الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الخامِسُ: ما يُوزَنُ في الميزانِ

اختَلَفَ أهلُ العِلمِ في المَوزونِ في ذلك اليَومِ على أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ الذي يُوزَنُ في ذلك اليَومِ الأعمالُ نَفسُها.
ومنَ الأدِلَّةِ على ذلك ظاهرُ حَديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كلِمَتانِ حَبَيبَتانِ إلى الرَّحمَنِ، خَفيفَتانِ على اللِّسانِ، ثَقيلَتانِ في الميزانِ: سُبحانَ اللهِ وبِحَمدِه، سُبحانَ اللهِ العَظيمِ )) [3882] أخرجه البخاري (7563) واللَّفظُ له، ومسلم (2694). .
وعن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ الله عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما من شىءٍ أثقَلُ في الميزانِ من حُسْنِ الخُلُقِ )) [3883] أخرجه من طرُقٍ: أبو داود (4799) واللَّفظُ له، والترمذي (2002)، وأحمد (27555). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (481)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4799)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1041)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27555). .
وقد بوَّب البُخاريُّ في آخِرِ الصَّحيحِ: (باب قَولِ الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: 47] ، وأنَّ أعمالَ بني آدَم وقَولَهم يُوزَنُ).
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه: ((ليَأتي الرَّجُلُ العَظيمُ السَّمينُ يَومَ القيامةِ لا يَزِنُ عِندَ اللهِ جَناحَ بَعُوضةٍ))؛ أي: لا قيمةَ له ولا قَدْرَ؛ إذ لا عَمَلَ له يُوزَنُ، فإنَّ الأعمالَ هيَ التي تُوزَنُ، أي: صِحَّتُها لا أشخاصُ العامِلينَ، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه: أتَعْجَبونَ من حُموشةِ ساقَيه؟ لهيَ أثقَلُ في الميزانِ من أُحُدٍ، أو كما قال [3884] أخرجه أحمد (920)، وأبو يعلى (539)، والطبراني (9/97) (8516) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه لغيره: شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (920)، وحسَّنه لغيره الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/584)، وصحَّح إسناده الطبري في ((مسند علي)) (162)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/180)، وحسَّنه ابن حجر في ((الإصابة)) (2/370). ، أي: الأعمالُ التي عَمِلَ بها أثقَلُ في الميزانِ، لا أنَّ ساقَيه تُوضَعانِ في الميزانِ ولا شَخصَه، كما قد ذَهَبَ إليه بَعضُ المُتَكَلِّمينَ على هذه الآيةِ [3885] أي: قوله تعالى: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] . فقال: إنَّ الأشخاصَ تُوزَنُ) [3886] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 359). .
وقال ابنُ دَقيقِ العيدِ: (قد تَظاهَرَت نُصوصُ القُرآنِ والسُّنَّةِ على وزنِ الأعمالِ) [3887] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 85). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (وقد ورَدَتْ الأحاديثُ بوَزنِ الأعمالِ أنفُسِها، كما في صَحيحِ مُسلِمٍ، من طَريقِ أبي سَلامٍ، عن أبي مالِكٍ الأشعَريِّ، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الطُّهورُ شَطرُ الإيمانِ، والحَمدُ لله تَملَأُ الميزانَ، وسُبحانَ اللهِ والحَمدُ لله تَمَلَآنِ ما بينَ السَّمَواتِ والأرضِ، والصَّلاةُ نورٌ، والصَّدَقةُ بُرهانٌ، والصَّبرُ ضياءٌ، والقُرآنُ حُجَّةٌ لَك أو عليك، كُلُّ النَّاسِ يَغْدو، فبائِعٌ نَفسَه فمُعتِقُها أو مُوبِقُها )) [3888] أخرجه مسلم (223). . فقَولُه: ((والحَمدُ لله تَملَأ الميزانَ)) فيه دَلالةٌ على أنَّ العَمَلَ نَفسَه يُوزَنُ، وذلك بأحَدِ شَيئينَ:
إمَّا أنَّ العَمَلَ نَفسَه وإن كان عَرَضًا قد قامَ بالفاعِلِ، يُحيلُه اللهُ تعالى يَومَ القيامةِ، فيَجعَلُه ذاتًا توضَعُ في الميزانِ، كما ورَدَ في الحَديثِ الذي أخرجه ابنُ أبي الدُّنيا: حَدَّثنا أبو خَيثَمةَ، ومُحَمَّدُ بن سُلَيمان، وغَيرُهما، قالوا: حَدَّثنا سَفيانُ بنُ عُيَينةَ، عن عَمرِو بنِ دينارٍ، عن ابنِ أبي مُلَيكةَ، عن يَعلى بن مملكٍ، عن أمِّ الدَّرداءِ، عن أبي الدَّرداءِ، عن النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أثقَلُ شَيءٍ يوضَعُ في الميزانِ خُلُقٌ حَسَنٌ)). وكَذا أخرجه الإمامُ أحمَدُ، عن سُفيانَ بنِ عُيَينةَ به [3889] أخرجه من طرق أبو داود (4799)، والترمذي (2002)، وأحمد (27555)، وابن أبي الدنيا في ((التواضع والخمول)) (172) باختلافٍ يسيرٍ صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (481)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4799)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1041)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27555). .
الأمرُ الثَّاني: أنَّ العَمَلَ نَفسَه يُوزَنُ بوَضعِ الصَّحيفةِ التي كُتِبَ فيها العَمَلُ، فيُوزَنُ العَمَلَ بالصَّحيفةِ، كما في حَديثِ البِطاقةِ [3890] لفظ الحديث: عن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عنهما يقول: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إن اللهَ سيخلِّصُ رجلًا من أمَّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامةِ، فينشُرُ عليه تسعة وتسعين سِجِلًّا كلُّ سِجِلٍّ مِثلُ مَدِّ البصر ثم يقول: أتنكِرُ من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا ربِّ، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنةً؛ فإنه لا ظُلمَ عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، فيقول: احضُرْ وَزْنَك، فيقول: يا ربِّ، ما هذه البطاقة مع هذه السِّجِلات؟! فقال: إنك لا تُظلَمُ، قال: فتوضَعُ السِّجِلات في كفَّة والبطاقة في كفة، فطاشت السِّجِلات وثَقُلت البطاقة؛ فلا يثقُلُ مع اسم اللهِ شيءٌ)). أخرجه الترمذي (2639) واللَّفظُ له، وابن ماجه (4300)، وأحمد (6994) من حديثِ عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (225)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1/46)، وابن الملقن على شرط مسلم في ((شرح البخاري)) (33/595). . واللهُ أعلَمُ. وقد جاءَ أنَّ العامِلَ نَفسَه يُوزَنُ، كما قال البُخاريُّ: حَدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الله، حَدَّثنا سَعيدُ بن أبي مَريَم، أخبَرَنا المُغيرةُ، حَدَّثَني أبو الزِّنادِ، عن الأعرَجِ، عن أبي هُريرةَ، عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّه ليَأتي الرَّجُلُ العَظيمُ السَّمينُ يَومَ القيامةِ لا يَزِنُ عِندَ اللهِ جَناحَ بَعُوضةٍ. وقال: اقرَؤوا إنْ شِئتُم: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] )) [3891] أخرجه البخاري (4729)، ومسلم (2785) باختلافٍ يسيرٍ [3892] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (19/ 504). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (الصَّحيحُ أنَّ الأعمالَ هيَ التي تُوزَنُ) [3893] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/ 539). .
وقال القَسْطَلَّانيُّ: (الأعمالُ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ تُجَسَّمُ حينَئِذٍ) [3894] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (9/ 397). .
وقال ابن حجر الهيتمي في حَديثِ ((والحَمدُ لله تَملَأ الميزانَ)): (فيه -كالآياتِ والأحاديثِ الشَّهيرةِ- إثباتُ الميزانِ ذي الكِفَّتينِ واللِّسانِ، ووَزنُ الأعمالِ بها بَعدَ أن تُجسَّمَ، كما يُؤتى بالمَوتِ في صورةِ كبشٍ يُذبَحُ بينَ الجَنةِ والنَّارِ، وكَما في حَديثِ: ((يَأتي القُرآنُ يَومَ القيامةِ تَقْدَمُه البَقرةُ وآلُ عِمْرانَ ... )) الحَديثُ. أو تُوزَنُ صَحائِفُها فتَثقُلُ بالحَسَناتِ فَضلًا، وتَطيشُ بالسَّيئاتِ عَدْلًا منه سُبحانَه وتعالى، وتكونُ الحَسَناتُ في أحسَنِ صورةٍ، والسَّيئاتُ في أقبَحِ صورةٍ)  [3895]يُنظر: ((الفتح المبين بشرح الأربعين)) (ص: 398). .
وقال المُناويُّ: (الحَقُّ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ أنَّ الأعمالَ تُجسَّدُ أو تُجعَلُ في أجسامٍ، فتَصيرُ أعمالُ الطَّائِعينَ في صورةٍ حَسَنةٍ، وأعمالُ المَسيئينَ في صورةٍ قَبيحةٍ، ثُمَّ تُوزَنُ) [3896] يُنظر: ((فيض القدير)) (5/ 483). .
وقال ابنُ عُثَيمين في فوائِد حَديثِ: ((والحَمدُ لله تَملَأ الميزانَ)): (هنا يَرِدُ إشكالٌ: كيفَ يُوزَنُ العَمَلُ وهو ليس بجِسمٍ؟ وكَيفَ الحَمدُ تَملَأ الميزانَ وهيَ ليست بجِسمٍ؟ والجَوابُ عن كُلِّ هذا سَهلٌ، وهو: أنَّ الله عزَّ وجَلَّ قادِرٌ على أن يَجعَلَ الأعمالَ أجسامًا والمَعانيَ أجسامًا، فإنَّه على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ عزَّ وجَلَّ، ألم يَثبُتْ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه أخبَرَ أنَّ البَقرةَ وآلَ عِمرانَ تَأتيانِ يَومَ القيامةِ كأنَّهما غَمامَتانِ أو غيايَتانِ تُظِلَّانِ صاحِبَهما [3897] أخرجه مسلم (804) من حديثِ أبي أمامة الباهلي رَضِيَ اللهُ عنه بلفظ: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((اقرؤوا القرآنَ؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوينِ: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيانِ يومَ القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرقانِ مِن طيرٍ صوافَّ تحاجَّانِ عن أصحابهما..)). ، وهما عَمَلٌ؟! لَكِنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ.
أليسَ قد ثَبَتَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ المَوتَ يُؤتى به يَومَ القيامةِ على صورةِ كبشٍ فيوقَفُ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ ويُقالُ: يا أهلَ الجَنةِ فيَطَّلِعونَ ويَشرَئِبُّونَ، فيُقالُ: هَل تَعرِفونَ هذا؟ فيَقولونَ: نَعَم، هذا المَوتُ، يُقالُ: يا أهلَ النَّارِ، فيَطَّلِعونَ ويَشرَئِبُّونَ، ويُقالُ: هَل تَعرِفونَ هذا؟ فيَقولونَ: نَعَم، هذا المَوتُ، ثُمَّ يُذبَحُ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، ويُقالُ: يا أهلَ الجَنَّةِ خُلودٌ ولا مَوتَ، يا أهلَ النَّارِ خُلودٌ ولا مَوتَ [3898] أخرجه البخاري (4730)، ومسلم (2849) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، والمَوتُ مَعنَويٌّ. فالمُهم أن نَقولَ: إنَّ الميزانَ يَومَ القيامةِ حِسِّيٌّ، حَقيقيٌّ، تُوزَنُ به الأعمالُ، فمَن ثَقُلَت مَوازينُه فأولَئِك همُ المُفلِحونَ، ومن خَفَّتْ مَوازينُه فقد خَسِروا أنفُسَهم) [3899] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 231). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ الذي يُوزَنُ هو العامِلُ نَفسُه.
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّه ليَأتي الرَّجُلُ العَظيمُ السَّمينُ يَومَ القيامةِ لا يَزِنُ عِندَ اللهِ جَناحَ بَعُوضةٍ، وقال: اقرَؤوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] )) [3900] أخرجه البخاري (4729) واللَّفظُ له، ومسلم (2785). .
وعن ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه أنَّه كان يَجتَني سِواكًا من الأراكِ، وكان دَقيقَ السَّاقينِ، فجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكفَؤُه، فضَحِكَ القَومُ منه! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مِمَّ تَضحَكونَ؟!))، قالوا: يا نَبيَّ اللهِ، من دِقَّةِ ساقَيه! فقال: ((والذي نَفسي بيدِه لهما أثقَلُ في الميزانِ من أُحُدٍ )) [3901] أخرجه أحمد (3991) واللَّفظُ له، وابن حبان (7069)، والطبراني (9/75) (8452).  صحَّحه ابن حبان، والألباني بطرقه في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2750)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3991)، وحسَّنه ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/32)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (849)، وجود إسناده وقواه ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (2/29). .
قال الشِّنقيطيُّ: (قد دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحيحةُ على أنَّ مَعنى الآيةِ يَدخُلُ فيه الكافِرُ السَّمينَ العَظيمُ البَدَنِ، لا يَزِنُ عِندَ الله يَومَ القيامةِ جَناحَ بَعُوضةٍ، قال البُخاريُّ في صَحيحِه في تَفسيرِ هذه الآيةِ: حَدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الله، حَدَّثنا سَعيدُ بن أبي مَريَم، أخبَرَنا المُغيرةُ بنُ عَبدِ الرَّحمَنِ، حَدَّثَني أبو الزِّنادِ عن الأعرَجِ عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّه ليَأتي الرَّجُلُ العَظيمُ السَّمينُ يَومَ القيامةِ لا يَزِنُ عِندَ اللهِ جَناحَ بَعُوضةٍ، وقال: اقرَؤوا فلا نُقيمُ لهم يَومَ القيامةِ وزنًا ))، وعن يَحيى بن بَكيرٍ، عن المُغيرةِ بن عَبدِ الرَّحمَنِ، عن أبي الزِّنادِ مِثلَه اهـ، من البُخاريِّ. وهذا الحَديثُ أخرَجَه أيضًا مُسلِمٌ في صَحيحِه، وهو يَدُلُّ على أنَّ نَفسَ الكافِرِ العَظيمِ السَّمينِ لا يَزِنُ عِندَ الله جَناحَ بَعوضةٍ، وفيه دَلالةٌ على وزنِ الأشخاصِ) [3902] يُنظر: ((أضواء البيان)) (3/ 352). .
القَولُ الثَّالِثُ: أنَّ الذي يُوزَنُ صَحائِفُ الأعمالِ
عن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ الله عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الله سَيُخَلِّصُ رَجُلًا من أمَّتي على رُؤوسِ الخَلائِقِ يَومَ القيامةِ فيَنشُرُ عليه تِسعةً وتِسعينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقولُ: أتُنكِرُ مِن هذا شَيئًا؟ أظلَمَك كتَبَتي الحافِظونَ؟ فيَقولُ: لا يا رَبِّ، فيَقولُ: أفلَك عُذرٌ؟ فيَقولُ: لا يا رَبِّ، فيَقولُ: بلى إنَّ لَك عِندَنا حَسَنةً فإنَّه لا ظُلمَ عليك اليَومَ، فتُخرَجُ بطاقةٌ فيها: أشهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه، فيَقولُ: احضُرْ وزنَك، فيَقولُ: يا رَبِّ، ما هذه البِطاقةُ مَعَ هذه السِّجِلَّاتِ؟! فقال: إنَّك لا تُظلَمُ، قال: فتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ في كِفَّةٍ والبِطاقةُ في كِفَّةٍ، فطاشَتِ السِّجِلَّاتُ وثَقُلَتِ البِطاقةُ، فلا يَثقُلُ مَعَ اسمِ اللهِ شَيءٌ )) [3903] أخرجه الترمذي (2639) واللَّفظُ له، وابن ماجه (4300)، وأحمد (6994). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (225)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1/46)، وابن الملقن على شرط مسلم في ((شرح البخاري)) (33/595). .
ومِمَّن ذَهَبَ إلى هذا القَولِ القُرطُبيُّ، فقال: (الصَّحيحُ أنَّ المَوازينَ تَثقُلُ بالكُتُبِ فيها الأعمالُ مَكتوبةً وبِها تَخِفُّ، ... فالصُّحُفُ أجسامٌ، فيَجعَلُ اللهُ تعالى رُجحانَ إحدى الكِفَّتينِ على الأخرى دَليلًا على كثرةِ أعمالِه بإدخالِه الجَنَّةَ أوِ النَّارَ) [3904] يُنظر: ((التذكرة)) (2/ 9). .
وقال السَّفارينيُّ: (اختُلِفَ في المَوزونِ، قيلَ: يُوزَنُ العَبدُ مَعَ عَمَلِه، وقيلَ: تُوزَنُ نَفسُ الأعمالِ... والحَقُّ ما قَدَّمناه أنَّ المَوزونَ صُحُفُ الأعمالِ، وصَحَّحَه ابنُ عَبدِ البَرِّ والقُرطُبيُّ وغَيرُهما، وصوَّبَه الشَّيخُ مرعي في بَهجَتِه، وذَهَبَ إليه جُمهورٌ من المُفَسِّرينَ) [3905] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 187). .
قال البَيضاويُّ: (الجُمهورُ على أنَّ صَحائِفَ الأعمالِ تُوزَنُ بميزانٍ له لسانٌ وكِفَّتانِ، يَنظُرُ إليه الخَلائِقُ إظهارًا للمَعْدَلةِ وقَطعًا للمَعذِرةِ، كما يَسألُهم عن أعمالِهم فتَعتَرِفُ بها ألسِنَتُهم وتَشهَدُ بها جَوارِحُهم. ويُؤَيِّدُه ما رُوِيَ: أنَّ الرَّجُلَ يُؤتى به إلى الميزانِ، فيُنشَرُ عليه تِسعةٌ وتِسعونَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ البَصَرِ، فيَخرُجُ له بطاقةٌ فيها كلِمَتا الشَّهادةِ فتوضَعُ السِّجِلَّاتُ في كِفَّةٍ والبِطاقةُ في كِفَّةٍ، فطاشَتِ السِّجِلَّاتُ وثَقُلَتِ البِطاقةُ [3906] لفظ الحديثِ: عن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عنهما يقول: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إن اللهَ سيخلِّصُ رجلًا من أمَّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامةِ، فينشُرُ عليه تسعة وتسعين سِجِلًّا كلُّ سِجِلٍّ مِثلُ مَدِّ البصر ثم يقول: أتنكِرُ من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا ربِّ، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنةً؛ فإنه لا ظُلمَ عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، فيقول: احضُرْ وَزْنَك، فيقول: يا ربِّ، ما هذه البطاقة مع هذه السِّجِلات؟! فقال: إنك لا تُظلَمُ، قال: فتوضَعُ السِّجِلات في كفَّة والبطاقة في كفة، فطاشت السِّجِلات وثَقُلت البطاقة؛ فلا يثقُلُ مع اسم اللهِ شيءٌ)). أخرجه الترمذي (2639) واللَّفظُ له، وابن ماجه (4300)، وأحمد (6994) من حديثِ عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (225)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1/46)، وابن الملقن على شرط مسلم في ((شرح البخاري)) (33/595). [3907] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/ 6). .
وقد ذَهَبَ عَدَدٌ من أهلِ العِلمِ إلى الجَمعِ بينَ الأحاديثِ والأقوالِ السَّابِقةِ.
قال ابنُ كثيرٍ: (الذي يوضَعُ في الميزانِ يَومَ القيامةِ، قيلَ: الأعمالُ وإن كانت أعراضًا، إلَّا أنَّ اللهَ تعالى يَقلِبُها يَومَ القيامةِ أجسامًا.
قال البَغَويُّ: يُروى هذا عن ابنِ عَباسٍ [3908] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/ 181). كما جاءَ في الصَّحيحِ من أنَّ البَقرةَ وآل عِمرانَ يَأتيانِ يَومَ القيامةِ كأنَّهما غَمامَتانِ -أو: غيايَتانِ- أو فَرقانِ من طيرٍ صَوافَّ [3909] أخرجه مسلم (804) من حديثِ أبي أمامة الباهلي رَضِيَ اللهُ عنه بلفظ: سمعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((اقرؤوا القرآنَ؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوينِ: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيانِ يومَ القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرقانِ مِن طيرٍ صوافَّ تحاجَّانِ عن أصحابهما..)). ... وفي حَديثِ البَراءِ في قِصَّةِ سُؤالِ القَبرِ: ((فيَأتي المُؤمِنُ شابٌّ حَسَنُ اللَّونِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فيَقولُ: من أنتَ؟ فيَقولُ: أنا عَمَلُك الصَّالِحُ))، وذكرَ عَكسَه في شَأنِ الكافِرِ والمُنافِقِ [3910] لفظ الحديث: عن البراء بن عازب رَضِيَ اللهُ عنه عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إن العبدَ المؤمِنَ إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة... يأتيه رجلٌ حسنُ الوجه، حسَنُ الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يسُرُّك، هذا يومُك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربِّ أقم الساعةَ حتى أرجِعَ إلى أهلي ومالي... وإن العبد الكافِرَ إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبال من الآخرة.. يأتيه رجلٌ قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنتِن الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يسوءُك، هذا يومُك الذي كنت تُوعَدُ، فيقول: من أنت؟ فوجهُك الوجه يجيء بالشَّرِّ، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربِّ لا تُقِمِ الساعةَ..)). أخرجه أحمد (18534) واللَّفظُ له، والحاكم (107)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (395). صحَّحَه الحاكم وقال: على شرط الشيخين، والقرطبي في ((التذكرة)) (119)، وابن القيم في ((الروح)) (1/269). .
وقيلَ: يُوزَنُ كِتابُ الأعمالِ، كما جاءَ في حَديثِ البِطاقةِ، في الرَّجُلِ الذي يُؤتى به ويوضَعُ له في كِفَّةٍ تِسعةٌ وتِسعونَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ البَصَرِ، ثُمَّ يُؤتى بتِلك البِطاقةِ فيها: لا إلَهَ إلَّا اللهُ"، فيَقولُ: يا رَبِّ، وما هذه البِطاقةُ مَعَ هذه السِّجِلَّاتِ؟ فيَقولُ اللهُ تعالى: إنَّك لا تُظلَمُ. فتوضَعُ تلك البِطاقةُ في كِفَّةِ الميزانِ. قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فطاشَتِ السِّجِلَّاتُ، وثَقُلَتِ البِطاقةُ)). أخرجه التِّرمِذيُّ بنَحوٍ من هذا وصَحَّحَه [3911]لفظ الحديث: عن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عنهما يقول: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إن اللهَ سيخلِّصُ رجلًا من أمَّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامةِ، فينشُرُ عليه تسعة وتسعين سِجِلًّا كلُّ سِجِلٍّ مِثلُ مَدِّ البصر ثم يقول: أتنكِرُ من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا ربِّ، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنةً؛ فإنه لا ظُلمَ عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، فيقول: احضُرْ وَزْنَك، فيقول: يا ربِّ، ما هذه البطاقة مع هذه السِّجِلات؟! فقال: إنك لا تُظلَمُ، قال: فتوضَعُ السِّجِلات في كفَّة والبطاقة في كفة، فطاشت السِّجِلات وثَقُلت البطاقة؛ فلا يثقُلُ مع اسم اللهِ شيءٌ)). أخرجه الترمذي (2639) واللَّفظُ له، وابن ماجه (4300)، وأحمد (6994) من حديثِ عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (225)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1/46)، وابن الملقن على شرط مسلم في ((شرح البخاري)) (33/595). . وقيلَ: يُوزَنُ صاحِبُ العَمَلِ، كما في الحَديثِ: ((يُؤتى يَومَ القيامةِ بالرَّجُلِ السَّمينِ، فلا يَزِنُ عِندَ الله جَناحَ بَعُوضةٍ)) ثُمَّ قَرَأ: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] [3912] أخرجه البخاري (4729)، ومسلم (2785) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه . وفي مَناقِبِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ أنَّ رَسولَ الله صَلى عليه وسَلَّمَ قال: ((أتَعْجَبونَ من دِقَّةِ ساقَيه، فوالذي نَفسي بيدِه لهما في الميزانِ أثقَلُ من أُحُدٍ)) [3913] أخرجه أحمد (3991)، وابن حبان (7069)، والطبراني (9/75) (8452) مطولًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنه.  صحَّحه ابن حبان، والألباني بطرقه في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2750)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3991)، وحسَّنه ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/32)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (849)، وجود إسناده وقواه ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (2/29). .
وقد يُمكِنُ الجَمعُ بينَ هذه الآثارِ بأن يَكونَ ذلك كُلُّه صَحيحًا؛ فتارةً تُوزَنُ الأعمالُ، وتارةً تُوزَنُ مَحالُّها، وتارةً يُوزَنُ فاعِلُها. واللهُ أعلَمُ) [3914] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 389). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (الذي دَلَّتْ عليه السُّنَّةُ: أنَّ ميزانَ الأعمالِ له كِفَّتانِ حِسِّيَّتانِ مُشاهَدَتانِ. رَوى الإمامُ أحمَدُ من حَديثِ أبي عَبدِ الرَّحمَنِ الحبليِّ، قال سَمِعتُ عَبدَ اللهِ بنَ عَمرٍو يَقولُ: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ سَيَختَصُّ رَجُلًا من أمَّتي على رُءوسِ الخَلائِقِ يَومَ القيامةِ، فيَنشُرُ عليه تِسعةً وتِسعينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقولُ له: أتُنكِرُ من هذا شَيئًا أظلَمَتْك كَتَبتي الحافِظونَ؟ قال: لا، يا رَبِّ، فيَقولُ: ألك عُذرٌ أو حَسَنةٌ؟ فيُبهَتُ الرَّجُلُ، فيَقولُ: لا يا رَبِّ، فيَقولُ: بَلى، إنَّ لَك عِندَنا حَسَنةً واحِدةً، لا ظُلمَ اليَومَ عليك، فتُخرَجُ له بطاقةٌ فيها: أشهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه، فيَقولُ: أحضِروه، فيَقولُ: يا رَبِّ، وما هذه البِطاقةُ مَعَ هذه السِّجِلَّاتِ؟ فيقالُ: إنَّك لا تُظلَمُ، قال: فتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ في كِفَّةٍ، والبِطاقةُ في كِفَّةٍ، قال: فطاشَتِ السِّجِلَّاتُ، وثَقُلَتِ البِطاقةُ، ولا يَثقُلُ شَيءٌ بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ )). وهَكَذا رَوى التِّرمِذيُّ، وابنُ ماجِهْ، وابنُ أبي الدُّنيا، من حَديثِ اللَّيثِ، زادَ التِّرمِذيُّ: ولا يَثقُلُ مَعَ اسمِ اللهِ شَيءٌ [3915] أخرجه الترمذي (2639)، وابن ماجه (4300)، وأحمد (6994) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (225)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1/46)، وابن الملقن على شرط مسلم في ((شرح البخاري)) (33/595). .  ... رَوى البُخاريُّ عن أبي هُريرةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّه ليَأتي الرَّجُلُ العَظيمُ السَّمينُ يَومَ القيامةِ، لا يَزِنُ عِندَ اللهِ جَناحَ بَعُوضةٍ))، وقال: اقرَءُوا إنْ شِئتُم: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] [3916] أخرجه البخاري (4729)، ومسلم (2785) باختلافٍ يسيرٍ. . ورَوى الإمامُ أحمَدُ عن ابنِ مَسعودٍ أنَّه كان يَجني سِواكًا من الأراكِ، وكان دَقيقَ السَّاقينِ، فجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكفَؤُه، فضَحِكَ القَومُ منه، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مِمَّ تَضحَكونَ؟)) قالوا: يا نَبيَّ اللهِ، من دِقَّةِ ساقَيه، فقال: ((والذي نَفسي بيدِه، لهما أثقَلُ في الميزانِ من أُحُدٍ )) [3917] أخرجه أحمد (3991) واللَّفظُ له، وابن حبان (7069)، والطبراني (9/75) (8452).  صحَّحه ابن حبان، والألباني بطرقه في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2750)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3991)، وحسَّنه ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/32)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (849)، وجود إسناده وقواه ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (2/29). .
وقد ورَدتِ الأحاديثُ أيضًا بوَزنِ الأعمالِ أنفُسِها، كما في صَحيحِ مُسلِمٍ عن أبي مالِك الأشعَريِّ قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الطُّهورُ شَطرُ الإيمانِ، والحَمدُ لله تَملَأ الميزانَ)) الحَديث [3918] أخرجه مسلم (223) مطولًا. . وفي الصَّحيحينِ، وهو خاتِمةُ كِتابِ البُخاريِّ، عن أبي هُريرةَ قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كلِمَتانِ خَفيفَتانِ على اللِّسانِ، ثَقيلَتانِ في الميزانِ، حَبيبَتانِ إلى الرَّحمَنِ: سُبحانَ اللهِ وبِحَمدِه، سُبحانَ اللهِ العَظيمِ )) [3919] أخرجه البخاري (6682)، ومسلم (2694). ... فلا يُلتَفَتُ إلى مُلحِدٍ مُعانِدٍ يَقولُ: الأعمالُ أعراضٌ لا تَقبَلُ الوَزنَ، وإنَّما يَقبَلُ الوَزنَ الأجسامُ! فإنَّ اللهَ يَقلِبُ الأعراضَ أجسامًا، كما تَقَدَّمَ، وكَما رَوى الإمامُ أحمَدُ، عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يُؤتى بالمَوتِ كبشًا أغثَرَ، فيُوقَفُ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيُقالُ، يا أهلَ الجَنَّةِ، فيَشرَئِبُّونَ ويَنظُرونَ، ويُقالُ: يا أهلَ النَّارِ، فيَشرَئِبُّونَ ويَنظُرونَ، ويَرَونَ أنْ قد جاءَ الفَرجُ، فيُذبَحُ، ويُقالُ: خُلودٌ لا مَوتَ )) [3920] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (11317)، وأحمد (9449) واللَّفظُ له صحَّحه الألباني في ((شرح الطحاوية)) (419)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9449). والحديث أصله في الصحيح مختصرًا أخرجه البخاري (6545) بلفظ: ((يقال لأهل الجنة خلود لا موت. ولأهل النار يا أهل النار، خلود لا موت)). . وأخرجه البخاري بمعناه [3921] لفظ الحديث: عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يؤتى بالموت كهيئة كبشٍ أملحَ فينادي منادٍ: يا أهل الجنةِ، فيشرئبُّون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت -وكلهم قد رآه- ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبُّون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموتُ -وكلهم قد رآه- فيُذبَح، ثم يقول: يا أهل الجنة، خلودٌ فلا موتَ، ويا أهل النار، خلودٌ فلا موتَ، ثم قرأ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [مريم: 39] وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)). أخرجه البخاري (4730)، ومسلم (2849). ، فثَبَتَ وزنُ الأعمالِ والعامِلِ وصَحائِفِ الأعمالِ، وثَبَتَ أنَّ الميزانَ له كِفَّتانِ. واللهُ تعالى أعلَمُ بما وراءَ ذلك من الكَيفيَّاتِ. فعلينا الإيمانُ بالغَيبِ، كما أخبَرَنا الصَّادِقُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من غَيرِ زيادةٍ ولا نُقصانٍ) [3922] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 609-613). .
وقال حافِظٌ الحَكَميُّ: (الذي استَظهَرَ من النُّصوصِ -واللهُ أعلَمُ- أنَّ العامِلَ وعَمَلَه وصَحيفةَ عَمَلِه كُلُّ ذلك يُوزَنُ؛ لأنَّ الأحاديثَ التي في بَيانِ القُرآنِ قد ورَدَتْ بكُلِّ ذلك، ولا مُنافاةَ بينَها) [3923] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/848). .
وقال ابنُ بازٍ: (الجَمعُ بينَ النُّصوصِ الوارِدةِ في وزنِ الأعمالِ، والعامِلينَ والصَّحائِفِ- أنَّه لا مُنافاةَ بينَها، فالجَميعُ يُوزَنُ، ولَكِنَّ الِاعتِبارَ في الثِّقَلِ والخِفَّةِ يَكونُ بالعَمَلِ نَفسِه لا بذاتِ العامِلِ ولا بالصَّحيفةِ) [3924] يُنظر: التعليق على ((التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة للسعدي)) (ص: 86). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (صَريحُ كلامِ المُؤَلِّفِ ابنِ تَيميَّةَ أنَّ الذي يُوزَنُ العَمَلُ، سَواءٌ كان خَيرًا أم شَرًّا. وهذا هو ظاهرُ القُرآنِ، كما قال اللهُ تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 6 - 8] ، فهذا واضِحٌ أنَّ الذي يُوزَنُ العَمَلُ، سَواءٌ كان خَيرًا أم شَرًّا. وقال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((كلِمَتانِ حَبَيبَتانِ إلى الرَّحمَنِ، خَفيفَتانِ على اللِّسانِ، ثَقيلَتانِ في الميزانِ)) [3925] أخرجه البخاري (7563) واللَّفظُ له، ومسلم (2694) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وهذا ظاهرٌ أيضًا، بَل صَريحٌ، في أنَّ الذي يُوزَنُ العَمَلُ، والنُّصوصُ في هذا كثيرةٌ. ولَكِنْ هناك نُصوصٌ قد يُخالِفُ ظاهرُها هذا الحَديثَ:
- منها حَديثُ صاحِبِ البِطاقةِ، رَجُلٌ يُؤتى به على رُؤوسِ الخَلائِقِ، وتُعرَضُ عليه أعمالُه في سِجِلاتٍ تَبلُغُ تِسعةً وتِسعينَ سِجِلًّا؛ كُلُّ سِجِلٍّ منها يَبلُغُ مَدَّ البَصرِ، فيُقِرُّ بها، فيُقالُ له: ألك عُذرٌ أو حَسَنةٌ؟ فيَقولُ: لا، يا رَبِّ، فيَقولُ الله: بَلى؛ إنَّ لَك عِندَنا حَسَنةً، فيُؤتى ببِطاقةٍ صَغيرةٍ، فيها: أشهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ، فيَقولُ: يا رَبِّ، ما هذه البِطاقةُ مَعَ هذه السِّجِلَّاتِ؟! فيقالُ: إنَّك لا تُظلَمُ. قال: فتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ في كِفَّةٍ، والبِطاقةُ في كِفَّةٍ، فطاشَتِ السِّجِلَّاتُ، وثَقُلَتِ البِطاقةُ ... الحَديث [3926] أخرجه الترمذي (2639)، وابن ماجه (4300)، وأحمد (6994) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (225)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1/46)، وابن الملقن على شرط مسلم في ((شرح البخاري)) (33/595). . وظاهرُ هذا أنَّ الذي يُوزَنُ صَحائِفُ الأعمالِ.
- وهناك نُصوصٌ أخرى تَدُلُّ على أنَّ الذي يُوزَنُ العامِلُ، مِثلُ:
قَولُه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] ، مَعَ أنَّه قد يُنازَعُ في الِاستِدلالِ بهذه الآيةِ، فيُقالُ: إنَّ مَعنى قَولِه: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا يَعني: قَدْرًا.
ومِثلُ ما ثَبَتَ من حَديثِ ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّه كان يَجتَني سِواكًا من الأراكِ، وكان رَضِيَ الله عنه دَقيقَ السَّاقينِ، جَعَلَتِ الرِّيحُ تُحَرِّكُه، فضَحِكَ الصَّحابةُ رَضِيَ الله عنهم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مِمَّ تَضْحكونَ؟)). قالوا: من دِقَّةِ ساقَيه. قال: ((والذي نَفسي بيدِه لَهُما في الميزانِ أثقَلُ من أُحُدٍ)) [3927] أخرجه أحمد (3991)، وابن حبان (7069)، والطبراني (9/75) (8452) باختلافٍ يسيرٍ.  صحَّحه ابن حبان، والألباني بطرقه في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2750)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3991)، وحسَّنه ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/32)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (849)، وجود إسناده وقواه ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (2/29). .
فصارَ هاهنا ثَلاثةُ أشياءَ: العَمَلُ، والعامِلُ، والصَّحائِفُ.
- فقال بَعضُ العُلَماءِ: إنَّ الجَمعَ بينَها أن يُقال: إنَّ من النَّاسِ مَن يُوزَنُ عَمَلُه، ومنَ النَّاسِ من يُوزَنُ صَحائِفُ عَمَلِه، ومنَ النَّاسِ مَن يُوزَنُ هو بنَفسِه.
- وقال بَعضُ العُلَماءِ: الجَمعُ بينَها أن يُقالَ: إنَّ المُرادَ بوَزنِ العَمَلِ أنَّ العَمَلَ يُوزَنُ وهو في الصَّحائِفِ، ويَبقى وزنُ صاحِبِ العَمَلِ، فيَكونُ لبَعضِ النَّاسِ.
- ولَكِن عِندَ التَّأمُّلِ نَجِدُ أنَّ أكثَرَ النُّصوصِ تَدُلُّ على أنَّ الذي يُوزَنُ هو العَمَلُ، ويُخَصُّ بَعضُ النَّاسِ، فتُوزَنُ صَحائِفُ أعمالِه، أو يُوزَنُ هو نَفسُه. وأمَّا ما ورَدَ في حَديثِ ابنِ مَسعودٍ وحَديثِ صاحِبِ البِطاقةِ، فقد يَكونُ هذا أمرًا يَخُصُّ اللهُ به من يَشاءُ من عِبادِه) [3928] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/ 141-143). .
وقال ابنُ عُثَيمين أيضًا: (الذي يُوزَنُ العَمَلُ؛ لظاهرِ الآيةِ السَّابِقةِ والحَديثِ [3929] الآية قولُه تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] . والحديثُ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "كلمتانِ حبيبتانِ إلى الرحمنِ، خفيفتان على اللِّسانِ، ثقيلتان في الميزانِ: سُبحانَ اللهِ وبحَمْدِه، سُبحانَ اللهِ العظيم". أخرجه البخاري (7563) واللَّفظُ له، ومسلم (2694). بَعدَها، وقيلَ: صَحائِفُ العَمَلِ؛ لحَديثِ صاحِبِ البِطاقةِ، وقيلَ: العامِلُ نَفسُه لحَديثِ أبي هُريرةَ أنَّ النَّبيَّ صَلى الله عليه وسَلَّم قال: (إنَّه ليَأتي الرَّجُلُ العَظيمُ السَّمينُ يَومَ القيامةِ لا يَزِنُ عِندَ اللهِ جَناحَ بَعُوضةٍ)، وقال اقرَؤوا: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] مُتَّفَقٌ عليه [3930] أخرجه البخاري (4729) واللَّفظُ له، ومسلم (2785) .
وجَمعَ بَعضُ العُلَماءِ بينَ هذه النُّصوصِ بأنَّ الجَميعَ يُوزَنُ أو أنَّ الوَزنَ حَقيقةٌ للصَّحائِفِ، وحَيثُ إنَّها تَثقُلُ وتَخِفُّ بحَسَبِ الأعمالِ المَكتوبةِ صارَ الوَزنُ كأنَّه للأعمالِ، وأمَّا وزنُ صاحِبِ العَمَلِ فالمُرادُ به قَدرُه وحُرمَتُه، وهذا جَمعٌ حَسَنٌ، واللهُ أعلَمُ) [3931] يُنظر: ((شرح لمعة الاعتقاد)) (ص: 121). .

انظر أيضا: