الفَرعُ الثَّاني: أدِلَّةُ ارتباطِ الإيمانِ بالعَمَلِ
من أظهَرِ الأدِلَّةِ على هذا التركيبِ والامتزاجِ أنَّه قد وردت النُّصوصُ بتسميةِ الإيمانِ عَمَلًا، وتسميةِ العَمَلِ إيمانًا.
فأمَّا تسميةُ الأعمالِ إيمانًا فنصوصٌ كثيرةٌ جِدًّا، حتى إنَّ
البخاريَّ عقد في كتابِ الإيمانِ من الصَّحيحِ تراجِمَ كثيرةً لذلك: مِثلُ (بابٌ: الجهادُ من الإيمانِ، بابٌ: تطوُّعُ قيامِ رمضانَ من الإيمانِ، بابٌ: صومُ رمضانَ من الإيمانِ، بابٌ: الصَّلاةُ من الإيمانِ، بابٌ: اتِّباعُ الجنائِزِ من الإيمانِ)، ونحو ذلك، وأورد في ذلك الأحاديثَ الصَّحيحةَ التي شاركه في إخراجِها أصحابُ كُتُبِ السُّنَّةِ الأخرى.
وأمَّا تسميةُ الإيمانِ عَمَلًا فقد عقد أيضًا له (باب من قال: إنَّ الإيمانَ هو العَمَلُ؛ لقَولِه تعالى:
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72] ، وقال عِدَّةٌ من أهلِ العِلمِ في قَولِه تعالى:
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92-93] : عن قَولِ لا إلهَ إلَّا اللهُ. وقال:
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات: 61] )
. ثمَّ روى بإسنادِه عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِل: أيُّ العَمَلِ أفضَلُ؟ فقال
((إيمانٌ باللهِ ورَسولِه )) قيل: ثمَّ ماذا؟ قال:
((الجِهادُ في سبيلِ اللهِ))، قيل: ثمَّ ماذا؟ قال:
((حَجٌّ مبرورٌ ))
.
ومن الأدِلَّةِ القُرآنيَّةِ:1- قَولُ اللهِ تعالى:
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37 ].
فقَولُه:
بِمَا عَمِلُوا يشمَلُ إيمانَهم بُقلوبِهم وأعمالِهم الصَّالحةِ بجَوارِحِهم؛ المذكورينَ قَبلُ.
2- قَولُ اللهِ سُبحانَه:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 143].
ثبت في سَبَبِ نُزولِ هذه الآيةِ كما في حديثِ البراءِ الطَّويلِ وغَيرِه، وفي آخِرِه
((أنَّه مات على القِبلةِ قبل أن تُحَوَّلَ رِجالٌ وقُتِلوا، فلم نَدْرِ ما نقولُ فيهم؛ فأنزل اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))
.
ووضع
البخاريُّ هذا الحديثَ في مواضِعَ، ومنها: (بابٌ: الصَّلاةُ من الإيمانِ)
.
قال الحليمي: (أجمع المفَسِّرون على أنَّه أراد: صلاتَكم إلى بيتِ المقدِسِ، فثبت أنَّ الصَّلاةُ إيمانٌ، وإذا ثبت ذلك، فكُلُّ طاعةٍ إيمانٌ؛ إذ لم أعلَمْ فارقًا في هذه التسميةِ بين الصَّلاةِ وسائِرِ العِباداتِ)
.
وقال
السعديُّ: (في هذه الآيةِ دليلٌ لمذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّ الإيمانَ تدخُلُ فيه أعمالُ الجوارِحِ)
.
وقال
ابنُ عُثَيمين في فوائِدِ هذه الآيةِ: (منها: أنَّ العَمَلَ مِن الإيمانِ؛ لِقَولِه تعالى:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ؛ فإنها فُسِّرَت بالصَّلاةِ إلى بيتِ المَقدِسِ، وهذا مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: أنَّ العمَلَ داخِلٌ في الإيمانِ، وهذا أحَدُ أدِلَّتِهم. ومِن الدَّليلِ على ذلك قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعون شُعبةً؛ فأفضَلُها قَولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها: إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ، والحياءُ شُعبةٌ مِن الإيمانِ ))
، فقَولُ: «لا إلهَ إلَّا اللهُ» مِن أعمالِ اللِّسانِ، و «إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ» من أعمالِ الجوارِحِ، وقَولُه: صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الحياءُ شُعبةٌ من الإيمانِ» من أعمالِ القُلوبِ، كما أنَّ الإيمانَ أيضًا يُطلَقُ على الاعتقادِ؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((الإيمانُ أن تؤمِنَ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه ))
، فقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أن تؤمِنَ باللهِ» هذا اعتقادُ القَلبِ؛ فالإيمانُ عند أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ يَشمَلُ: اعتقادَ القَلْبِ، وقَولَ اللِّسانِ، وعَمَلَ القَلْبِ، وعَمَلَ الجوارِح. ووَجهُ كَونِ الأعمالِ مِن الإيمانِ أنَّها صادرةٌ عن إيمانٍ؛ الإيمانُ هو الذي حمل عليها، ولهذا لا يُعَدُّ عَمَلُ المنافِقِ من الإيمانِ. عمَلُ المنافِقِ؛ صلاتُه، وذِكْرُه لله، ونَفقاتُه: لا يُعَدُّ من الإيمانِ؛ لأنَّه صادِرٌ عن غيرِ إيمانٍ)
.
3- قَولُ اللهِ تعالى:
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (استدَلَّ كثيرٌ مِن الأئمَّةِ -ك
الزُّهريِّ، و
الشَّافعيِّ- بهذه الآيةِ الكريمةِ على أنَّ الأعمالَ داخِلةٌ في الإيمانِ؛ ولهذا قال:
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)
.
4- قَولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 1-4] .
قال
البَغَوي: (
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ يقولُ: ليس المؤمِنُ الذي يخالِفُ اللهَ ورسولَه، إنما المؤمِنون الصَّادِقون في إيمانِهم: الذين إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَت قُلوبُهم، خافت وفَرِقَت قُلوبُهم،... وقال عُمَيرُ بنُ حَبيبٍ، وكانت له صُحبةٌ: إنَّ للإيمانِ زيادةً ونُقصانًا، قيل: فما زيادتُه؟ قال: إذا ذكَرْنا اللهَ عزَّ وجَلَّ وحَمِدْناه، فذلك زيادتُه، وإذا سَهَونا وغَفَلْنا فذلك نُقصانُه، وكَتَب
عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ إلى عَدِيِّ بنِ عَدِيٍّ: إنَّ للإيمانِ فرائِضَ وشرائِعَ وحُدودًا وسُنَنًا، فمَن استكمَلَها استكمَلَ الإيمانَ، ومن لم يستكمِلْها لم يستكمِلِ الإيمانَ)
.
ومن السُّنَّةِ النبَوِيَّةِ:1- حديثُ وَفدِ عبدِ القَيسِ، وفيه قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((آمُرُكم بالإيمانِ باللهِ وَحْدَهـ))، وقال:
((هل تدرون ما الإيمانُ باللهِ وَحْدَهـ))؟ قالوا: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ. قال:
((شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وأن تُعْطوا من الغنائِمِ الخُمُسَ )) الحديث
.
قال
الخَطَّابي: (قد أعلَمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الحديثِ أنَّ الصَّلاةَ والزكاةَ مِن الإيمانِ، وكذلك صومُ رمضانَ وإعطاءُ خُمُسِ الغنيمةِ، وكان هذا جوابًا عن مسألةٍ صَدَرت عن جَهالةٍ بالإيمانِ وشرائِطِه، فأخبرهم عمَّا سألوه، وعَلَّمَهم ما جَهِلوه، وجَعَل هذه الأمورَ من الإيمانِ كما جعل الكَلِمةَ منه، وليس بين هذا وبين قَولِه:
((أُمِرْتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتى يقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ )) خِلافٌ؛ لأنَّه كَلِمةُ شِعارٍ وقعت الدَّعوةُ بها إلى الإيمانِ؛ لتكونَ أمارةً للدَّاخلين في الإيمانِ، والقابلين لأحكامِه؛ وهذا كلامٌ قُصِد فيه البيانُ والتفصيلُ له، والتفصيلُ لا يناقِضُ الجُملةَ، لكِنْ يلائِمُها ويُطابِقُها)
.
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (معلومٌ أنَّه لم يُرِدْ أنَّ هذه الأعمالَ تكونُ إيمانًا باللهِ بدُونِ إيمانِ القَلْبِ؛ لِما قد أخبَرَ في مواضِعَ أنَّه لا بُدَّ من إيمانِ القَلبِ، فعُلِمَ أنَّ هذه مع إيمانِ القَلْبِ هو الإيمانُ، وأيُّ دليلٍ على أنَّ الأعمالَ داخِلةٌ في مُسَمَّى الإيمانِ فوق هذا الدلَّيلِ؟! فإنَّه فَسَّر الإيمانَ بالأعمالِ، ولم يذكُرِ التصديقَ؛ للعِلمِ بأنَّ هذه الأعمالَ لا تفيدُ مع الجُحودِ)
.
2- قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا يَزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمِنٌ )) الحديث
وما في معناه من الأحاديثِ في نَفْيِ الإيمانِ عمَّن ارتَكَب الكبائِرَ، وتَرَك الواجباتِ.
قال
ابنُ رَجَبٍ: (فلولا أنَّ تَرْكَ هذه الكبائِرِ من مُسَمَّى الإيمانِ، لَمَا انتفى اسمُ الإيمانِ عن مرتكِبِ شَيءٍ منها؛ لأنَّ الاسمَ لا ينتفي إلَّا بانتفاءِ بَعضِ أركانِ المسَمَّى أو واجباتِهـ)
.
3- من الأحاديثِ أيضًا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((الطُّهورُ شَطرُ الإيمانِ ))
قال الحَلِيميُّ: (الأعمالُ إذا كانت إيمانًا كان بكمالِها تكامُلُ الإيمانِ، وبتناقُصِها تناقُصُ الإيمانِ، وكان المؤمنون متفاضِلين في إيمانِهم، كما هم متفاضِلون في أعمالِهم، وحَرُم أن يقولَ قائِلٌ: «إيماني وإيمانُ الملائِكةِ والنبيِّين واحِدٌ!»؛ لأنَّ الطاعاتِ كُلَّها إذا كانت إيمانًا فمَن كان أكثَرَ طاعةً كان أكثَرَ إيمانًا، ومن كان أفضَلَ طاعةً كان أفضَلَ إيمانًا، ومن خَلَط الطَّاعاتِ بالمعاصي كان أنقَصَ إيمانًا ممَّن أخلَصَ الطَّاعاتِ)
.