الموسوعة العقدية

المبحثُ الثَّاني: الأدِلَّةُ من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ على ذَمِّ التفَرُّقِ والتحذيرِ منه

1- عن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من رَأى من أميرِه شيئًا يَكرَههُ فليصبِرْ؛ فإنَّه من فارَقَ الجَماعةَ شِبرًا فماتَ فمِيتةٌ جاهِليَّةٌ )) [965] رواه البخاري (7054)، ومسلم (1849) واللَّفظُ له. .
قال ابنُ بطالٍ: (في هذه الأحاديثِ حُجَّةٌ في تَركِ الخُروجِ على أئِمَّةِ الجَورِ ولُزومِ السَّمعِ والطَّاعةِ لَهم، والفُقهاءُ مُجمِعونَ على أنَّ الإمامَ المُتَغَلِّبَ طاعَتُه لازِمةٌ، ما أقامَ الجُمُعاتِ والجِهادَ، وأنَّ طاعَتَهُ خيرٌ من الخُروجِ عليه؛ لِما في ذلك من حَقنِ الدِّماءِ وتَسكينِ الدَّهماءِ...
فدَلَّ هذا كُلُّهُ على تَركِ الخُروجِ على الأئِمةِ، وألَّا يَشُقَّ عَصا المُسلِمين، وألَّا يَتَسَبَّبَ إلى سَفكِ الدِّماءِ وهَتْكِ الحَريمِ، إلَّا أن يَكفُرَ الإمامُ ويُظهِرَ خِلافَ دَعوةِ الإسلامِ، فلا طاعةَ لمَخلوقٍ عليه) [966] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (10/8). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: ((شِبرًا))... هيَ كِنايةٌ عن مَعصيةِ السُّلطانِ ومُحارَبَتِه، قال ابنُ أبي جَمرةَ: المُرادُ بالمُفارَقةِ السَّعيُ في حَلِّ عَقْدِ البَيعةِ الَّتي حَصَلَت لذلك الأميرِ ولَو بأدنى شيءٍ، فكَنَّى عنها بمِقدارِ الشِّبْرِ؛ لأنَّ الأخذَ في ذلك يَؤولُ إلى سَفكِ الدِّماءِ بغيرِ حَقٍّ... والمُرادُ بالمِيتةِ الجاهِليَّةِ -وهيَ بكَسرِ الميمِ- حالةُ المَوتِ كموتِ أهلِ الجاهِليَّةِ على ضَلالٍ، وليسَ لَهُ إمامٌ مُطاعٌ؛ لأنَّهم كانوا لا يَعرِفونَ ذلك، وليسَ المُرادُ أنَّه يَموتُ كافِرًا، بَل يَموتُ عاصيًا.
ويُحتَمَلُ أن يَكونَ التشبيهُ على ظاهِرِه، ومَعناهُ أنَّه يَموتُ مِثلَ مَوتِ الجاهِليِّ وإن لم يَكُن هو جاهِليًّا، أو أنَّ ذلك ورَدَ مورِدَ الزَّجْرِ والتنفيرِ، وظاهِرُهُ غيرُ مُرادٍ) [967] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/6). .
2- عن أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من خَرجَ من الطَّاعةِ وفارَقَ الجَماعةَ فمات، مات مِيتةً جاهِليَّةً، ومن قاتَلَ تَحتَ رايةٍ عُمِّيَّةٍ يَغضَبُ لعَصَبةٍ، أو يَدعو إلى عَصَبةٍ، أو يَنصُرُ عَصَبةً، فقُتِلَ، فقِتلةٌ جاهِليَّةٌ، ومن خَرجَ على أمَّتي، يَضرِبُ بَرَّها وفاجِرَها، ولا يَتَحاشَى من مُؤمِنِها، ولا يَفي لِذي عَهدٍ عَهْدَه، فليسَ مني ولَستُ منه. وفي رِوايةٍ: لا يَتَحاشى من مُؤمِنِها )) [968] رواه مسلم (1848). .
قال النَّوَويُّ: ( ((مات مِيتةً جاهِليَّةً)) هيَ بكَسرِ الميمِ، أي: على صِفةِ موتِهم من حيثُ هم فوضى لا إمامَ لَهم... ((ومن قاتَلَ تَحتَ رايةٍ عُمِّيَّةٍ)) هيَ بضَمِّ العينِ وكَسرِها لغَتانِ مَشهورَتانِ، والميمُ مَكسورةٌ مُشَدَّدةٌ، والياءُ مُشَدَّدةٌ أيضًا، قالوا: هيَ الأمرُ الأعمَى لا يَستَبينُ وَجْههُ، كذا قالهُ أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ والجُمهورُ، قال إسحاقُ بنُ راهَوَيه: هذا كتَقاتُلِ القَومِ للعَصَبيَّةِ... ((يَغضَبُ لعَصَبةٍ أو يَدعو إلى عَصَبةٍ أو يَنصُرُ عَصَبةً))... مَعناهُ إنَّما يُقاتِلُ عَصَبيَّةً لقَومِه وهواهُ... ((ومن خَرجَ على أمَّتي يَضرِبُ بَرَّها وفاجِرَها ولا يَتَحاشَى من مُؤمِنِها))... مَعناهُ: لا يكتَرِثُ بما يَفعَلُه فيها، ولا يَخافُ وبالَهُ) [969] يُنظر: ((شرح مسلم)) (12/238). .
3- عنِ الحارِثِ الأشعَريِّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من فارَقَ الجَماعةَ قِيدَ شِبرٍ فقدْ خَلعَ رِبْقةَ الإسلامِ من عُنُقِه إلَّا أن يَرجِعَ)) [970] أخرجه مطولًا الترمذي (2863) واللَّفظُ له، وأحمد (17170). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (6233)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1/582)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (8/6). .
 قال عَلِي القاري: (المَعنى: من فارَقَ ما عليه الجَماعةُ بتَركِ السُّنَّةِ واتِّباعِ البِدعةِ، ونَزعَ اليَدَ عنِ الطَّاعةِ، ولَو كان بشيءٍ يَسيرٍ يقدرُ في الشَّاهِدِ بقَدرِ شِبرٍ، ((فقد خَلعَ رِبْقةَ الإسلامِ)) أي: نَقضَ عَهْدَهُ وذِمَّتَه ((من عُنُقِه)) وانحَرَفَ عنِ الجَماعةِ وخَرجَ عنِ الموافَقةِ) [971] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (6/2406). .
4- عن عَرفَجةَ الأشجَعيِّ رَضيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يَقولُ: ((إنَّه سَتَكونُ هَنَاتٌ وهَنَاتٌ، فمن أرادَ أن يُفَرِّقَ أمرَ هذه الأمَّةِ وهيَ جَميعٌ فاضرِبوه بالسَّيفِ كائِنًا مَن كان )). وفي رِوايةٍ: ((فاقتُلوه)) [972] رواه مسلم (1852). .
قال النَّوَويُّ: (فيه الأمرُ بقِتالِ من خَرجَ على الإمامِ أو أراد تَفريقَ كلِمةِ المُسلِمينَ ونَحوَ ذلك، ويُنهى عن ذلك، فإنْ لم يَنتَهِ قُوتِلَ، وإن لم يَندَفِعْ شَرُّهُ إلَّا بقَتلِه فقُتِلَ كان هَدرًا، فقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فاضرِبوه بالسَّيفِ)) وفي الرِّوايةِ الأخرَى: ((فاقتُلوهُ)) مَعناه: إذا لم يَندَفِعْ إلَّا بذلك) [973] يُنظر: ((شرح مسلم)) (12/241). .
5- عن عَبدِ اللهِ بن مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ يَشهدُ أنْ لا إلَهُ إلَّا اللَّهُ وأنِّي رَسولُ اللهِ إلَّا بإحدَى ثَلاثٍ: الثِّيبُ الزَّاني، والنَّفسُ بالنَّفسِ، والتارِكُ لدينِه المُفارِقُ للجَماعةِ )) [974] رواه مسلم (1676). .
قال النَّوَويُّ: (أمَّا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((والتارِكُ لدينِه المُفارِقُ للجَماعةِ)) فهو عامٌّ في كُلِّ مُرتَدٍّ عنِ الإسلامِ بأيِّ رِدَّةٍ كانت، فيَجِبُ قَتلُه إن لم يَرجِع إلى الإسلامِ، قال العُلماءُ: ويَتَناوَلُ أيضًا كُلَّ خارِجٍ عنِ الجَماعةِ ببِدعةٍ أو بَغْيٍ أو غيرِهما، وكَذا الخَوارِجُ. واللَّهُ أعلمُ) [975] يُنظر: ((شرح مسلم)) (11/165). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (المُرادُ بالجَماعةِ جَماعةُ المُسلِمين أي: فارَقَهم أو تَركَهم بالارتِدادِ، فهيَ صِفةٌ للتَّارِكِ أوِ المُفارِقِ لا صِفةٌ مُستَقِلَّةٌ، وإلَّا لَكانتِ الخِصالُ أربَعًا) [976] يُنظر: ((فتح الباري)) (12/201). .
6- عن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ بَنِي إسرائيلَ افتَرَقَت على إحدَى وسَبْعين فِرقةً، وإنَّ أمَّتي سَتَفتَرِقُ على ثِنْتَينِ وسَبْعينَ فِرقةً كُلُّها في النَّارِ إلَّا واحِدةً، وهيَ الجَماعةُ )) [977] أخرجه من طرق ابن ماجه (3993) واللَّفظُ له، وأحمد (12208) دون ذكر الجماعة. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3993)، وصحَّحه بشواهده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12208)، وصحَّح إسنادَه العراقي في ((الباعث على الخلاص)) (16، وجوَّده وقوَّاه على شرط الصَّحيح: ابنُ كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/27). .
قال الشَّاطِبيُّ: (إنَّ قَولَهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إلَّا واحِدةً)) قد أعطَى بنَصِّه أنَّ الحَقَّ واحِدٌ لا يَختَلِفُ؛ إذ لَو كان للحَقِّ فِرَقٌ أيضًا لم يَقُلْ: ((إلَّا واحِدةً))، ولِأنَّ الاختِلافَ مَنفيٌّ عنِ الشَّريعةِ بإطلاقٍ؛ لأنَّها الحاكِمةُ بينَ المُختَلِفين، لقَولِه تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] ، الآية، فردَّ التنازُعَ إلى الشَّريعةِ، فلَو كانتِ الشَّريعةُ تَقتَضي الخِلافَ لم يَكُن في الرَّدِّ إليها فائِدةٌ) [978] يُنظر: ((الاعتصام)) (3/193). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (بيَّنَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ عامَّةَ المُختَلِفينَ هالِكَون من الجانِبينِ إلَّا أهلَ السُّنَّةِ والجَماعةِ) [979] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/545). .
 وقال المناويُّ: (اعلَمْ أنَّ جَميعَ المَذاهِبِ الَّتي فارَقَتِ الجَماعةَ إذا اعتَبَرْتَها وتَأمَّلْتَها لم تَجِد لَها أصلًا فلِذلك سُمُّوا فِرَقًا؛ لأنَّهم فارَقوا الإجْماعَ، وهذا من مُعجِزاتِه؛ لأنَّه إخبارٌ عن غيبٍ وقَعَ، وهذه الفِرَقُ وإنْ تَبايَنَت مَذاهِبُهم مُتَّفِقونَ على إثباتِ الصَّانِعِ، وأنَّه الكامِلُ مُطلَقًا، الغَنيُّ عن كُلِّ شيءٍ، ولا يَستَغني عنه شيءٌ، فإنْ قيلَ: ما وثوقُكَ بأنَّ تِلكَ الفِرْقةَ النَّاجيةَ هيَ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ مَعَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ من الفِرَقِ يَزعُمُ أنَّه هيَ دونَ غيرِه؟ قُلنا: ليسَ ذلك بالادِّعاءِ والتثَبُّتِ باستِعمالِ الوَهمِ القاصِرِ والقَولِ الزَّاعِمِ، بَل بالنَّقلِ عن جَهابِذةِ هذه الصَّنعةِ، وأئِمَّةِ أهلِ الحَديثِ الَّذينَ جَمَعوا صِحاحَ الأحاديثِ في أمرِ المُصطَفَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأحوالِه وأفعالِه وحَرَكاتِه وسَكَناتِه، وأحوالِ الصَّحْبِ والتابِعين، كالشَّيخينِ وغَيرِهما الثِّقاتِ المَشاهيرِ، الَّذينَ اتَّفَقَ أهلُ المَشرِقِ والمَغرِبِ على صِحَّةِ ما في كُتُبِهم، وتَكفَّلَ باستِنباطِ مَعانيها وكَشْفِ مُشكِلاتِها؛ كالخَطابيِّ والبَغَويِّ والنَّوَويِّ، جَزاهمُ اللَّهُ خيرًا، ثُمَّ بَعدَ النَّقلِ يَنظُرُ إلى من تَمَسَّكَ بهَدْيِهم، واقتَفَى أثرَهم، واهتَدَى بسيرَتِهم في الأصولِ والفُروعِ، فيَحكُمُ بأنَّهم هم، وفيه كثرةُ أهلِ الضَّلالِ، وقِلَّةُ أهلِ الكَمالِ، والحَثُّ على الاعتِصامِ بالكِتابِ والسُّنَّة، ولُزومِ ما عليه الجَماعةُ) [980] يُنظر: ((فيض القدير)) (2/20).
 وقال ابنُ باز: (الفِرْقةُ النَّاجيةُ: هيَ الجَماعةُ المُستَقيمةُ على ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه رَضيَ اللهُ عنهم؛ من تَوحيدِ اللَّهِ، وطاعةِ أوامِرِه وتَرِكِ نواهيه، والاستِقامةِ على ذلك قَولًا وعَمَلًا وعَقيدةً، هم أهلُ الحَقِّ، وهم دُعاةُ الهُدَى ولَو تَفَرَّقوا في البِلادِ، يَكونُ منهم في الجَزيرةِ العَرَبيَّةِ، ويَكونُ منهم في الشَّامِ، ويَكونُ منهم في أمريكا، ويَكونُ منهم في مِصرَ، ويَكونُ منهم في دُولِ أفريقيا، ويَكونُ منهم في آسيا، فهم جَماعاتٌ كَثيرةٌ يُعرَفونَ بعَقيدَتِهم وأعمالِهم، فإذا كانوا على طَريقةِ التوحيدِ والإيمانِ باللهِ ورَسولِه، والاستِقامةِ على دينِ اللهِ الَّذي جاءَ به الكِتابُ وسُنَّةُ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهمْ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وإن كانوا في جِهاتٍ كَثيرةٍ، ولَكِن في آخِرِ الزَّمانِ يَقِلُّونَ جِدًّا. فالحاصِلُ: أنَّ الضَّابِطَ هو استِقامَتُهم على الحَقِّ، فإذا وُجِدَ إنسانٌ أو جَماعةٌ تَدعو إلى كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَدعو إلى تَوحيدِ اللهِ واتِّباعِ شَريعَتِه، فهؤلاء همُ الجَماعةُ، وهم من الفِرْقةِ النَّاجيةِ، وأمَّا من دَعا إلى غيرِ كِتابِ اللهِ، أو إلى غيرِ سُنَّةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهذا ليسَ من الجَماعةِ، بَل من الفِرَقِ الضَّالَّةِ الهالِكةِ، وإنَّما الفِرقةُ النَّاجيةُ: دُعاةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإن كانت منهم جَماعةٌ هُنا، وجَماعةٌ هُناكَ، ما دامَ الهدَفُ والعَقيدةُ واحِدةً) [981] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (8/182). .
 وقال ابنُ عُثيمين: (الَّذينَ كانوا على ما كان عليه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه همُ الجَماعةُ الَّذينَ اجتَمَعوا على شَريعَتِه، وهمُ الَّذينَ امتَثلوا ما وصَّى اللَّهُ به: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] ؛ فهم لم يَتَفَرَّقوا، بَل كانوا جَماعةً واحِدةً) [982] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/371). .
7- عن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَجُلًا قَرَأ آيةً وسَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقرَأُ خِلافَها، فُجِئْتُ به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرْتُه، فعَرَفتُ في وجهِه الكَراهيةَ، وقال: ((كِلاكُما مُحْسِنٌ، ولا تَختَلِفوا، فإنَّ مَن كان قَبلَكمُ اختَلَفوا فهَلَكوا )) [983] رواه البخاري (3476). .
قال ابنُ تيمِيَّةَ: (نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الاختِلافِ الَّذي فيه جَحْدُ كُلِّ واحِدٍ من المُختَلِفينَ ما مَعَ الآخَرِ من الحَقِّ؛ لأنَّ كِلا القارِئينِ كان مُحْسِنًا فيما قَرَأهُ، وعَلَّلَ ذلك: بأنَّ مَن كان قَبلَنا اختَلَفوا فهلَكوا... واعلم أنَّ أكثَرَ الاختِلافِ بينَ الأمَّةِ الَّذي يُورِثُ الأهواءَ تَجِدُه من هذا الضَّربِ، وهو: أن يَكونَ كُلُّ واحِدٍ من المُختَلِفَينِ مُصيبًا فيما يُثبِتُه أو في بَعضِه، مُخطِئًا في نَفيِ ما عليه الآخَرُ) [984] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/143-145). .
وقد بيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الاختِلافَ في الكِتابِ سَبَبُ هَلاكِ من كان قَبلَنا؛ فعن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما قال: هجَّرْتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومًا، فسَمِعَ أصَواتَ رَجُلين اختَلَفا في آيةٍ، فخَرجَ عَلينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعرَفُ في وَجْهِه الغَضَبُ فقال: ((إنَّما هلَكَ من كان قَبلَكم باختِلافِهم في الكِتابِ )) [985] رواه مسلم (2666). .
قال عَلِي القاري: (كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لا يَغضَبُ لنَفسِه، وإنَّما كان يَغضَبُ للَّهِ، فيَشتَدُّ به ذلك الغَضبُ حَتَّى يُرَى أثَرُه من حُمرةِ اللَّونِ ونَحوِها في وجهِه الكَريمِ ((فقال: إنَّما هلَكَ من كان قَبلَكم)): أي من اليَهودِ والنَّصارَى ((باختِلافِهم في الكِتابِ))، أيِ: المُنَزَّلِ على نَبيِّهم بأنْ قال كُلُّ واحِدٍ منهم ما شاءَ من تِلقاءِ نَفسِه) [986] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (1/238). .
وقال المُناويُّ: ( ((إنَّما هلَكَ من كان قَبلكم)) من الأمَمِ، أي: تَسَبَّبوا في إهلاكِ أنفُسِهم بالكُفْرِ والابتِداعِ ((باختِلافِهم في الكِتابِ)) أيِ الكُتُبِ المُنَزَّلةِ على أنبيائِهم، فكَفَر بَعضُهم بكِتابِ بَعضٍ، فهلَكوا؛ فلا تَختَلِفوا أنتُم في الكِتابِ، وأرادَ بالاختِلافِ ما أوقَعَ في شَكٍّ أو شُبهةٍ أو فتنةٍ أو شَحناءَ أو نَحوِها) [987] يُنظر: ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) (1/364). .
وقال الصَّنعانيُّ: ( ((إنَّما هلَكَ من كان قَبلكم باختِلافِهم في الكِتابِ )) أي: ما هلكَ الأوَّلون في دينِهم إلَّا أنَّهمُ اختَلَفوا في ألفاظِ كِتابِهمُ المُنزَّلِ عليهم... وهو نَهيٌ عنِ التفَرُّقِ والاختِلافِ في كِتابِ اللهِ، فإنَّه مَنشَأٌ لكُلِّ شَرٍّ) [988] يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (4/200). .
وفي رِوايةٍ أخرَى عن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ نَفَرًا كانوا جُلوسًا ببابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال بَعضُهم: ألم يَقُلِ اللَّهُ كذا وكَذا؟ وقال بَعضُهم: ألم يَقُلِ اللَّهُ كذا وكَذا؟ فسَمِعَ ذلك رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فخَرج كأنَّما فُقِئَ في وَجهِه حَبُّ الرُّمَّانِ! فقال: بهذا أُمِرْتُم؟! أو بهذا بُعِثتُم؟! أن تَضرِبوا كِتابَ اللهِ بَعضَهُ ببَعضٍ؟ إنَّما ضَلَّتِ الأُمَمُ قَبلَكم في مِثلِ هذا، إنَّكُم لستُم مِمَّا هاهُنا في شيءٍ، انظُروا الَّذي أُمِرْتُم به فاعمَلوا به، والَّذي نُهيتُم عنه فانتَهوا)) [989] أخرجه ابن ماجه (85)، وأحمد (6845) واللَّفظُ له. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (85)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6845)، وصحَّح إسنادَه البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (1/53)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/153). وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (3/311): مشهور، روى مسلم بعضَه، وسائره معروف في مسند أحمد وغيره. والحديث أخرج بعضه مسلم (1337) بلفظ: كان أبو هريرة يحدِّثُ أنَّه سمع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((ما نهيتُكم عنه فاجتَنِبوه، وما أمرتُكم به فافعلوا منه ما استطعتُم؛ فإنما أهلك الذين من قَبلِكم كثرةُ مسائِلِهم، واختلافُهم على أنبيائهم)). .
 قال الصَّنعانيُّ: (إنَّما غَضِبَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأنَّ القدَرَ سِرٌّ من أسرارِ اللَّهِ، وطَلَبُ سِرِّ اللهِ مَنهيٌّ عنه) [990] يُنظر: ((التحبير)) (3/174). .
8- جاءَ عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ إلى عَبدِ اللهِ بنِ مُطيعٍ، حينَ كان من أمرِ الحَرَّةِ ما كان زَمَنَ يَزيدَ بنِ مُعاويةَ. فقال: اطرَحوا لأبي عَبدِ الرَّحمَنِ وسادةً؛ فقال: إنِّي لم آتِكَ لأجلِسَ، أتيتُكَ لأحَدِّثَكَ حَديثًا سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُه؛ سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((من خَلعَ يَدًا من طاعةٍ لَقيَ اللَّهَ يَومَ القيامةِ لا حُجَّةَ لَهُ، ومن مات وليسَ في عُنُقِه بيعةٌ مات مِيتةً جاهِليَّةً )) [991] رواه مسلم (1851). .
 قال ابنُ عَلَّان: (هو شامِلٌ لعَدَمِ المُبايَعةِ والدُّخولِ في الطَّاعةِ ابتِداءً ولِلخُروجِ عنها بَعدَ الدُّخولِ فيها، والمُرادُ بالجَماعةِ الإمامُ وجيشُ الإسلامِ، ويَجوزُ أن يُرادَ به مُفارَقةُ الجَماعةِ في الصَّلَواتِ كالرَّوافِضِ؛ فإنَّه لبِدَعَتِهم لا يَرَونَ الدُّخولَ تَحتَ طاعةِ أئِمَّةِ الحَقِّ والانقيادِ لَهم إلَّا اضطِرارًا وتَقيَّةً ((فإنَّه يَموتُ مِيتةً جاهِليَّةً)) أي: مات على هيئةِ مَوتِ أهلِ الجاهِليَّةِ فإنَّهم كانوا أفرادًا لا إمامَ يَردَعُهم ولا جَماعةَ تَجمَعُهم) [992] يُنظر: ((دليل الفالحين)) (5/128). .
9- عن أنسِ بن مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَباغَضوا ولا تَحاسَدوا ولا تَدابَروا، وكُونوا عِبادَ اللهِ إخوانًا، ولا يَحِلُّ لمُسلِمٍ أن يَهجُرَ أخاهُ فوقَ ثَلاثٍ )) [993] رواه البخاري (6076)، ومسلم (2559) واللَّفظُ له. .
 قال ابنُ جَريرٍ: (غيرُ جائِزٍ لمُسلِمٍ أن يَهجُرَ مُسلِمًا أكثَرَ من ثَلاثةِ أيَّامٍ، وأنَّه إنَّ هَجرَهُ أكثَرَ من ثَلاثةِ أيَّامٍ أثِمَ، وكان أمرُه إلى اللهِ؛ إن شاءَ عَذَّبَه، وإن شاءَ عَفا عنه؛ لأنَّه عليه السَّلامُ أخبَرَ أنَّه لا يَحِلُّ ذلك، ومن فعلَ ما هو مَحظورٌ عليه فقدِ اقتَحَمَ حِمَى اللهِ، وانتَهَكَ حُرمَتَه) [994] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/269). .
وقال ابنُ عُثيمين في فوائِدِ الحَديثِ الشَّريفِ: (النَّهيُ عنِ التباغُضِ، وإذا نُهيَ عنِ التباغُضِ أُمِرَ بالتَحابِّ، وعلى هذا فتَكونُ هذه الجُملةُ مُفيدةً لشيئينِ:
الأوَّلُ: النَّهيُ عنِ التباغُضِ، وهو مَنطوقُها.
والثَّاني: الأمرُ بالتِحابِّ، وهو مَفهومُها...
النَّهيُ عنِ التدابُرِ، سَواءٌ بالأجسامِ أو بالقُلوبِ.
التدابُرُ بالأجسامِ بأن يُوليَ الإنسانُ ظَهرَهُ ظَهْرَ أخيه؛ لأنَّ هذا سوءُ أدَبٍ، ويَدُلُّ على عَدَمِ اهتِمامِه به، وعلى احتِقارِه له، ويُوجِبُ البَغضاءَ.
والتدابُرُ القَلبيُّ بأن يَتَّجِهَ كُلُّ واحِدٍ منَّا إلى جِهةٍ أخرَى، بأن يَكونَ وجهُ هذا يَمينًا ووَجهُ هذا شِمالًا، ويَتَفَرَّعُ على هذا: وُجوبُ الاجتِماعِ على كلِمةٍ واحِدةٍ بقَدرِ الإمكانِ، فلنُقَرِّبِ الهُوَّةَ بينَنا حَتَّى نَكونَ على هدَفٍ واحِدٍ، وعلى منهاجٍ واحِدٍ، وعلى طَريقٍ واحِدٍ، وإلَّا حَصَلَ التدابُرُ.
وانظُرِ الآنَ الأحزابَ المَوجودةَ في الأمُمِ كيفَ هم مُتَدابِرونَ في الواقِعِ، كُلُّ واحِدٍ يُريدُ أن يَقَعَ الآخَرُ في شَرَكِ الشَّرِّ؛ لأنَّهم مُتَدابِرونَ.
فالتدابُرُ حَرامٌ، ولا سيَّما التدابُرِ في القُلوبِ؛ لِما يَتَرَتَّبُ عليه من الفَسادِ) [995] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 344-346). .
10- عن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: ((خَطَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَطًّا بيدِه، ثُمَّ قال: هذا سَبيلُ اللهِ مُستَقيمًا، قال: ثُمَّ خَطَّ عن يَمينِه وشِمالِه، ثُمَّ قال: هذه السُّبُلُ ليسَ منها سَبيلٌ إلَّا عليه شيطانٌ يَدعو إليه، ثُمَّ قَرَأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام: 153] )) [996] أخرجه أحمد (4437) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (11175)، وابن حبان في ((صحيحه)) (7). صحَّحه ابن حبان، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (4/281)، والألباني في ((شرح الطحاوية)) (525)، وحسنه الوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (848)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (3241)، والقرطبي في ((التفسير)) (9/116)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (6/199)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (4437). .
 قال المظهريُّ: (هذا إشارةٌ إلى أنَّ سَبيلَ اللهِ وسَطٌ ليسَ فيه تَقصيرٌ ولا إسرافٌ، وسَبيلُ أهلِ البِدَعِ مائِلٌ إلى جانِبٍ، يَعني: فيه تَقصيرٌ أو غُلوٌّ) [997] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (1/273). .  
11- عنِ النَّواسِ بنِ سَمعانَ الأنصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ضَربَ اللَّهُ مَثَلًا صِراطًا مُستَقيمًا وعلى جَنبَتَيِ الصِّراطِ سُورانِ بينَهما أبوابٌ مُفتَّحةٌ، وعلى الأبوابِ سُتورٌ مُرخاةٌ، وعلى بابِ الصِّراطِ داعٍ يَقولُ: يا أيُّها النَّاسُ ادخُلوا الصِّراطَ جَميعًا ولا تَعُوجوا، وداعٍ يَدعو من فوقِ الصِّراطِ، فإذا أرادَ الإنسانُ أن يَفتَحَ شيئًا من تِلكَ الأبوابِ قال: ويحَكَ لا تَفتَحْه؛ فإنَّكَ إن تَفتَحْه تَلِجْه، فالصِّراطُ الإسلامُ، والسُّورانِ حُدودُ اللهِ، والأبوابُ المُفتَّحةُ مَحارِمُ اللَّهِ، وذلك الدَّاعي على رَأسِ الصِّراطِ كِتابُ اللَّهِ، والدَّاعي من فوقِ الصِّراطِ واعِظُ اللَّهِ في قَلبِ كُلِّ مُسلِمٍ )) [998] أخرجه من طرق الترمذي (2859)، وأحمد (17634) واللَّفظُ له. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2859)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17634)، وصحَّح إسنادَه ابن كثير في ((التفسير)) (1/43)، وجوَّده ابن تيمية في ((جامع الرسائل)) (2/97). .
قال الصَّنعانيُّ: ( ((ولا تَعوجوا)) بالجيمِ، أي: تَميلُ، يُقالُ: عاجَ يَعُوجُ: إذا حادَ عنِ الطَّريقِ... ((وذلك الدَّاعي على رَأسِ الصِّراطِ: كِتابُ اللَّهِ)) فإنَّه رَأسُ الإسلامِ وأصلُه، فكَأنَّه واقِفٌ على رَأسِ الإسلامِ؛ فإنَّه يَدعو النَّاسَ إلى الدُّخولِ في الإسلامِ ويَنهاهم عنِ اتِّباعِ طُرُقِ الضَّلالِ، مُنتَزَعٌ من قَولِه تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعامِ: 153] ، ((والدَّاعي من فوق)) أي: من فوقِ الصِّراطِ. ((واعِظُ اللَّهِ في قَلبِ كُلِّ مُسلِمٍ)) جَعلَهُ فوقَ الصِّراطِ وهو الإسلامُ؛ لأنَّه أقرَبُ إلى العَبيدِ وأقدَمُ، وهو الدَّاعي إلى اتِّباعِ الإسلامِ) [999]) يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (7/100). .

انظر أيضا: