موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الخامِسُ: الاسْتِطرادُ


الاسْتِطرادُ لُغةً: مَصدرُ اسْتَطرد، يُقالُ: اسْتَطردَ الفارِسُ خَصْمَه، وهُو أنْ يَفِرَّ مِن بَيْنِ يَدَيِ الخَصمِ يُوهِمُه الانْهزامَ، ثمَّ يَعطِفَ عليه، وهُو ضرْبٌ مِنَ المَكيدةِ [387] ينظر: ((الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية)) للجوهري (2/ 502)، ((الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (ص: 110). .
واصْطِلاحًا: "هو الانْتِقالُ مِن مَعنًى لمَعنًى آخَرَ مُتَّصلٍ به لم يُقصَدْ بذكْرِ الأوَّلِ التَّوصُّلُ لذكْرِ الثَّاني" [388] ينظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/ 239). . أو هو: "أنْ يَخرُجَ المُتكلِّمُ مِنَ الغَرَضِ الَّذي هو فيه إلى غَرَضٍ آخَرَ لمُناسبةٍ بينَهما، ثمَّ يَرجِعَ فيَنتقِلَ إلى إتْمامِ الكَلامِ الأوَّلِ" [389] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 302). .
فمنه قولُه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 26] ؛ فقولُه: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ اسْتِطرادٌ؛ فإنَّ سِياقَ الآيةِ في التَّفضُّلِ وذِكْرِ نِعَمِ اللهِ تعالى على بَني آدَمَ؛ حيثُ جعَل لهم اللِّباسَ الَّذي يَستُرُ عَوراتِهم، ثمَّ اسْتَطردَ فذكَر أنَّ التَّقوى هي خيْرُ ما يَلبسُه الإنْسانُ، وهِي خارِجةٌ عن مَقْصودِ التَّفضُّلِ والإنْعامِ.
ومنه قولُه تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود: 95] ؛ فذكْرُ ثَمودَ هنا اسْتِطرادٌ؛ فإنَّه قد سبَق ذكْرُ قِصَّتِها قبلُ، فلم يكنْ ذكْرُها هنا إلَّا اسْتِطرادًا.
وقولُه تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى [فصلت: 39] ؛ فإنَّ قولَه تعالى: إِنَّ الَّذي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى اسْتِطرادٌ في خِتامِ آيةٍ أراد اللهُ تعالى أنْ يُثبِتَ بها قُدرتَه على الخلْقِ، والتَّذكيرَ بنِعَمِه في إنْزالِ الغَيثِ وإحْياءِ الأرْضِ، ثمَّ اسْتَطردَ فأخْبرَ عن قُدرتِه على إعادَةِ المَوتى بعدَ إفْنائِها وإحْيائِها بعدَ إرْجائِها، وقد جعَل ما تقدَّم مِن ذكْرِ الغَيثِ والنَّباتِ دَليلًا عليه، ولم يكنْ في تَقْديرِ السَّامِعِ لأوَّلِ الكَلامِ إلا أنَّه يُريدُ الدَّلالةَ على نفْسِه بذكْرِ المطَرِ دُونَ الدَّلالةِ على الإعادَةِ، فاسْتَوفى المَعنيَينِ جميعًا.
ومنه في الشِّعرِ قوْلُ السَّمَوْءَلِ: الطويل
وإنَّا لَقومٌ لا نَرى القتْلَ سُبَّةً
إذا ما رأتْه عامِرٌ وسَلولُ
يُقرِّبُ حُبُّ الموتِ آجالَنا لنا
وتَكرَهُه آجالُهم فتَطولُ
فساق القَصيدةَ للفخْرِ بقومِه ومدْحِهم، فاسْتَطردَ إلى هِجاءِ قَبيلتَي عامِرٍ وسَلول، ثمَّ عاد إلى مَقْصَدِه، ولم يكنْ هِجاءُ القَبيلتَينِ سَببًا للكَلامِ الأوَّلِ، وإنَّما جاء اسْتِطرادًا.
ومنه قولُ حسَّانَ بنِ ثابتٍ: الكامل
إن كنتِ كاذِبةَ الَّذي حدَّثْتِنا
فنَجوتِ مَنْجى الحارِثِ بنِ هِشامِ
ترَكَ الأحِبَّةَ أنْ يُقاتِلَ دُونَهم
ونَجا برَأسِ طِمِرَّةٍ ولِجامِ
فإنَّ التَّطرُّقَ لقِصَّةِ الحارِثِ بنِ هِشامٍ ليست مَقْصودةً، وإنَّما جاءت عَرَضًا، ولم يُسَقْ أوَّلُ الكَلامِ تَمْهيدًا لها أو سَببًا لذكْرِها، وكان الحارِثُ هذا قد فرَّ يومَ بدْرٍ عن أخيه أبي جهْلٍ، ثمَّ أنشَأ يَعتذِرُ بعدَ ذلك [390] ينظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 398)، ((البديع في نقد الشعر)) لأسامة بن منقذ (ص: 75). .

انظر أيضا: