الموسوعة العقدية

 التَّجَلِّي

صِفةٌ فِعليَّةٌ ثابتةٌ للهِ عزَّ وجلَّ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، ومعناه: الظُّهورُ للعِيانِ، لا كما تقولُ الصُّوفيةُ: التَّجَلِّي: ما ينكشِفُ للقُلوبِ مِن أنوارِ الغُيوبِ.
الدَّليلُ مِن الكِتابِ:
قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف: 143] .
قال الخليلُ بنُ أحمَدَ الفَراهِيديُّ: (قال اللهُ عزَّ وجلَّ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ، أي: ظهَر وبانَ) .
وقال ابنُ جَريرٍ: (قَولُه تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا يَقولُ تعالى ذِكْرُه: فلمَّا اطَّلَع الرَّبُّ للجَبَلِ جَعَل اللهُ الجَبَلَ دَكًّا، أي: مُستويًا بالأرضِ. وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، أي: مَغْشِيًّا عليهـ) .
وقال الزَّجَّاجُ: (تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ، أي: ظهَر وبانَ،... وهو قولُ أهلِ العِلمِ وأهلِ السُّنَّة والجماعةِ) .
وقال السَّمعانيُّ: (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي معناه: اجعَلِ الجَبَلَ بيني وبيْنَك؛ فإنَّه أقوى منك، فإنِ استقَرَّ مَكانَه فسوف تراني، وفي هذا دليلٌ على أنَّه يجوزُ أن يُرى؛ لأنَّه لم يُعَلِّقِ الرُّؤيةَ بما يستحيلُ وُجودُه؛ لأنَّ استِقرارَ الجَبَلِ مع تجلِّيه له غيرُ مُستحيلٍ، بأن يجعَلَ له قُوَّةَ الاستقرارِ مع التجَلِّي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي: ظَهَر للجَبَلِ، قيل: إنَّه جَعَل للجَبَلِ بَصَرًا وخَلَق فيه حياةً، ثمَّ تجَلَّى له؛ فتدَكْدَكَ على نَفْسِهـ) .
الدَّليلُ من السُّنَّةِ:
1- حديثُ ثابتٍ البُنانيِّ عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قولِه تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ، قال: ((قال هكذا، يعني أنَّه أخرَجَ طَرَفَ الخِنصِرِ، قال: فقال له حُمَيدٌ الطَّويلُ: ما تُريدُ إلى هذا يا أبا مُحمَّدٍ؟ قال: فضرَب صدرَه ضربةً شديدةً، وقال: مَن أنتَ يا حُمَيدُ؟ وما أنتَ يا حُمَيدُ؟ يُحدِّثُني به أنسُ بنُ مالكٍ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فتقولُ أنتَ: ما تُريدُ إليه؟!)) .
2- حديثُ تجلِّي اللهِ عزَّ وجلَّ لعبادِه يومَ القيامةِ المشهورُ .
قال التِّرمذيُّ: (هذا حديثٌ حسَنٌ، وقد رُوِيَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رواياتٌ كثيرةٌ، مِثلُ هذا ما يُذكَرُ فيه أمرُ الرُّؤيةِ؛ أنَّ النَّاسَ يرَوْنَ ربَّهم، وذِكرُ القدَمِ، وما أشبَهَ هذه الأشياءَ، والمذهبُ في هذا عند أهلِ العِلمِ مِن الأئمَّةِ -مِثلُ: سُفيانَ الثَّوريِّ، ومالكِ بنِ أنسٍ، وابنِ المُبارَكِ، وابنِ عُيَينةَ، ووكيعٍ، وغيرِهم- أنَّهم روَوْا هذه الأشياءَ، ثمَّ قالوا: تُروَى هذه الأحاديثُ، ونؤمِنُ بها، ولا يُقالُ: كيفَ؟ وهذا الَّذي اختاره أهلُ الحديثِ؛ أنْ تُروى هذه الأشياءُ كما جاءَتْ، ويُؤمَنُ بها، ولا تُفَسَّرُ، ولا تُتَوَهَّمُ، ولا يُقالُ: كيفَ؟ وهذا أمرُ أهلِ العِلمِ الَّذي اختاروه وذهَبوا إليه، ومعنى قولِه في الحديثِ: ((فيُعرِّفُهم نَفْسَهـ)) يعني: يَتجَلَّى لهم) .
وقال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (وهو الَّذي خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ وما بينهما في ستَّةِ أيَّامٍ ثمَّ استوى على العرشِ، وهو الَّذي كَلَّم موسى تكليمًا، وتَجَلَّى للجبلِ فجعَله دَكًّا، ولا يُماثِلُه شيءٌ مِن الأشياءِ في شيءٍ مِن صِفاتِه، فليس كَعِلْمِه علمُ أحَدٍ، ولا كقدرتِه قُدرةُ أحَدٍ، ولا كرحمتِه رحمةُ أحَدٍ، ولا كاستوائِه استواءُ أحَدٍ، ولا كسَمعِه وبصَرِه سمعُ أحَدٍ ولا بصَرُه، ولا كتكليمِه تكليمُ أحَدٍ، ولا كتجَلِّيهِ تَجَلِّي أحَدٍ) .
وقال أبو عمرٍو الدَّاني: (إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يتجَلَّى لعبادِه المؤمِنين في المعادِ، فيَرَونَه بالأبصار، على ما نطق به القُرآنُ، وتواترت به أخبارُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (قولُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَنزِلُ ربُّنا إلى السَّماءِ الدُّنيا )) عندَهم: مِثْلُ قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الأعراف: 143] ، ومِثلُ قَولُه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] ، كلُّهم يَقولُ: يَنزِلُ ويَتجَلَّى ويجيءُ، بلا كيفٍ، لا يَقولُون: كيفَ يجيءُ؟ وكيفَ يَتجَلَّى؟ وكيفَ يَنزِلُ، ولا مِن أينَ جاء؟ ولا مِن أينَ تَجلَّى؟ ولا مِن أينَ يَنزِلُ؟ لأنَّه ليس كشيءٍ مِن خَلْقِه، وتعالى عنِ الأشياءِ، ولا شريكَ له، وفي قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ دَلالةٌ واضحةٌ أنَّه لم يكُنْ قبْلَ ذلك متجلِّيًا للجبلِ، وفي ذلك ما يُفسِّرُ معنى حديثِ التَّنزيلِ، ومَن أراد أن يقِفَ على أقاويلِ العُلَماءِ في قولِه عزَّ وجلَّ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فلينظُرْ في تفسيرِ بَقِيِّ بنِ مَخلَدٍ ومحمَّدِ بنِ جَريرٍ، وليقِفْ على ما ذكَرا مِن ذاك، ففيما ذكَرا منه كفايةٌ، وباللهِ العِصمةُ والتَّوفيقُ) .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (اللهُ تعالى في القُرآنِ يُثبِتُ الصِّفاتِ على وجهِ التَّفصيلِ، ويَنفي عنه -على طريقِ الإجمالِ- التَّشبيهَ والتَّمثيلَ؛ فهو في القُرآنِ يُخبِرُ أنَّه بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، وأنَّه عزيزٌ حكيمٌ، غفورٌ رحيمٌ، وأنَّه سميعٌ بصيرٌ، وأنَّه غفورٌ وَدودٌ، وأنَّه تعالى -على عِظَمِ ذاتِه- يُحِبُّ المُؤمنينَ، ويَرضى عنهم، ويغضَبُ على الكفَّارِ، ويَسخَطُ عليهم، وأنَّه خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيَّامٍ، ثمَّ استوى على العرشِ، وأنَّه كلَّم موسى تكليمًا، وأنَّه تَجلَّى للجبلِ فجعَله دَكًّا، وأمثال ذلك) .
وقال: (ثبَتَ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ: أنَّه إذا تَجلَّى لهم يومَ القيامةِ سجَد له المُؤمنونَ، ومَن كان يسجُدُ في الدُّنيا رياءً يصيرُ ظَهرُه مِثلَ الطَّبَقِ) .
وقال حافظ الحَكَميُّ: (قَولُه: «فتنظُرونَ إليه، وينظُرُ إليكم» فيه إثباتُ صفةِ التَّجلِّي للهِ عزَّ وجلَّ، وإثباتُ النَّظرِ له، وإثباتُ رؤيتِه في الآخرةِ ونظَرِ المُؤمنينَ إليهـ) .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((العين)) (6/180).
  2. (2) يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/ 427).
  3. (3) يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابهـ)) (2/ 373).
  4. (4) يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (2/ 212).
  5. (5) أخرجه الترمذي بعد حديث (3074)، وأحمد (12260) واللَّفظُ له. صححه على شرط مسلم الشوكاني في ((فتح القدير)) (2/345) والوادعي في ((الصحيح المسند)) (101)، وحسنه الترمذي، وصحح إسناده على شرط مسلم الألباني في تخريج ((كتاب السنة)) (481)، وقال ابنُ القيِّمِ في ((مدارج السالكين)) (3/596): على شرط مسلم.
  6. (6) أخرجه البخاري (7437)، ومسلم (191)، وأخرجه الترمذي (2557).
  7. (7) يُنظر: ((سنن الترمذي)) (4/ 273).
  8. (8) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (5/257).
  9. (9) يُنظر: ((الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات)) (ص: 163).
  10. (10) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلي السماء الدنيا..))
  11. (11) يُنظر: ((التمهيد)) (7/153).
  12. (12) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/37).
  13. (13) يُنظر: ((المصدر السابق)) (23/76).
  14. (14) يُنظر: ((معارج القبول)) (2/772).