبَرًا يَضيقُ بها فَناءُ المَنزِلِ
وأتاك يُوسفُ يَسْتعيرُك إبْرةً
ليَخيطَ قدَّ قَميصِه لم تَفعَلِ
فالشَّاعِرُ هنا يُبالِغُ في وصْفِ ابنِ يُوسفَ بالبُخلِ، ويذكُرُ أنَّه لو كان قصْرُه مُمْتلئًا بالإبَرِ، ثمَّ أتاه أبوه يَسْتعيرُه إبْرةً يَخيطُ بها قَميصَه لَبخِلَ بها على أبيه. وهذا أمرٌ مُمْكنٌ عقْلًا وعادَةً.
2- الإغْراقُ:
وهُو أنْ يكونَ الوصْفُ المُدَّعَى مُمْكنًا عقْلًا، لكنَّه غيرُ مُمكِنٍ عادَةً بأنْ يُجَوِّزَ العقْلُ حُدوثَه، لكنَّه لم يَحدُثْ مِثلُه مِن قبلُ، وتأبى العادَةُ حُدوثَ مِثلِه. ولذلك يُعرَّفُ الإغْراقُ بأنَّه: الإفْراطُ في وصْفِ الشَّيءِ بما يُمكِنُ عقْلًا ويُستبعَدُ وُقوعُه عادَةً.
ومنه قولُ الشَّاعرِ الوافر:
ونُكرِمُ جارَنا ما دام فينا
ونُتْبِعُه الكَرامةَ حيثُ مالَا
فإكْرامُ الجارِ مِنَ الأخْلاقِ الحَميدةِ، وهُو مِن واجِباتِ الإيْمانِ، غيْرَ أنَّ إكْرامَ الجارِ بعدَ انْتِقالِه إلى مَكانٍ آخَرَ وإرْسالَ الأمْوالِ إليه بيْنَ الفَيْنةِ والأخرى بعدَ ذلك مِنَ المُبالَغةِ، وهِي مِنَ الأمورِ المُمْكنةِ عقْلًا، غيْرَ أنَّها ليست مُمكِنةً عادَةً، وهذا هو الإغْراقُ.
ومنه قولُ امْرِئِ القَيسِ في وصْفِ رائِحةِ فمِ صاحِبتِه في اللَّيلِ: المتقارب
كأنَّ المُدامَ وصَوبَ الغَمامِ
ورِيحَ الخُزامى ونشْرَ القُطُرْ
يُعَلُّ به بَرْدُ أنْيابِها
إذا غرَّد الطَّائِرُ المُستَحِرْ
فالشَّاعِرُ يذكُرُ أنَّ رائِحةَ فَمِ صاحِبتِه أطْيَبُ ما يكونُ في مثلِ هذه الأوْقاتِ الَّتي تكونُ فيها رائِحةُ أفْواهِ النَّاسِ كَريهةً عادَةً، فيُشبِّهُ رائِحةَ فَمِها برِيحِ الخمْرِ المَشوبَةِ بالماءِ النَّقيِّ ورِيحِ الخُزامى [424] الخُزامى: جمعُ: خزاماة، وهي: بَقلةٌ طَيِّبةُ الرائحةِ. ينظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (7/ 101)، ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (5/ 105). ونشْرِ القُطُرِ [425] القُطُر: العودُ الَّذي يُتبخَّرُ به. ينظر: ((الجيم)) لأبي عمرو الشيباني (3/ 116)، ((لسان العرب)) لابن منظور (5/ 71). .
فإذا كانت هذه رائِحةَ فمِها في هذا الوقتِ، فكيف بها في النَّهارِ وأوائِلِ اللَّيلِ وأوْقاتِ المُؤانَسةِ واللَّهْوِ؟!
وقد يأتي الإغْراقُ مَصْحوبًا بأداةٍ تُخفِّفُ مِنِ اسْتِبعادِه أوِ اسْتِحالتِه، وتُقرِّبُه إلى دَرجةِ الإمْكانِ، وهي مِثلُ: "كاد، لو، لولا، قد...".
فمن ذلك قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
ولو أنَّ ما بي مِن جوًى وصَبابَةٍ
على جمَلٍ لم يَدخُلِ النَّارَ كافِرُ
هذا البيتُ له تعلُّقٌ بقَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف: 40] ؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ أخبَرَ أنَّ الكُفَّارَ لن يَدخُلوا الجنَّةَ، ولن تُقبَلَ دَعواتُهم ولا أعْمالُهم حتَّى يَدخُلَ الجَمَلُ في ثُقْبِ الإبْرةِ، وهذا مُسْتحيلٌ، فكان ما تَعلَّق به مُسْتحيلًا أيضًا، وهو دُخولُ الكافِرينَ للجنَّةِ.
أخَذ الشَّاعرُ هذا المَعْنى مِنَ الآيةِ، ثمَّ رتَّب عليه أنَّ ما به مِنَ الصَّبابةِ والعِشْقِ وما ترتَّب عليهما من النُّحولِ والرِّقَّةِ لو كانا بجَمَلٍ لاسْتَطاع أنْ يَعبُرَ مِن سَمِّ الخِياطِ، ولتَرتَّب على ذلك دُخولُ جَميعِ الكفَّارِ الجنَّةَ.
ودُخولُ الجَمَلِ في إبْرةِ الخِياطِ مُسْتحيلٌ عادَةً، لكنَّه مُمكِنٌ عقْلًا؛ إذِ اللهُ تعالى على كلِّ شيءٍ قَديرٌ، فلو شاء لرقَّق الجَمَلَ حتَّى يَدخُلَ في الثُّقبِ، أو وسَّع الثُّقْبَ حتَّى يتَّسِعَ للجمَلِ، وهذا غايةٌ في الإغْراقِ.
ومنه أيضًا قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
ولو لم يكُنْ في كَفِّه غيْرُ نفْسِه
لَجادَ بها فلْيتَّقِ اللهَ سائلُه
فالشَّاعِرُ هنا يُبالِغُ في وصْفِ كرَمِ مَمْدوحِه، وهُو أنَّه لو لم يكنْ يملِكُ غيْرَ نفْسِه، ثمَّ طلَبَها أحدُ السَّائِلينَ لَما بَخِل بها عليه. وهذا وإنْ كان مُمْكِنًا عقْلًا إلَّا أنَّه مُستبعَدٌ أو مُسْتحيلٌ عادةً، فلم يَتجرَّأْ أحدٌ على قتْلِ نفْسِه إرْضاءً لأحدٍ، ولم يَطلُبْ أحدٌ مِن غيرِه أنْ يقتُلَ نفْسَه.
على أنَّ القُرآنَ الكَريمَ لم يَسْتعمِلْ مِنَ الإغْراقِ إلَّا ما كان فيه تلك الأدَواتُ، ولم يأتِ فيه شيءٌ مِنَ الإغْراقِ الخالي مِنَ الأدواتِ التَّخفيفيَّةِ؛ فمِن ذلك قولُه تعالى: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ [النور: 43] ؛ فإنَّه لا يَستحيلُ عقْلًا أنْ يَذهَبَ البرْقُ بالبصَرِ، لكنَّه مُمتنِعٌ عادَةً، والَّذي زاد وجْهَ الإغْراقِ هنا جَمالًا هو تَقريبُه إلى الصِّحَّةِ بلفْظةِ «يكاد»، واقْترانُ هذه الجُملةِ بها هو الَّذي صرَفها إلى الحَقيقةِ، فقُلِبتْ مِنَ الامْتِناعِ إلى الإمْكانِ.
والقِسمانِ الأوَّلانِ مَقبولانِ.
3- الغُلُوُّ:
هو امْتناعُ الوصْفِ المُدَّعى عقْلًا وعادَةً. وهو غيرُ مَقْبولٍ، كقَولِ الشَّاعرِ في هِجاءِ رجُلٍ: السريع
تَبكي السَّمواتُ إذا ما دَعا
وتَسْتعيذُ الأرْضُ مِن سَجْدتِه
فإنَّ بُكاءَ السَّماءِ مِن دُعاءِ رجُلٍ، واسْتِعاذةَ الأرضِ من سُجودِه وعِبادتِه: أمرٌ مُسْتحيلٌ يُخالِفُ ما فطَر اللهُ عليه السَّمواتِ والأرضَ مِنَ الطَّاعةِ وحُبِّ المُؤمنينَ والبُكاءِ عليهم.
وأحسَنُ الغُلوِّ ما دخَل عليه ما يُقرِّبُه إلى الصِّحَّةِ والإمْكانِ، كـ"قد، لو، لولا، كاد، ..."، كقَولِه تعالى: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ [النور: 35] ؛ فإنَّ الزَّيتَ لا يُضيءُ أبدًا بغيرِ مَسيسِ النَّارِ، هذا مُسْتحيلٌ عقْلًا وعادَةً، غيرَ أنَّ دُخولَ "يكاد" على الآيةِ خفَّف مِنِ اسْتحالةِ ذلك.
ومنه أيضًا قولُه تعالى: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46] ؛ فإنَّ المَكْرَ لا يُزيلُ الجِبالَ الرَّواسيَ مَهما بلَغ، لكنَّ "كان" هنا بمَعْنى "كاد"، وهي كذلك في قِراءَةِ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعودٍ رضِي اللهُ عنه [426] ينظر من قرأ بها: ((تفسير الطبري)) (13/ 720 - 723). وهذه قراءة مخالِفةٌ لرَسمِ المُصحَفِ، فلا يُقرَأُ بها في الصَّلاةِ. .
ومنه قولُ أبي العَلاءِ المَعرِّيِّ: الوافر
تَكادُ قِسِيُّه مِن غيرِ رامٍ
تُمكِّنُ مِن قُلوبِهُمُ النِّبالَا
تَكادُ سُيوفُهُ مِن غيرِ سَلٍّ
تَجُدُّ إلى رِقابِهُمُ انْسلالَا
فإنَّ تَمكُّنَ الأقْواسِ مِن قُلوبِ الأعْداءِ وخرْقَها لها بالنِّبالِ أمرٌ مُسْتحيلٌ عقْلًا وعادَةً، وكذلك أنْ تَتولَّى السُّيوفُ قطْعَ الرِّقابِ مِن غيرِ أنْ يَسُلَّها أحدٌ مِن غِمْدِها غُلوٌّ، إلَّا أنَّ الشَّاعرَ أتى في البيتَينِ بـ "تَكادُ" الَّتي تُفيدُ المُقارَبةَ، وتُقرِّبُ الأمرَ للصِّحَّةِ.
ومنه قولُ البُحْتُريِّ في مدْحِ الخَليفةِ المُتوكِّلِ: الكامل
ولوَ انَّ مُشْتاقًا تَكلَّفَ فوقَ ما
في وُسْعِه لسعَى إليه المِنبَرُ
فسعْيُ المِنبَرِ إلى الخَليفَةِ مِنَ الغُلوِّ، وهُو أمرٌ مُسْتحيلٌ عقْلًا وعادَةً، غيرَ أنَّه تَعبيرٌ قرَّبه إلى الصِّحَّةِ لفْظُ "لو".
وقولُ المُتنبِّي في الفخْرِ: الوافر
ولو برَز الزَّمانُ إليَّ شخْصًا
لخضَّب شَعرَ مَفْرِقِه حُسامي
فبروزُ الزَّمانِ في صُورةِ إنْسانٍ أمرٌ مُسْتحيلٌ عقْلًا وعادَةً، لكنَّ اسْتِخدامَ الشَّاعرِ لـ "لو" خفَّف مِنِ اسْتِحالةِ ذلك.
ومنه أيضًا قولُ أبي العَلاءِ في وصْفِ سيفِ مَمْدوحِه: الوافر
يُذيبُ الرُّعبُ منه كلَّ عَضْبٍ
فلولا الغِمْدُ يُمْسكُه لسالَا
فالمَعْنى أنَّ سيفَك أيُّها المَمْدوحُ تَهابُه السُّيوفُ، وأشدُّ ما يَجوزُ على السَّيفِ أنْ يَسيلَ حَديدُه، ولولا الغِمْدُ يُمْسكُه لظهَر سَيلانُه.
فذَوبانُ كلِّ سيْفٍ إلى حدِّ السَّيلانِ في غِمْدِه بباعِثِ الرُّعبِ مِن سيفِ المَمْدوحِ أمرٌ مُمْتنِعٌ عقْلًا وعادَةً، ولكنَّ وجُودَ «لولا» الَّتي أفادت امْتِناعَ سَيلانِ هذا السَّيفِ الذَّائِبِ لوُجودِ غِمْدِه الَّذي يُمسِكُه عِنَ السَّيلانِ؛ قد جعَلتْ هذا الغُلوَّ المُفرِطَ في المَعْنى مَقْبولًا.
فإذا خَلا الوصْفُ المُدَّعى مِن تلك الأدَواتِ لم يكنْ في حُسْنِ وقَبولِ المُقترِنِ بها، كقولِ المُتنبِّي مادِحًا: الطويل
فتًى ألْفُ جزْءٍ رأيُه في زَمانِه
أقلُّ جُزَيءٍ بعضُه الرَّأيُ أجمَعُ
يُريدُ المُتنبِّي أنْ يَذكُرَ أنَّ رأيَ هذا المَمْدوحِ بقَدْرِ ألْفِ جزْءٍ، أقلُّ جزءٍ منها يُعادِلُ رأيَ النَّاسِ جَميعًا.
فوُجودُ إنْسانٍ رأيُه على النَّحوِ الَّذي صَوَّره الشَّاعِرُ مُمْتنعٌ عقْلًا وعادَةً، وهُو غُلوٌّ غَثٌّ لا يَدعو إلى الإعْجابِ به، بل إلى التَّعجُّبِ منه!
ومنه أيضًا قولُ أبي نُواسٍ في وصْفِ الخمْرِ: الطويل
فلمَّا شرِبْناها ودبَّ دبيبُها
إلى مَوضِعِ الأسْرارِ قلتُ لها: قِفِي
مَخافَةَ أنْ يَسطوْ عليَّ شُعاعُها
فيُطلِعَ نُدْماني على سرِّيَ الخَفِيْ
فسطوةُ شُعاعِ الخمْرِ عليه بحيثُ يَصيرُ جسْمُه شفَّافًا يُظهِرُ لنَديمِه ما في باطِنِه لا يُمكِنُ عقْلًا ولا عادَةً؛ فهُو غُلوٌّ مُفْرِطٌ!
على أنَّ الغُلوَّ يُرفَضُ مُطْلقًا ولا يَكونُ له حُسْنٌ إذا وصَل إلى مَرْحلةِ الكُفْرِ أوِ اقْترَب منْها، كقولِ أبي نُواسٍ: الكامل
وأخَفْتَ أهلَ الشِّركِ حتَّى أنَّه
لتَخافُك النُّطَفُ الَّتي لم تُخلَقِ
فإنَّ إخافةَ النُّطَفِ الَّتي لم تُخْلَقْ بعدُ أمرٌ مُسْتحيلٌ، فضْلًا عن مُخالَفتِه للشَّرعِ.
ومنه قولُ ابنِ هانِئٍ في مَطْلَعِ قَصيدةٍ في مدْحِ المُعزِّ الفاطميِّ: الكامل
ما شئتَ لا ما شاءَتِ الأقْدارُ
فاحْكُمْ فأنت الواحِدُ القهَّارُ
فادِّعاءُ أنَّ مَشيئتَه هي الَّتي تَحكُمُ لا ما سُطِّر في القَدَرِ كُفْرٌ، وتَسْميتُه بالواحِدِ القهَّارِ كذلك؛ فإنَّه شِرْكٌ باللهِ تعالى في اسمِه وصِفتِه.
ومنه قولُ المُتَنبِّي: الطويل
تَجاوزْتَ مِقدارَ الشَّجاعةِ والنُّهَى
إلى قَولِ قومٍ أنت بالغَيبِ عالِمُ
فادِّعاءُ أنَّ علْمَ الغَيبِ لأحدٍ مِنَ البشَرِ أمرٌ مُسْتحيلٌ عقْلًا وعادَةً، فضْلًا عن أنَّه شِرْكٌ باللهِ تعالى وكُفْرٌ به [427] ينظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 357)، ((علم البديع)) لعبد العزيز عتيق (ص: 91). .

انظر أيضا: