الموسوعة العقدية

الفرعُ الأولُ: خِلافةُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه

أوَّلًا: مُبايَعةُ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بالخِلافةِ
بايَعَ جَميعُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بالخِلافةِ.
فعن عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (قَد كانَ مِن خَبَرِنا حينَ توفَّى اللهُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الأنصارَ خالَفونا واجتَمَعوا بأسْرِهِم في سَقيفةِ بني ساعِدةَ، وخالَفَ عنَّا عليٌّ والزُّبَيرُ ومَن مَعَهما، واجتَمَعَ المُهاجِرونَ إلى أبي بَكْرٍ، فقُلتُ لِأبي بَكْرٍ: يا أبا بَكْرٍ انطَلِقْ بنا إلى إخوانِنا هَؤُلاءِ مِنَ الأنصارِ، فانطَلَقْنا نُريدُهم، فلَمَّا دَنَوْنا مِنهم لَقِيَنا مِنهم رَجُلانِ صالِحانِ فذَكَرا ما تَمالَأ عليه القَومُ، فقالا: أينَ تُريدونَ يا مَعْشَرَ المُهاجِرينَ؟ فقُلنا: نُريدُ إخوانَنا هَؤُلاءِ مِنَ الأنصارِ، فقالا: لا عليكم ألَّا تَقْرَبوهم، اقضُوا أمْرَكم، فقُلتُ: واللهِ لَنَأتيَنَّهم، فانطَلَقْنا حَتَّى أتَيناهم في سَقيفةِ بني ساعِدةَ، فإذا رَجُلٌ مُزَّمِلٌ [2028] قال ابن الأثير: (أي: مغطى مدثر) ((النهاية)) (2/ 313). بينَ ظَهرانَيهِم، فقُلتُ: مَن هَذا؟ فقالوا: هَذا سَعدُ بنُ عُبادةَ، فقُلتُ: ما لهُ؟ قالوا: يُوعَكُ، فلَمَّا جَلَسْنا قَليلًا تَشهَّدَ خَطيبُهم فأثنى عَلى اللهِ بما هو أهلُهُ، ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ، فنَحنُ أنصارُ اللَّهِ، وكَتيبةُ الإسلامِ، وأنتَم -مَعْشَرَ المُهاجِرينَ- رَهطٌ، وقَد دَفَّت دافَّةٌ [2029] قال ابن حجر: (قوله: وقد دفَّت دافَّة من قومِكم، بالدال المهملة والفاء، أي: عدد قليلٌ، وأصله من الدَّفِّ، وهو السَّير البطيء في جماعة) ((فتح الباري)) (12/ 151). مِن قَومِكم، فإذا هم يُريدونَ أن يَختَزِلونا مِن أصلِنا [2030] قال ابن الأثير: (في حديث الأنصار «وقد دفَّت دافَّةٌ منكم يريدون أن يختزلونا من أصلِنا» أي: يقتَطِعونا ويذهبوا بنا منفردينَ) ((النهاية)) (2/ 29). ، وأن يَحضُنونا [2031] قال ابنُ حَجَر: (قولُه: وأن يحضُنونا، بحاء مهملة وضاد مُعجَمة، ووقع في روايةِ المُستملي، أي: يُخرِجونا. قاله أبو عُبَيد، وهو كما يقال: حضَنَه واحتَضَنه عن الأمرِ: أخرجه في ناحيةٍ عنه واستبَدَّ به، أو حبسه عنه. ووقع في رواية أبي علي بن السَّكنِ: يختصُّونا، بمثنَّاة قبل الصاد المهمَلة وتشديدها، ومثله للكشميهني، لكن بضم الخاءِ بغيرِ تاءٍ، وهي بمعنى الاقتطاعِ والاستئصالِ، وفي رواية سفيانَ عند البزَّار: ويختصُّون بالأمرِ أو يستأثِرون بالأمرِ دونَنا، وفي رواية أبي بكرٍ الحنفيِّ عن مالكٍ عند الدارقطنيِّ: ويخطفون، بخاء معجمة، ثم طاء مهملة، ثم فاء) ((فتح الباري)) (12/ 152). من الأمرِ، فلَمَّا سَكَتَ أرَدتُ أن أتَكَلَّمَ -وكُنتُ قَد زَوَّرْتُ [2032] قال ابن حجر: (كنتُ قد زوَّرتُ، بزاي ثم راء، أي: هيأتُ وحسَّنتُ، وفي رواية مالك: رَوَّيتُ، براءٍ وواو ثقيلة ثم تحتانية ساكنة، من الرَّوِيَّة ضد البَديهةِ) ((فتح الباري)) (12/ 152). مَقالةً أعجَبَتْني أريدُ أن أقَدِّمَها بينَ يَدَيْ أبي بَكرٍ-، وكُنتُ أداري مِنهُ بَعضَ الحَدِّ [2033] قال ابن حجر: (أي الحدة) ((فتح الباري)) (7/ 30). ، فلَمَّا أرَدتُ أن أتَكَلَّمَ قال أبو بَكْرٍ: عَلى رِسْلِكَ، فكَرِهْتُ أن أُغضِبَهُ، فتَكَلَّمَ أبو بَكْرٍ، فكانَ هو أحلَمَ مِني وأوقَرَ، واللهِ ما تَرَكَ مِن كَلِمةٍ أعجَبَتني في تَزويري إلَّا قال في بَديهَتِه مِثلَها أو أفضَلَ مِنها حَتَّى سَكَتَ، فقال: ما ذَكَرتُم فيكم مِن خَيرٍ فأنتُم لهُ أهْلٌ، ولَن يُعرَفَ هَذا إلَّا لِهَذا الحَيِّ مِن قُرَيشٍ، هم أوسَطُ العَرَبِ نَسَبًا ودارًا، وقَد رَضِيتُ لكم أحَدَ هَذين الرَّجُلَينِ، فبايِعوا أيَّهما شِئتُم، فأخذَ بيَدِي ويَدِ أبي عُبَيدةَ بنِ الجَرَّاحِ، وهوَ جالِسٌ بينَنا، فلَم أكرَهْ مِمَّا قال غَيرَها، كانَ واللهِ أن أُقَدَّمَ فتُضرَبَ عُنُقي لا يُقَرِّبُني ذلك مِن إثمٍ، أحَبَّ إليَّ مِن أن أتَأمَّرَ عَلى قَومٍ فيهِم أبو بَكْرٍ! اللَّهمُ إلَّا أن تُسَوِّلَ إليَّ نَفسي عِندَ المَوتِ شَيئًا لا أجِدُهُ الآنَ. فقال قائِلٌ مِنَ الأنصارِ: أنا جُذَيلُها المُحَكَّكُ [2034] قال ابن الأثير: («أنا جُذَيلُها المحَكَّك» هو تصغيرُ جَذْل، وهو العودُ الذي يُنصَب للإبل الجَرْبى لتحتكَّ به، وهو تصغيرُ تعظيم: أي أنا ممن يُستشفى برأيِه كما تُستشفى الإبلُ الجربى بالاحتكاك بهذا العودِ) ((النهاية)) (1/ 251). وقال ابن الأثير أيضًا: (قيل: أراد أنه شديدُ البأسِ صُلبُ المكسر، كالجَذْلِ المحكَّك. وقيل: معناه أنا دون الأنصار جَذلٌ حكَّاك، فبي تُقرَن الصَّعبة. والتصغيرُ للتعظيمِ) ((النهاية)) (1/ 418). ، وعُذَيقُها المُرَجَّبُ [2035] قال ابن الأثير: (الرَّجبة: هو أن تُعمَد النخلةُ الكريمةُ ببناءٍ مِن حجارةٍ أو خشَبٍ إذا خيف عليها لطولها وكثرةِ حملها أن تقَعَ. ورجَّبْتُها فهي مُرجَّبة. والعُذَيق: تصغيرُ العَذقِ بالفتح، وهي النخلةُ، وهو تصغيرُ تعظيم، وقد يكون ترجيبُها بأن يجعَلَ حولها شوكٌ لئلا يرقى إليها، ومن الترجيبِ أن تُعمَد بخشبة ذات شعبتين. وقيل: أراد بالترجيب التعظيمَ. يقال: رجَّب فلانٌ مولاه، أي: عَظَّمه. ومنه سمي شهر رجبٍ؛ لأنه كان يعظَّم) ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (2/ 197). . مِنَّا أميرٌ، ومِنكم أميرٌ يا مَعْشَرَ قُرَيشٍ، فكَثُرَ اللَّغطُ، وارتَفَعَتِ الأصَواتُ حَتَّى فرَقْتُ [2036] قال ابن حجر: (من الفَرَق بفتحتين، وهو الخوف) ((فتح الباري)) (12/ 153). مِن الِاختِلافِ، فقُلتُ: ابسُطْ يَدَكَ يا أبا بَكْرٍ، فبَسَط يَدَهُ فبايَعْتُهُ، وبايعَهُ المُهاجِرونَ، ثُمَّ بايَعَتْهُ الأنصارُ، ونَزَوْنا [2037] قال ابن الأثير: (أي، وقعوا عليه ووَطِئوه) ((النهاية)) (5/ 44). وقال ابن حجر: (أي: وثبنا) ((فتح الباري)) (12/ 153). عَلى سَعدِ بنِ عُبادةَ، فقال قائِلٌ مِنهم: قَتَلتُم سَعدَ بنَ عُبادةَ، فقُلتُ: قَتلَ اللهُ سَعدَ بنَ عُبادةَ! قال عُمرُ: وإنَّا واللهِ ما وجَدْنا فيما حَضَرْنا مِن أمرٍ أقوى مِن مُبايَعةِ أبي بَكْرٍ، خَشينا إنْ فارَقْنا القَومَ ولَم تَكُنْ بيعةٌ أن يُبايِعوا رَجُلًا مِنهم بَعدَنا، فإمَّا بايَعْناهم عَلى ما لا نَرضى، وإمَّا نُخالِفُهم فيَكونُ فَسادًا، فمَن بايَعَ رَجُلًا عَلى غَيرِ مَشُورةٍ مِنَ المُسْلِمينَ فلا يُتابَعُ هو ولا الَّذي بايَعَهُ، تَغِرَّةً [2038] قال ابن حجر: (أي: حَذَرًا من القتلِ، وهو مصدرٌ من أغرَرْتُه تغريرًا أو تَغِرَّةً، والمعنى أنَّ من فعل ذلك فقد غرَّر بنفسه وبصاحبه وعرَّضهما للقتلِ) ((فتح الباري)) (12/ 150). أن يُقْتَلا) [2039] رواه البخاري (6830) مطولًا. .
وعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه سَمِعَ خُطبةَ عُمَرَ الآخِرةَ حينَ جَلَس عَلى المِنبَرِ، وذلك الغَدُ مِن يَومِ تُوُفِّي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَشهَّدَ وأبو بَكْرٍ صامِتٌ لا يَتَكَلَّمُ، قال: (كُنتُ أرجو أن يَعيشَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى يَدْبُرَنا -يُريدُ بذلك أن يَكونُ آخِرَهم- فإنْ يَكُ مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد مات، فإنَّ اللهَ تعالى قَد جَعل بينَ أظهُرِكم نورًا تَهتَدونَ به بما هَدى اللهُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّ أبا بَكْرٍ صاحِبُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثانيَ اثنَينِ، فإنَّهُ أَولى المُسْلِمينَ بأمورِكم، فقوموا فبايِعوهُ، وكانَت طائِفةٌ مِنهم قَد بايَعوهُ قَبلَ ذلك في سَقيفةِ بني ساعِدةَ، وكانَت بَيعةُ العامَّةِ عَلى المِنبَرِ. قال الزُّهريُّ، عن أنَسِ بنِ مالِكٍ: سَمِعتُ عُمرَ يَقولُ لِأبي بَكرٍ يومَئِذٍ: اصعَدِ المِنبَرَ، فلَم يَزَلْ به حَتَّى صَعِدَ المِنبَرَ، فبايعَهُ النَّاسُ عامَّةً) [2040] رواه البخاري (7219). .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (إنَّ فاطِمةَ بنتَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أرسَلَت إلى أبي بَكْرٍ تَسألُهُ ميراثَها مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا أفاءَ اللهُ عليه بالمَدينةِ وفَدَكٍ، وما بَقي مِن خُمسِ خَيبَرَ، فقال أبو بَكْرٍ: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا نُوْرَثُ، ما تَرَكْنا صَدقةٌ))، إنَّما يَأكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هَذا المالِ، وإنِّي واللهِ لا أغَيِّرُ شَيئًا مِن صَدَقةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن حالِها الَّتي كانَ عليها في عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولأعمَلَنَّ فيها بما عَمِلَ به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأبى أبو بَكرٍ أن يَدفَعَ إلى فاطِمةَ مِنها شَيئًا، فوَجَدَت فاطِمةُ عَلى أبي بَكْرٍ في ذلك، فهَجَرَتْهُ فلَم تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَت، وعاشَت بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِتَّةَ أشهُرٍ، فلَمَّا تُوُفِّيَت دَفنَها زَوجُها عليٌّ ليلًا، ولَم يُؤذِنْ بها أبا بَكْرٍ، وصَلَّى عليها، وكانَ لعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وَجهٌ حَياةَ فاطِمةَ، فلَمَّا تُوُفِّيَتِ استَنكَر عليٌّ وُجوهَ النَّاسِ، فالتَمَس مُصالَحةَ أبي بَكْرٍ ومُبايَعَتَه، ولَم يَكُن يُبايِعُ تِلكَ الأشهُرَ، فأرسَلَ إلى أبي بَكرٍ أنِ ائْتِنا ولا يَأتِنا مَعَكَ أحَدٌ... فقال عُمَرُ لِأبي بَكرٍ: واللهِ لا تَدخُلُ عليهِم وَحْدَكَ، فقال أبو بَكْرٍ: وما عَساهمُ أن يَفعَلوا بي، إنِّي واللهِ لآتَيَنَّهم، فدَخَلَ عليهِم أبو بَكْرٍ، فتَشهَّدَ عَليُّ بنُ أبي طالِبٍ ثُمَّ قال: إنَّا قَد عَرَفْنا يا أبا بَكْرٍ فضيلَتَكَ، وما أعطاكَ اللهُ، ولَم نَنفَسْ عليكَ خَيرًا ساقَهُ اللهُ إلَيكَ، ولَكِنَّكَ استَبدَدْتَ علينا بالأمرِ، وكُنَّا نَحنُ نَرى لنا حَقًّا لِقَرابَتِنا مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَم يَزَلْ يُكلِّمُ أبا بَكْرٍ حَتَّى فاضَت عَينا أبي بَكرٍ، فلَمَّا تَكَلَّمَ أبو بَكْرٍ قال: والَّذي نَفسي بيَدِهِ لَقَرابةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحَبُّ إلَيَّ أن أصِلَ مِن قَرابَتي! وأمَّا الَّذي شَجَرَ بَيني وبينَكم مِن هَذِه الأموالِ فإنِّي لم آلُ [2041] (يقال: ألى الرجل وألي إذا قصر وترك الجهد) يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/63). فيها عنِ الحَقِّ، ولَم أترُكْ أمرًا رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَصنَعُهُ فيها إلَّا صَنعْتُهُ، فقال عَليٌّ لِأبي بَكْرٍ: مَوعِدُكَ العَشيَّةَ لِلبَيعةِ، فلَمَّا صَلَّى أبو بَكْرٍ صَلاةَ الظُّهرِ، رَقِيَ عَلى المِنبَرِ فتَشهَّد، وذَكَر شَأنَ عَليٍّ وتَخَلُّفَهُ عنِ البَيعةِ، وعَذَرَه بالَّذي اعتَذَرَ إلَيه، ثُمَّ استَغفَرَ، وتَشهَّدَ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ، فعَظَّمَ حَقَّ أبي بَكْرٍ، وأنَّه لم يَحمِلْهُ عَلى الَّذي صَنَعَ نَفَاسةً عَلى أبي بَكْرٍ، ولا إنكارًا لِلَّذي فضَّلَهُ اللهُ به، ولَكِنَّا كُنَّا نَرى لنا في الأمرِ نَصيبًا فاستَبَدَّ علينا به، فوَجَدْنا في أنفُسِنا، فسُرَّ بذلك المُسْلِمونَ، وقالوا: أصبْتَ، فكانَ المُسْلِمونَ إلى عَليٍّ قَريبًا حينَ راجَعَ الأمرَ المَعروفَ) [2042] رواه البخاري (4240، 4241)، ومسلم (1759) واللَّفظُ له. .
قال النَّوَويُّ: (أمَّا تَأخُّرُ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه عنِ البَيعةِ فقَد ذَكَرَهُ عليٌّ في هَذا الحَديثِ، واعتَذَرَ إلى أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ومَعَ هَذا فتَأخُّرُهُ ليسَ بقادِحٍ في البَيعةِ ولا فيه، أمَّا البَيعةُ فقَدِ اتَّفَقَ العُلَماءُ عَلى أنَّه لا يُشتَرَطُ لِصِحَّتِها مُبايَعةُ كُلِّ النَّاسِ، ولا كُلِّ أهلِ الحَلِّ والعَقْدِ، وإنَّما يُشتَرَطُ مُبايَعةُ مَن تَيَسَّرَ إجماعُهم مِنَ العُلَماءِ والرُّؤساءِ ووُجوهِ النَّاسِ، وأمَّا عَدَمُ القَدْحِ فيه فلِأنَّه لا يَجِبُ عَلى كُلِّ واحِدٍ أن يَأتيَ إلى الإمامِ فيَضَعَ يَدَهُ في يَدِه ويُبايِعَهُ، وإنَّما يَلزَمُهُ إذا عَقَدَ أهلُ الحَلِّ والعَقْدِ لِلإمامِ الِانقيادُ لهُ، وألَّا يُظهِرَ خِلافًا، ولا يَشُقَّ العَصا، وهَكَذا كانَ شَأنُ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه في تِلكَ المُدَّةِ الَّتي قَبلَ بَيعَتِه؛ فإنَّهُ لم يُظهِرْ عَلى أبي بَكْرٍ خِلافًا، ولا شَقَّ العَصا، ولَكِنَّهُ تَأخَّرَ عنِ الحُضورِ عِندَهُ لِلعُذرِ المَذكورِ في الحَديثِ، ولَم يَكُنِ انعِقادُ البيعةِ وانبِرامُها مُتَوَقِّفًا عَلى حُضورِه، فلَم يَجِبْ عليه الحُضورُ لِذلك ولا لِغَيرِه، فلَمَّا لم يَجِبْ لم يَحضُرْ، وما نُقِلَ عنه قَدْحٌ في البَيعةِ ولا مُخالَفةٌ، ولَكِن بَقيَ في نَفسِه عَتْبٌ فتَأخَّرَ حُضورُهُ إلى أنْ زالَ العَتْبُ، وكانَ سَبَبُ العَتْبِ أنَّه مَعَ وَجاهَتِه وفَضيلَتِه في نَفسِه في كُلِّ شَيءٍ وقُربِه مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وغَيرِ ذلك رَأى أنَّه لا يُستَبَدُّ بأمرٍ إلَّا بمَشُورَتِه وحُضورِه، وكانَ عُذرُ أبي بَكْرٍ وعُمرَ وسائِرِ الصَّحابةِ واضِحًا؛ لِأنَّهم رَأوا المُبادَرةَ بالبَيعةِ مِن أعظَمِ مَصالِحِ المُسْلِمينَ، وخافوا مِن تَأخيرِها حُصولَ خِلافٍ ونِزاعٍ تَتَرَتَّبُ عليه مَفاسِدُ عَظيمةٌ؛ ولِهَذا أخَّروا دَفْنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى عَقَدوا البيعةَ؛ لِكَونِها كانَت أهَمَّ الأمورِ كي لا يَقَعَ نِزاعٌ في مَدْفَنِه أو كَفَنِه أو غُسْلِهِ أوِ الصَّلاةِ عليه أو غَيرِ ذلك، ولَيسَ لهم مَن يَفصِلُ الأمورَ، فرَأَوا تَقَدُّمَ البَيعةِ أهَمَّ الأشياءِ. واللهُ أعلَمُ) [2043] يُنظر: ((شرح مسلم)) (12/77). .
ثانيًا: النُّصوصُ المُشيرةُ إلى صِحَّةِ خِلافةِ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه مِنَ القُرآنِ والسُّنَّةِ
ورَدَت عِدَّةُ آياتٍ في القُرآنِ الكَريمِ تُشيرُ إلى صِحَّةِ خِلافةِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنَّه أحَقُّ النَّاسِ بها؛ مِنها:
1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54] .
قال البَيهَقيُّ: (كانَ في عِلمِ اللهِ سُبحانَه وتعالى ما يَكونُ بَعدَ وفاةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنِ ارتِدادِ قَومٍ، فوَعَدَ رَسولَه -ووَعْدُهُ صِدْقٌ- أنَّه يَأتي اللهُ بقَومٍ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ، أذِلَّةٍ عَلى المُؤمِنينَ، أعِزَّةٍ عَلى الكافِرينَ، يُجاهِدونَ في سَبيلِ اللهِ ولا يَخافونَ لومةَ لائِمٍ، فلَمَّا وُجِدَ ما كانَ في عِلمِه في ارتِدادِ مَنِ ارتَدَّ بَعدَ وفاةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وُجِدَ تَصديقُ وَعْدِه بقيامِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه بقِتالِهِم، فجاهَد بمَن أطاعَه مِنَ الصَّحابةِ مَن عَصاه مِنَ الأعرابِ، ولَم يَخَفْ في اللهِ لومةَ لائِمٍ، حَتَّى ظَهرَ الحَقُّ، وزَهَقَ الباطِلُ، وصارَ تَصديقُ وَعْدِه بَعدَ وفاةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آيةً لِلعالَمينَ، ودَلالةً عَلى صِحَّةِ خِلافةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه) [2044] يُنظر: ((الاعتقاد)) (ص: 405). .
2- قَولُ اللهِ سُبحانَه: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40] .
قال القُرطُبيُّ: (قال بَعضُ العُلَماءِ: في قَولِه تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الخَليفةَ بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه؛ لِأنَّ الخَليفةَ لا يَكونُ أبَدًا إلَّا ثانيًا، وسَمِعتُ شَيخَنا الإمامَ أبا العَبَّاسِ أحمَدَ بنَ عُمرَ يَقولُ: إنَّما استَحَقَّ الصِّدِّيقُ أن يُقالَ له: ثانيَ اثنينِ؛ لِقيامِه بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالأمرِ كقيامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم به أوَّلًا، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا ماتَ ارتَدَّتِ العَربُ كُلُّها ولَم يَبْقَ الإسلامُ إلَّا بالمَدينةِ ومَكَّةَ وجُوَاثَا، فقامَ أبو بَكْرٍ يَدعو النَّاسَ إلى الإسلامِ، ويُقاتِلُهم عَلى الدُّخولِ في الدِّينِ، كما فعل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فاستَحَقَّ مِن هَذِه الجِهةِ أن يُقالَ في حَقِّه: ثانيَ اثنينِ) [2045] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/147). .
3- قَولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] الآية.
قال الرَّازي: (السَّبْقُ إلى الهِجرةِ طاعةٌ عَظيمةٌ مِن حَيثُ إنَّ الهِجرةَ فِعْلٌ شاقٌّ عَلى النَّفسِ، ومُخالِفٌ لِلطَّبعِ، فمَن أقدَمَ عليه أوَّلًا صارَ قُدوةً لِغَيرِه في هَذِه الطَّاعةِ، وكانَ ذلك مُقَوِّيًا لِقَلبِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وسَبَبًا لِزَوالِ الوَحشةِ عن خاطِرِه، وكَذلك السَّبقُ في النُّصرةِ، فإنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمَّا قَدِمَ المَدينةَ فلا شَكَّ أنَّ الَّذينَ سَبَقوا إلى النُّصْرةِ والخِدمةِ فازوا بمَنصِبٍ عَظيمٍ، فلِهَذِه الوُجوه يَجِبُ أن يَكونُ المُرادُ: والسَّابِقونَ الأوَّلونَ في الهِجْرةِ. وإذا ثَبَتَ هَذا فإنَّ أسبَقَ النَّاسِ إلى الهِجْرةِ هو أبو بَكرٍ؛ لِأنَّه كانَ في خِدمةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكانَ مُصاحِبًا لهُ في كُلِّ مَسكَنٍ ومَوضِعٍ، فكانَ نَصيبُه مِن هَذا المَنْصِبِ أعلى مِن نَصيبِ غَيرِه، وعليُّ بنُ أبي طالِبٍ، وإن كانَ مِنَ المُهاجِرينَ الأوَّلينَ إلَّا أنَّه إنَّما هاجَر بَعدَ هِجرةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا شَكَّ أنَّه إنَّما بَقِيَ بمَكَّةَ لِمُهِمَّاتِ الرَّسولِ إلَّا أنَّ السَّبقَ إلى الهِجْرةِ إنَّما حَصَلَ لِأبي بَكْرٍ، فكانَ نَصيبُ أبي بَكْرٍ مِن هَذِه الفَضيلةِ أوفَرَ، فإذا ثَبَتَ هَذا صارَ أبو بَكْرٍ مَحكومًا عليه بأنَّه رَضِيَ اللهُ عنه ورَضِيَ هو عنِ اللهِ، وذلك في أعلى الدَّرَجاتِ مِنَ الفَضلِ، وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ أن يَكونُ إمامًا حَقًّا بَعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذ لو كانَت إمامَتُهُ باطِلةً لاستَحَقَّ اللَّعْنَ والمَقتَ، وذلك يُنافي حُصولَ مِثلِ هَذا التَّعظيمِ، فصارَت هَذِه الآيةُ مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ عَلى فضلِ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، وعَلى صِحَّةِ إمامَتِهِما) [2046] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/ 127). .
كما ورَدَت أيضًا عِدَّةُ أحاديثَ تُشيرُ إلى أحقيَّةِ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بتَوَلِّي الخِلافةِ بَعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
 قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (قَد رُوِيَت في هَذا البابِ آثارٌ تَدُلُّ عَلى أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد عَلِمَ أنَّ أبا بَكرٍ الخَليفةُ بَعدَهُ، ولَكِنَّهُ لم يُؤمَرْ بالِاستِخلافِ لِتَكُونَ شُورى. واللهُ أعلَمُ) [2047] يُنظر: ((الاستذكار)) (2/ 354). .
ومن تلك الأحاديثِ:
1- عن عائِشةَ قالت: قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَرَضِه: ((ادعِي لي أبا بَكْرٍ وأخاكِ حَتَّى أكتُبَ كِتابًا؛ فإنِّي أخافُ أن يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ ويَقولَ قائِلٌ: أنا أَولى. ويَأبى اللهُ والمُؤْمِنونَ إلَّا أبا بَكرٍ )) [2048] رواه البخاري (5666)، ومسلم (2387) واللَّفظُ له. .
 قال عِياضٌ: (فيه حُجَّةٌ بَيِّنةٌ لِصِحَّةِ إمامَتِه، وعِظَمِ فضيلَتِه عِندَ اللهِ تعالى وعِندَ المُسْلِمينَ، وتَقديمِه عَلى الجَميعِ، وعَدَمِ النَّصِّ في الإشارةِ لِغَيرِه جُملةً واحِدةً... وقَولُه: ((فإنِّي أخافُ أن يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ )): يُريدُ الخِلافةَ) [2049] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (7/ 389). .
2- عنِ ابنِ أبي مُلَيكةَ قال: (سَمِعتُ عائِشةَ وسُئِلَت: مَن كانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُستَخلِفًا لوِ استَخلَفَهُ؟ قالت: أبو بَكْرٍ. فقيلَ لها: ثُمَّ مَن بَعدَ أبي بَكْرٍ؟ قالت: عُمَرُ، ثُمَّ قيلَ لها: مَن بَعْدَ عُمَرَ؟ قالت: أبو عُبيدةَ بنُ الجَرَّاحِ، ثُمَّ انتَهَت إلى هَذا) [2050] رواه مسلم (2385). .
قال النَّوَويُّ: (هَذا دَليلٌ لِأهْلِ السُّنَّةِ في تَقديمِ أبي بَكْرٍ ثُمَّ عُمرَ لِلخِلافةِ مَعَ إجماعِ الصَّحابةِ) [2051] يُنظر: ((شرح مسلم)) (15/154). .
3- عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ مِن أمَنِّ النَّاسِ عَليَّ في صُحْبَتِه ومالِه أبا بَكرٍ، ولَو كُنتُ مُتَّخِذًا خَليلًا غَيرَ رَبِّي لاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ، ولَكِنْ أُخُوَّةُ الإسلامِ ومَودَّتُه، لا يَبْقَيَّنَ في المَسجِدِ بابٌ إلَّا سُدَّ إلَّا بابُ أبي بَكرٍ)) [2052] رواه البخاري (3654). . وفي لفظٍ آخَرَ: ((لا يَبْقَيَنَّ في المَسجِدِ خَوخةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوخةُ أبي بَكرٍ)) [2053] رواه مطولًا البخاري (3904) واللَّفظُ له، ومسلم (2382). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: ((إلَّا بابُ أبي بَكرٍ)) هو استِثناءٌ مُفرَّغٌ، والمَعنى: لا تُبْقُوا بابًا غَيرَ مَسدودٍ إلَّا بابَ أبي بَكرٍ فاتركوهُ بغَيرِ سَدٍّ، قال الخَطَّابيُّ وابنُ بطَّالٍ وغَيرُهما: في هَذا الحَديثِ اختِصاصٌ ظاهِرٌ لِأبي بَكْرٍ، وفيه إشارةٌ قَويَّةٌ إلى استِحقاقِه لِلخِلافةِ، ولا سِيَّما وقَد ثَبَتَ أنَّ ذلك كانَ في آخِرِ حَياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الوَقتِ الَّذي أمرَهم فيه ألَّا يَؤُمَّهم إلَّا أبو بَكْرٍ، وقَدِ ادَّعى بَعضُهم أنَّ البابَ كِنايةٌ عنِ الخِلافةِ، والأمرَ بالسَّدِّ كِنايةٌ عن طَلَبِها، كأنَّه قال: لا يَطْلُبَنَّ أحَدٌ الخِلافةَ إلَّا أبا بَكْرٍ؛ فإنَّهُ لا حَرَجَ عليه في طَلَبِها، وإلى هَذا جَنحَ ابنُ حِبَّانَ، فقال بَعدَ أن أخرَجَ هَذا الحَديثَ: في هَذا دَليلٌ عَلى أنَّه الخَليفةُ بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِأنَّه حَسمَ بقَولِه: سُدُّوا عنِّي كُلَّ خَوخةٍ في المَسجِدِ، أطماعَ النَّاسِ كُلِّهِم عن أن يَكونوا خُلَفاءَ بَعدَه) [2054] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/14). .
4- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في مَرَضِه: ((مُرُوا أبا بَكْرٍ يُصَلِّي بالنَّاسِ)) قالت عائِشةُ: قُلتُ: إنَّ أبا بَكْرٍ إذا قامَ في مَقامِكَ لم يُسمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكاءِ، فمُرْ عُمَرَ فلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ، قالت عائِشةُ: فقُلتُ لِحَفصةَ: قُولي له: إنَّ أبا بَكْرٍ إذا قامَ في مَقامِكَ لم يُسمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكاءِ، فمُرْ عُمَرَ فلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ، ففَعَلَتْ حَفصةُ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَهْ! إنكُنَّ لأنتُنَّ صَواحِبُ يُوسُفَ! مُرُوا أبا بَكْرٍ فليُصَلِّ بالنَّاسِ)). فقالت حَفصةُ لِعائِشةَ: ما كُنتُ لِأُصيبَ مِنكِ خَيرًا [2055] رواه البخاري (679) واللَّفظُ له، ومسلم (418). !
 قال ابنُ بطالٍ: (قال الطَّبَريُّ: لَمَّا استَخلَفَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنه عَلى الصَّلاةِ بَعدَ إعلامِه لِأمَّتِه أنَّ أحَقَّهم بالإمامةِ أقرَؤُهم لِكِتابِ اللهِ، صَحَّ أنَّه يَومَ قَدَّمَهُ لِلصَّلاةِ كانَ أقرَأَ أمَّتِهِ لِكِتابِ اللهِ وأعلَمَهُم وأفضَلَهم؛ لِأنَّهم كانوا لا يَتَعَلَّمونَ شَيئًا مِنَ القُرآنِ حَتَّى يَتَعَلَّموا مَعانِيَه وما يُرادُ به، كما قال ابنُ مَسعودٍ: كانَ الرَّجُلُ مِنَّا إذا تَعَلَّمَ عَشْرَ آياتٍ لم يُجاوِزْهُنَّ حَتَّى يَتَعَلَّمَ مَعانيَهُنَّ والعَمَلَ بهِنَّ [2056] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (81) باختلاف يسير. صحَّحه الطبري، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (38/467) وقال: وهذا موقوف على ابن مسعود ولكنه مرفوع معنى. وأخرجه من طريق آخر: الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (1450) عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود، قال: (كنا نتعلَّم من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَشْرَ آياتٍ، فما نعلم العَشْرَ التي بعدهنَّ حتى نتعلَّم ما أُنزِل في هذه العَشرِ من العَمَل). صحَّحه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (1451). وأخرجه أحمد (23482) عن أبي عبد الرحمن قال: حدَّثَنا من كان يُقرِئُنا من أصحابِ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَشْر آيات، فلا يأخذون في العَشْرِ الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العِلمِ والعمل، قالوا: فعلمْنا العلمَ والعَمَلَ. حسَّن إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23482). . ولَمَّا كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَستَحِقُّ أن يَتَقَدَّمَهُ أحَدٌ في الصَّلاةِ وجَعلَ ما كانَ إلَيه مِنها بمَحْضَرِ جَميعِ الصَّحابةِ لِأبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، كانَ جَميعُ أمورِ الإسلامِ تَبَعًا لِلصَّلاةِ؛ ولِهَذا قَدَّمَهُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِلصَّلاةِ، والصَّلاةُ لا يَقومُ بها إلَّا الدُّعاةُ ومَن إلَيه السِّياسةُ وعَقْدُ الخِلافةِ؛ كصَلاةِ الجُمَعِ والأعيادِ الَّتي لا يَصلُحُ القيامُ بها إلَّا لِمَن إلَيه القيامُ بأمرِ الأمَّةِ وسياسةِ الرَّعيَّةِ، وصَحَّ أنَّه أفضَلُ الأمَّةِ بَعدَهُ؛ لِقيامِ الحُجَّةِ بأنَّ أَولى البَرِيَّةِ بعَقْدِ الخِلافةِ أفضَلُهم وأقوَمُهم بالحَقِّ، وأعدَلُهم وأوفَرُهم أمانةً، وأحسَنُهم عَلى مَحَجَّةِ الحَقِّ استِقامةً، وكَذلك كانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه. قال المُهلبُ: إن قال قائِلٌ: إنَّ عُمَرَ أعلَمُ مِن أبي بَكْرٍ، واستَدَلَّ بحَديثِ الذَّنوبِ والذَّنُوبَينِ، و«في نَزعِه ضَعْفٌ»، قيلَ: إنَّهُ ليسَ كما ظَنَنْتَ، إنَّما الضَّعفُ في المُدَّةِ الَّتى وَلِيَها أبو بَكْرٍ، لا فيه ولا في عِلمِه، إنَّما كانَ الضَّعْفُ في نَشْرِ السُّنَنِ لِقُربِ مُدَّتِهِ وضَعْفِها عن أن يَتَمَكَّنَ بتَثبيتٍ؛ لِأنَّه ابتُلِيَ بارتِدادِ النَّاسِ ومُقاتَلةِ العَرَبِ، وأمَّا مُراجَعةُ عائِشةَ وحِرْصُها أن يُستَخلَفَ غَيرُ أبي بَكْرٍ، فإنَّما خَشِيَتْ أن يَتَشاءَمَ النَّاسُ بإمامةِ أبي بَكْرٍ، فيقولونَ: مُذ أمَّنَا هَذا فقَدْنا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَد رُوِيَ هَذا عنها، رَضِيَ اللهُ عنها [2057] أخرجه مسلم (418) أن عائشة زوج النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالت: لقد راجعتُ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك، وما حملني على كثرةِ مراجعته إلا أنَّه لم يقَعْ في قلبي أن يحِبَّ الناسُ بعده رجلًا قام مقامَه أبدًا، وإلَّا أني كنتُ أرى أنه لن يقومَ مقامَه أحدٌ إلا تشاءم الناسُ به، فأردتُ أن يعدِلَ ذلك رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أبي بكرٍ. [2058] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (2/ 299). .
5- عن عُبَيدِ اللهِ بنِ عَبدِ اللهِ قال: د((َخَلتُ عَلى عائِشةَ فقُلتُ لها: ألَا تُحَدِّثِيني عن مَرَضِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالت: بلى، ثَقُلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أصلَّى النَّاسُ؟ قُلنا: لا، وهم يَنتَظِرونَك يا رَسولَ اللَّهِ، قال: ضَعُوا لي ماءً في المِخْضَبِ، ففَعَلْنا فاغتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ [2059])) (ناء... يَنوءُ نوءًا: أي: نهض وطلع). يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/ 122). فأُغمِيَ عليه، ثُمَّ أفاقَ فقال: أصلَّى النَّاسُ؟ قُلنا: لا، وهم يَنتَظِرونَك يا رَسولَ اللَّه، فقال: ضَعُوا لي ماءً في المِخْضَبِ، ففَعَلْنا فاغتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فأُغمِيَّ عليه، ثُمَّ أفاقَ فقال: أصلَّى النَّاسُ؟ فقُلْنا: لا، وهم يَنتَظِرونَكَ يا رَسولَ اللَّهِ، قالت: والنَّاسُ عُكوفٌ في المَسجِدِ يَنتَظِرونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِصَلاةِ العِشاءِ الآخِرةِ، قالت: فأرسَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أبي بَكرٍ أن يُصَلِّيَ بالنَّاسِ، فأتاهُ الرَّسولُ فقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأمُرُكَ أن تُصَلِّيَ بالنَّاسِ، فقال أبو بَكْرٍ، وكانَ رَجُلًا رَقيقًا: يا عُمَرُ صَلِّ بالنَّاسِ، قال: فقال عُمَرُ: أنتَ أحَقُّ بذلك، قالت: فصَلى بهِم أبو بَكرٍ تِلكَ الأيَّامَ، ثُمَّ إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَجَدَ مِن نَفسِه خِفَّةً، فخَرجَ بينَ رَجُلَينِ أحَدُهما العَبَّاسُ لِصَلاةِ الظُّهرِ، وأبو بَكْرٍ يُصَلِّي بالنَّاسِ، فلَمَّا رَآهُ أبو بَكْرٍ ذَهَبَ ليَتَأخَّرَ فأومَأَ إلَيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ لا يَتَأخَّر، وقال لهما: أجلِسَاني إلى جَنْبِه فأجْلَساهُ إلى جَنبِ أبي بَكْرٍ، وكانَ أبو بَكْرٍ يُصَلِّي وهوَ قائِمٌ بصَلاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والنَّاسُ يُصَلُّونَ بصَلاةِ أبي بَكْرٍ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاعِدٌ، قال عُبَيدُ اللَّهِ: فدَخَلْتُ عَلى عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ فقُلْتُ له: ألَا أعرِضُ عليكَ ما حَدَّثَتْني عائِشةُ عن مَرَضِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: هاتِ، فعَرَضْتُ حَديثَها عليه فما أنكَرَ مِنهُ شَيئًا غَيرَ أنَّه قال: أسَمَّتْ لكَ الرَّجُلَ الَّذي كانَ مَعَ العَبَّاسِ؟ قُلتُ: لا، قال: هو عليٌّ)) [2060] رواه البخاري (687)، ومسلم (418) واللَّفظُ له. .
قال النَّوَويُّ: (فيه فوائِدُ؛ مِنها فضيلةُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه، وتَرجيحُهُ عَلى جَميعِ الصَّحابةِ رِضْوانُ اللهِ عليهِم أجمَعينَ وتَفضيلُهُ، وتَنبيهٌ عَلى أنَّه أحَقُّ بخِلافةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن غَيرِه. ومِنها: أنَّ الإمامَ إذا عَرَضَ لهُ عُذرٌ عن حُضورِ الجَماعةِ استَخلَفَ مَن يُصَلِّي بهِم، وأنَّه لا يَستَخلِفُ إلَّا أفضَلَهم، ومِنها: فضيلةُ عُمَرَ بَعدَ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه؛ لِأنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه لم يَعدِلْ إلى غَيرِه) [2061] يُنظر: ((شرح مسلم)) (4/137). .
وقَد فهِمَ عُمرُ رَضِيَ اللهُ عنه مِن تَقديمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِأبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في إمامةِ الصَّلاةِ أنَّه أحَقُّهم بالخِلافةِ؛ فعن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (لَمَّا قُبِضَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالتِ الأنصارُ: مِنَّا أميرٌ، ومِنكم أميرٌ، قال: فأتاهَم عُمرُ فقال: يا مَعْشَرَ الأنصارِ، ألستُم تَعلَمونَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد أمرَ أبا بَكْرٍ يُصَلِّي بالنَّاسِ؟ فأيُّكم تَطيبُ نَفسُهُ أن يَتَقَدَّمَ أبا بَكْرٍ؟ قالوا: نَعوذُ باللَّهِ أن نَتَقَدَّمَ أبا بَكرٍ!) [2062] أخرجه النسائي (777) واللَّفظُ له، وأحمد (3765). حسَّنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/151)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (854)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (4423)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (5/323)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (777)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3765)، وجوَّده الذهبي في ((المهذب)) (6/3253). .
عن أبي بَكرٍ المَرُّوذيِّ قال: (قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: لَمَّا مَرِضَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَدَّم أبا بَكْرٍ ليُصَلِّيَ بالنَّاسِ، وقَد كانَ في القَومِ مَن هو أقرَأُ مِنهُ، وإنَّما أرادَ الخِلافةَ) [2063] يُنظر: ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 216). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (المَقصودُ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَدَّمَ أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ إمامًا لِلصَّحابةِ كُلِّهِم في الصَّلاةِ الَّتي هيَ أكبَرُ أركانِ الإسلامِ العَمَليَّةِ. قال الشَّيخُ أبو الحَسَنِ الأشعَريُّ: وتَقديمُهُ لهُ أمرٌ مَعلومٌ بالضَّرورةِ مِن دينِ الإسلامِ، قال: وتَقديمُهُ لهُ دَليلٌ عَلى أنَّه أعلَمُ الصَّحابةِ وأقرَؤُهم؛ لِما ثَبتَ في الخَبَرِ المُتَّفَقِ عَلى صِحَّتِه بينَ العُلَماءِ: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَؤُمُّ القَومَ أقرَؤُهم لِكِتابِ اللَّهِ، فإنْ كانوا في القِراءةِ سَواءً فأعلَمُهم بالسُّنَّةِ، فإنْ كانوا في السُّنَّةِ سَواءً فأكبَرُهم سِنًّا، فإنْ كانوا في السِّنِّ سَواءً فأقَدَمُهم سِلْمًا)) [2064] رواه مسلم (673) باختلافٍ يسير من حديثِ أبي مسعود عُقبةَ بنِ عمرٍو رضي الله عنه. ، قُلتُ: وهَذا مِن كلامِ الأشعَريِّ رَحِمَهُ اللهُ مِمَّا يَنبَغي أن يُكتَبَ بماءِ الذَّهَبِ، ثُمَّ قَدِ اجتَمَعَت هَذِه الصِّفاتُ كُلُّها في الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه وأرضاه) [2065] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (8/ 57). .
وقال البيهَقيُّ بَعدَ ذِكرِ الأحاديثِ الَّتي فيها تَقديمُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه في إمامةِ الصَّلاةِ: (هَذِه الأخبارُ وما في مَعناها تَدُلُّ عَلى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَأى أن يَكونَ الخَليفةَ مِن بَعدِه أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ، فنَبَّهَ أمَّتَهُ بما ذَكَرَ مِن فضيلَتِه وسابِقَتِه وحُسنِ أثَرِه، ثُمَّ بما أمرَهم به مِنَ الصَّلاةِ خَلفَهُ، ثُمَّ بالِاقتِداءِ به وبِعُمرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهما عَلى ذلك، وإنَّما لم يَنُصُّ عليه نَصًّا لا يَحتَمِلُ غَيرَهُ -واللهُ أعلَمُ-؛ لِأنَّه عَلِمَ بإعلامِ اللهِ إيَّاهُ أنَّ المُسْلِمينَ يَجتَمِعونَ عليه، وأنَّ خِلافَتَهُ تَنعَقِدُ بإجماعِهِم عَلى بَيعَتِه) [2066] يُنظر: ((الاعتقاد)) (ص: 403). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ بَعدَ ذِكرِه الخِلافَ في خِلافةِ الصِّدِّيقِ هَل ثَبَتَت بالنَّصِّ الجَلِيِّ أوِ الخَفِيِّ: (التَّحقيقُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَلَّ المُسْلِمينَ عَلى استِخلافِ أبي بَكْرٍ وأرشَدَهم إلَيه بأمورٍ مُتَعَدِّدةٍ مِن أقوالِه وأفعالِه، وأخبَرَ بخِلافَتِه إخبارَ راضٍ بذلك، حامِدٍ لهُ، وعَزمَ عَلى أن يَكتُبَ بذلك عَهدًا، ثُمَّ عَلِمَ أنَّ المُسْلِمينَ يَجتَمِعونَ عليه فتَرَكَ الكِتابَ اكتِفاءً بذلك... فلَو كانَ التَّعيينُ مِمَّا يَشتَبِهُ عَلى الأمَّةِ لَبَيَّنَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيانًا قاطِعًا لِلعُذرِ، لكِنْ لَمَّا دَلَّتْهُم دَلالاتٌ مُتَعَدِّدةٌ عَلى أنَّ أبا بَكْرٍ هو المُتَعَيِّنُ وفَهموا ذلك حَصَلَ المَقصودُ؛ والأحكامُ يُبَيِّنُها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تارةً بصيغةٍ عامَّةٍ، وتارةً بصيغةٍ خاصَّةٍ؛ ولِهَذا قال عُمرُ بنُ الخَطَّابِ في خُطبَتِه الَّتي خَطبَها بمَحضَرٍ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ: «ولَيسَ فيكم مَن تُقطَعُ إلَيه الأعناقُ مِثلَ أبي بَكرٍ» [2067] رواه البخاري (6830) مطولًا باختلاف يسير من حديثِ ابن عباس رضي الله عنهما. ... فخِلافةُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ دَلَّتِ النُّصوصُ الصَّحيحةُ عَلى صِحَّتِها وثُبوتِها، ورِضا اللهِ ورَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهُ بها، وانعَقَدَت بمُبايَعةِ المُسْلِمينَ لهُ واختيارِهِم إيَّاهُ اختيارًا استَندوا فيه إلى ما عَلِموهُ مِن تَفضيلِ اللهِ ورَسولِه، وأنَّه أحَقُّهم بهَذا الأمرِ عِندَ اللهِ ورَسولِه، فصارَت ثابِتةً بالنَّصِّ والإجماعِ جَميعًا، ولَكِنَّ النَّصَّ دَلَّ عَلى رِضا اللهِ ورَسولِه بها، وأنَّها حَقٌّ، وأنَّ اللهَ أمرَ بها وقَدَّرَها، وأنَّ المُؤمِنين يَختارونَها، وكانَ هَذا أبلَغَ مِن مُجَرَّدِ العَهدِ بها؛ لِأنَّه حينَئِذٍ كانَ يَكونُ طَريقُ ثُبوتِها مُجَرَّدَ العَهدِ، وأمَّا إذا كانَ المُسْلِمونَ قَدِ اختاروهُ مِن غَيرِ عَهدٍ، ودَلَّتِ النُّصوصُ عَلى صَوابِهِم فيما فعَلوهُ، ورِضا اللهِ ورَسولِه بذلك؛ كانَ ذلك دَليلًا عَلى أنَّ الصِّدِّيقَ كانَ فيه مِنَ الفَضائِلِ الَّتي بانَ بها عن غَيرِه ما عَلِمَ المُسْلِمونَ به أنَّه أحَقُّهم بالخِلافةِ، فإنَّ ذلك لا يُحتاجُ فيه إلى عَهدٍ خاصٍّ) [2068] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 516-525). .
ثالثًا: الإجماعُ على خِلافةِ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ
نَقلَ عَدَدٌ مِن أهلِ العِلمِ إجماعَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم ومَن بَعدَهُم عَلى أحقيَّةِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بالخِلافةِ.
1- قال ابنُ السَّقاءِ: (أجمَعَ المُهاجِرونَ والأنصارُ عَلى خِلافةِ أبي بَكْرٍ، وقالوا له: يا خَليفةَ رَسولِ اللَّهِ، ولَم يُسَمَّ أحَدٌ بَعدَهُ خَليفةً، ويُقالُ: إنَّهُ قُبِضَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ثَلاثينَ ألفَ مُسْلِمٍ كُلٌّ قال لِأبي بَكرٍ: يا خَليفةَ رَسولِ اللَّهِ، ورَضُوا به، ومَن بَعدَه رَضِيَ اللهُ عنهم إلى حَيثُ انتَهَينا، قيلَ لهم: أميرُ المُؤْمِنينَ) [2069] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (11/ 354). .
2- قال أبو الحَسَنِ الأشعَريُّ: (أثنى اللهُ تعالى عَلى المُهاجِرينَ والأنصارِ والسَّابِقين إلى الإسلامِ، وعَلى أهلِ بَيعةِ الرِّضوانِ، ونَطَقَ القُرآنُ بمَدحِ المُهاجِرينَ والأنصارِ رَضِيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ في مَواضِعَ كثيرةٍ، وأثنى عَلى أهلِ بَيعةِ الرِّضوانِ، فقال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرةِ الآية، وقَد أجمَعَ هَؤُلاءِ الَّذينَ أثنى اللهُ عليهِم ومَدحَهم عَلى إمامةِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه، وسَمَّوه خَليفةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبايَعوهُ وانقادوا لهُ، وأقَرُّوا لهُ بالفَضلِ، وكانَ أفضَلَ الجَماعةِ في جَميعِ الخِصالِ الَّتي يَستَحِقُّ بها الإمامةَ؛ مِنَ العِلمِ والزُّهدِ، وقوَّةِ الرَّأيِ، وسياسةِ الأمَّةِ، وغَيرِ ذلك)  [2070]يُنظر: ((الإبانة)) (ص: 251). .
وقال أيضًا بَعدَ ذِكرِه آياتٍ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ استَدَلَّ بها عَلى خِلافةِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (مِمَّا يَدُلُّ عَلى إمامةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ المُسْلِمين جَميعًا بايَعوهُ وانقادوا لِإمامَتِه، وقالوا له: يا خَليفةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم...
ثُمَّ رَأينا عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عنه والعَبَّاسَ رَضِيَ اللهُ عنه قَد بايعاهُ وأجمَعا عَلى إمامَتِه، فوَجَبَ أن يَكونَ إمامًا بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإجماعِ المُسْلِمينَ.
ولا يَجوزُ لِقائِلٍ أن يَقولَ: كانَ باطِنُ عليٍّ والعَبَّاسِ خِلافَ ظاهِرِهِما، ولَو جازَ هَذا لِمُدَّعِيه لم يَصِحَّ إجماعٌ، وجازَ لِقائِلٍ أن يَقولَ ذلك في كُلِّ إجماعٍ لِلمُسْلِمينَ.
وهَذا يُسقِطُ حُجَّةَ الإجماعِ؛ لِأنَّ اللهَ تعالى لم يَتَعَبَّدْنا في الإجماعِ بباطِنِ النَّاسِ، وإنَّما تَعَبَّدَنا بظاهِرِهِم، وإذا كانَ كذلك فقَد حَصَلَ الإجماعُ والِاتِّفاقُ عَلى إمامةِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه) [2071] يُنظر: ((الإبانة)) (ص: 255-257). .
3- قال أبو بَكرٍ الباقِلانيُّ: (كانَ رَضِيَ اللهُ عنه مَفروضَ الطَّاعةِ لِإجماعِ المُسْلِمينَ عَلى طاعَتِه وإمامَتِه، وانقيادِهم لهُ... وكانَ رَضِيَ اللهُ عنه أفضَلَ الأمَّةِ، وأرجَحَهم إيمانًا، وأكمَلَهم فَهْمًا، وأوفَرَهم عِلمًا، وأكثَرَهم حِلْمًا) [2072] يُنظر: ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 62). .
4- قال الصَّابونيُّ: (يُثبِتُ أهلُ الحَديثِ خِلافةَ أبي بَكْرٍ بَعدَ وفاةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باختيارِ الصَّحابةِ واتِّفاقِهِم عليه، وقَولِهِم قاطِبةً: «رَضِيَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لدِينِنا فرَضِيناهُ لِدُنيانا»، يَعني أنَّه استَخلَفَهُ في إقامةِ الصَّلَواتِ المَفروضاتِ بالنَّاسِ أيَّامَ مَرضِه -وهيَ الدِّينُ- فرَضِيناهُ خَليفةً لِلرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علينا في أمورِ دُنيانا، وقَولُهم: قَدَّمَكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فمَن ذا الَّذي يُؤَخِّرُكَ؟! وأرادوا أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَدَّمَكَ في الصَّلاةِ بنا أيَّامَ مَرضِه فصَلَّينا وراءَكَ بأمْرِه، فمَن ذا الَّذي يُؤَخِّرُكَ بَعدَ تَقديمِه إيَّاكَ؟
وكانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَكَلَّمُ في شَأنِ أبي بَكِر في حالِ حَياتِه بما يُبَيِّنُ لِلصَّحابةِ أنَّه أحَقُّ النَّاسِ بالخِلافةِ بَعدَهُ؛ فلِذلك اتَّفَقوا عليه واجتَمَعوا) [2073] يُنظر: ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) (ص: 290). .
5- قال البَيهَقيُّ بَعدَ ذِكرِ عِدَّةِ رِواياتٍ في مُبايَعةِ الصَّحابةِ بالخِلافةِ لِأبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (قَد صَحَّ بما ذَكَرْنا اجتِماعَهم عَلى مَبايَعَتِه مَعَ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ، فلا يَجوزُ لِقائِلٍ أن يَقولَ: كانَ باطِنُ عَليٍّ أو غَيرِهِ بخِلافِ ظاهِرِه، فكانَ عليٌّ أكبَرَ مَحَلًّا وأجلَّ قَدْرًا مِن أن يُقْدِمَ عَلى هَذا الأمرِ العَظيمِ بغَيرِ حَقٍّ، أو يُظهِرَ لِلنَّاسِ خِلافَ ما في ضَميرِه، ولَو جازَ هَذا في اجتِماعِهم عَلى خِلافةِ أبي بَكْرٍ لم يَصِحَّ إجماعٌ قَطُّ، والإجماعُ أحَدُ حُجَجِ الشَّريعةِ، ولا يَجوزُ تَعطيلُهُ بالتَّوَهُّمِ) [2074] يُنظر: ((الاعتقاد)) (ص: 413). .
6- قال عَبدُ المَلِكِ الجُوينيُّ: (أمَّا إمامةُ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه فقَد ثَبَتَت بإجماعِ الصَّحابةِ، فإنَّهم أطبَقوا عَلى بَذلِ الطَّاعةِ والِانقيادِ لِحُكمِه... وكانَ عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه مُطيعًا لهُ، سامِعًا لِأمرِه، ناهِضًا إلى غَزوةِ بني حَنيفةَ، مُتَسَرِّيًا بالجاريةِ المَغنومةِ مِن مَغنَمِهِم، وما تَخرَّصَ به الرَّوافِضُ مِن إبداءِ عليٍّ شِراسًا [2075] (الشِّراس، بالكَسرِ: الشِّدَّة في المعاملة). يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزآدي (ص: 552). وشِماسًا [2076] (شمس الفَرْسُ شُموسًا وشِماسًا: منع ظَهْرَه). يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزآدي (ص: 552). في عَقْدِ البيعةِ لهُ؛ كذِبٌ صَريحٌ، نَعَم لم يَكُن رَضِيَ اللهُ عنه في السَّقيفةِ، وكانَ مُستَخليًا بنَفسِه قَدِ استَفَزَّهَ الحُزنُ عَلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! ثُمَّ دَخلَ فيما دَخلَ النَّاسُ فيه، وبايَعَ أبا بَكْرٍ عَلى مَلأٍ مِنَ الأشهادِ) [2077] يُنظر: ((الإرشاد)) (ص: 446). .
7- قال ابنُ قُدامةَ في أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (وهوَ أحَقُّ خَلقِ اللهِ تعالى بالخِلافةِ بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِفَضلِه وسابِقَتِه، وتَقديمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهُ في الصَّلاةِ عَلى جَميعِ الصَّحابةِ رِضوانُ الله عليهِم، وإجماعِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم عَلى تَقديمِه ومُتابَعَتِه، ولَم يَكُنِ اللهُ ليَجمَعَهم عَلى ضَلالةٍ)  [2078] يُنظر: ((لمعة الاعتقاد)) (ص: 36). .
8- قال القُرطُبيُّ: (أجمَعَتِ الصَّحابةُ عَلى تَقديمِ الصِّدِّيقِ بَعدَ اختِلافٍ وقَعَ بينَ المُهاجِرين والأنصارِ في سَقيفةِ بني ساعِدةَ في التَّعيينِ، حَتَّى قالتِ الأنصارُ: مِنَّا أميرٌ، ومِنكم أميرٌ، فدَفَعَهم أبو بَكْرٍ وعُمرُ والمُهاجِرونَ عن ذلك، وقالوا لهم: إنَّ العَربَ لا تَدِينُ إلَّا لِهَذا الحَيِّ مِن قُرَيشٍ، ورَوَوا لهمُ الخَبَرَ في ذلك، فرَجَعوا وأطاعوا لِقُرَيشٍ) [2079] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (1/264). .
9- قال ابنُ تَيميَّةَ: (لَمَّا اتَّفَقوا عَلى بَيعَتِه، ولَم يَقُلْ قَطُّ أحَدٌ: إنِّي أحَقُّ بهَذا الأمرِ مِنهُ، لا قُرَشِيٌّ ولا أنصاريٌّ؛ فإنَّ مَن نازَعَ أوَّلًا مِنَ الأنصارِ لم تَكُن مُنازَعَتُهُ لِلصِّدِّيقِ، بَل طَلَبوا أن يَكونَ مِنهم أميرٌ، ومِن قُرَيشٍ أميرٌ، وهَذِه مُنازَعةٌ عامَّةٌ لِقُرَيشٍ، فلَمَّا تَبَيَّنَ لهم أنَّ هَذا الأمرَ في قُرَيشٍ قَطعوا المُنازَعةَ، وقال لهمُ الصِّدِّيقُ: «رَضِيتُ لكم أحَدَ هَذينِ الرَّجُلَينِ: عُمرَ بنَ الخَطَّابِ، أو أبا عُبَيدةَ بنَ الجَرَّاحِ، قال عُمَرُ: فكُنتُ واللهِ أن أُقَدَّمَ فتُضرَبَ عُنُقي لا يُقَرِّبُني ذلك إلى إثمٍ أحَبُّ إلَيَّ أن أتَأمَّرَ عَلى قَومٍ فيهِم أبو بَكرٍ» [2080] رواه البخاري (6830) مطولًا باختلاف يسير من حديثِ ابن عباس رضي الله عنه. ، وقال لهُ بمَحضَرِ الباقينَ: «أنتَ خَيرُنا وأفضَلُنا وأحَبُّنا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» [2081] رواه البخاري (3668) من حديثِ عائشة رضي الله عنها بلفظ: (فأنت سَيِّدُنا وخَيْرُنا وأحبُّنا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ، وقَد ثَبَتَ ذلك في الأحاديثِ الصَّحيحةِ، ثُمَّ بايَعوا أبا بَكْرٍ مِن غَيرِ طَلَبٍ مِنهُ، ولا رَغبةٍ بُذِلَت لهم ولا رَهبةٍ، فبايَعَه الَّذينَ بايَعوا الرَّسولَ تَحتَ الشَّجَرةِ، والَّذينَ بايَعوهُ ليلةَ العَقَبةِ، والَّذينَ بايعوهُ لَمَّا كانوا يُهاجِرونَ إلَيه، والَّذينَ بايعوهُ لَمَّا كانوا يُسْلِمونَ مِن غَيرِ هِجْرةٍ كالطُّلَقاءِ وغَيرِهِم، ولَم يَقُلْ أحَدٌ قَطُّ: إنِّي أحَقُّ بهَذا مِن أبي بَكْرٍ، ولا قالهُ أحَدٌ في أحَدٍ بعَينِه: إنَّ فلانًا أحَقُّ بهَذا الأمرِ مِن أبي بَكْرٍ، وإنَّما قال مَن فيه أثَرُ جاهِليَّةٍ عَرَبيَّةٍ أو فارسيَّةٍ: إنَّ بَيتَ الرَّسولِ أحَقُّ بالوِلايةِ؛ لِأنَّ العَربَ -في جاهِليَّتِها- كانَت تُقَدِّمُ أهلَ بَيتِ الرُّؤساءِ، وكَذلك الفُرْسُ يُقَدِّمونَ أهلَ بَيتِ المَلِكِ، فنُقِلَ عَمَّنْ نُقِلَ عنه كلامٌ يُشيرُ به إلى هَذا... وصاحِبُ هَذا الرَّأيِ لم يَكُن لهُ غَرَضٌ في عَليٍّ، بَل كانَ العَبَّاسُ عِندَهُ بحُكمِ رَأيِه أَولى مِن عَليٍّ، وإن قُدِّرَ أنَّه رَجَّحَ عَلِيًّا، فلِعِلمِه بأنَّ الإسلامَ يُقَدِّمُ الإيمانَ والتَّقوى عَلى النَّسَبِ، فأرادَ أن يَجمَعَ بينَ حُكمِ الجاهِليَّةِ والإسلامِ. فأمَّا الَّذينَ كانوا لا يَحكُمونَ إلَّا بحُكمِ الإسلامِ المَحْضِ وهوَ التَّقديمُ بالإيمانِ والتَّقوى، فلَم يَختَلِفْ مِنهم اثنانِ في أبي بَكْرٍ، ولا خالَفَ أحَدٌ مِن هَؤُلاءِ ولا مِن هَؤُلاءِ في أنَّه ليسَ في القَومِ أعظَمُ إيمانًا وتَقوى مِن أبي بَكْرٍ؛ فقَدَّموهُ مُختارينَ لهُ مُطيعينَ، فدَلَّ ذلك عَلى كمالِ إيمانِهِم وتَقواهُم واتِّباعِهِم لِما بَعثَ اللهُ به نَبيَّهُم مِن تَقديمِ الأتقى فالأتقى، وكانَ ما اختارَهُ اللهُ لِنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولَهم أفضَلَ لهم، والحَمدُ لِلَّهِ عَلى أنْ هَدى هَذِه الأمَّةَ، وعَلى أن جَعَلَنا مِن أتباعِهِم) [2082] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (6/ 454-456). .
10- قال ابنُ كثيرٍ: (قَدِ اتَّفَقَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم عَلى بَيعةِ الصِّدِّيقِ حَتَّى عليُّ بنُ أبي طالِبٍ والزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عنهما وأَرضاهما) [2083] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (9/ 415). .

انظر أيضا: