الْمَبحَثُ الرَّابعَ عَشَرَ: دُروسُ الإسلامِ ورَفعُ القُرآنِ وفَناءُ الأخيارِ
عَن حُذيفةَ رَضِيَ الله عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يَدرُسُ الإسلامَ كما يَدرُسُ وَشْيُ الثَّوبِ حَتَّى لا يُدرى ما صيامٌ ولا صَلاةٌ ولا نُسُكٌ ولا صَدَقةٌ، ويُسرَى على كِتابِ اللهِ في لَيلةٍ فلا يَبقى في الأرضِ مِنه آيةٌ، وتَبَقَى طَوائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيخُ الكَبيرُ والعَجوزُ يَقولونَ: أدرَكْنا آباءَنا على هَذِه الكَلِمةِ: لا إلَهَ إلَّا اللهُ، فنَحنُ نَقولُها. فقال لَه صِلةُ: ما تُغني عَنهم لا إلَه إلَّا اللهُ وهم لا يَدرونَ ما صَلاةٌ ولا صيامٌ ولا نُسُكٌ ولا صَدَقةٌ؟ فأعرَضَ عَنه حُذَيفةُ، ثُمَّ رَدَّها عليه ثَلاثًا، كُلُّ ذلك يُعرِضُ عَنه حُذَيفةُ، ثُمَّ أقبَلَ عليه في الثَّالِثةِ فقال: يا صِلةُ، تُنْجيهم مِنَ النَّارِ، ثَلاثًا ))
.
قال نورُ الدِّين السِّنديُّ: (قَولُه:
((يَدرُسُ الإسلامُ)) مِن دَرَسَ الرَّسمُ دُرُوسًا: إذا عَفَا وهَلَكَ، ومِن دَرسَ الثَّوبُ دَرْسًا: إذا صارَ عَتيقًا بالياءِ، ويُؤَيِّدُ الثَّانيَ قَولُه:
((وَشْيُ الثَّوبِ)) وهو بفَتحٍ فسُكونٍ: نَقشُه
((ولَيُسْرَى)) مِنَ السِّرايةِ، أيِ: الدَّرسُ أوِ الدُّروسُ يَسري لَيلةً
((على كِتابِ اللهِ))
.
قال
ابنُ كثيرٍ: (هذا دالٌّ على أنَّ العِلمَ قَد يُرفَعُ مِن صُدورِ الرِّجالِ في آخِرِ الزَّمانِ، حَتَّى إنَّ القُرآنَ يُسرى عليه فيُرفَعُ مِنَ الْمَصاحِفِ والصُّدورِ، ويَبقى النَّاسُ بلا عِلمٍ ولا قُرآنٍ، وإنَّما الشَّيخُ الكَبيرُ والعَجوزُ الْمُسِنَّةُ يُخبِرانِ أنَّهم أدرَكوا النَّاسَ وهم يَقولونَ: لا إلَه إلَّا اللهُ، فهم يَقولونَها أيضًا على وجه التَّقَرُّبِ بها إلى الله عَزَّ وجَلَّ، فهيَ نافِعةٌ لَهم، وإنْ لَم يَكُن عِندَهم مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ والعِلمِ النَّافِعِ غَيرُها، وقَولُه: تُنجيهم مِنَ النَّارِ. يُحتَمَلُ أن يَكونَ الْمُرادُ أنَّها تَدفَعُ عَنهم دُخولَ النَّارِ بالكُلِّيَّةِ، ويَكونُ فرضُهم في ذلك الزَّمانِ القَولَ الْمُجَرَّدَ عَنِ العَمَلِ؛ لعَدَمِ تَكليفِهم بالأعمالِ الَّتي لَم يُخاطَبوا بها، واللهُ أعلَمُ. ويُحتَمَلُ أن يَكونَ أرادَ نَجاتَهم مِنَ النَّارِ بَعدَ دُخولِهم إليها، وأنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ تَكونُ سَبَبَ نَجاتِهم مِنَ العَذابِ الدَّائِمِ الْمُستَمِرِّ. وعلى هذا يُحتَمَلُ أن يَكونوا مِنَ الْمُرادينَ بقَولِه تعالى في الحَديثِ:
((وعِزتي وجَلالي لأخرِجَنَّ مِنَ النَّارِ مَن قال يَومًا مِنَ الدَّهرِ: لا إلَه إلَّا اللهُ))
. كما سَيَأتي بَيانُه في أحاديثِ الشَّفاعةِ، ويُحتَمَلُ أن يَكونَ أولَئِكَ قَومًا آخَرِينَ. والله أعلَمُ.
والمَقصودُ: أنَّ العِلمَ يُرفَعُ في آخِرِ الزَّمانِ، ويَكثُرُ الجَهْلُ، في رِوايةٍ، وفي رِوايةٍ: ويَنزِلُ الجَهْلُ. أي يُلْهَمُ أهلُ ذلك الزَّمانِ الجَهْلَ، وذلك مِن قَهرِ اللهِ عليهم، وخِذْلانِه إيَّاهم، نَعوذُ بالله مِن ذلك، ثُمَّ لا يَزالونَ كذلك في تَزايُدٍ مِنَ الجَهالةِ والضَّلالةِ إلى مُنتَهى الآجالِ، كما في الحَديثِ الأخيرِ:
((لا تَقومُ السَّاعةُ على أحَدٍ يَقولُ: اللهُ اللهُ ))
، و
((لا تَقومُ السَّاعةُ إلَّا على أشرارِ النَّاسِ ))
.
وقال
ابنُ رَجَبٍ: (لَم يَزَلِ اللهُ يَمتَحِنُ عِبادَه الْمُؤمِنينَ بما يَشاءُ مِنَ الْمِحَنِ، ولَكِنَّ دينَه قائِمٌ مَحفوظٌ لا يَزالُ تَقومُ به أمَّةٌ مِن أمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَضُرُّهم مَن خَذلَهم حَتَّى يَأتيَ أمرُ اللهِ وهم على ذلك، كما قال تعالى:
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 32، 33].
وقَد أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ هذا البَيتَ يُحَجُّ ويُعتَمَرُ بَعدَ خُروجِ يَأجوجَ ومَأجوجَ، ولا يَزالُ كذلك حَتَّى تُخرِبَه الحَبشةُ ويُلقونَ حِجارَتَه في البَحرِ، وذلك بَعدَ أن يَبعَثَ اللهُ ريحًا طَيبةً تَقبِضُ أرواحَ الْمُؤمِنينَ كُلِّهم، فلا يَبقى على الأرضِ مُؤمِنٌ، ويُسرى بالقُرآنِ مِنَ الصُّدورِ والمَصاحِفِ فلا يَبقى في الأرضِ قُرآنٌ ولا إيمانٌ ولا شَيءٌ مِنَ الخَيرِ، فبَعدَ ذلك تَقومُ السَّاعةُ ولا تَقومُ إلَّا على شِرارِ النَّاسِ)
.
وقال
السَّخاويُّ في
أشراطِ السَّاعةِ: (
((ونَقص العِلم))
. وفي لَفظٍ:
((ويَقِلُّ العِلمُ))
. وفي رِوايةٍ:
((قبض العِلم))
. وفي لَفظٍ:
((يَنزِلُ الجَهْلُ ويُرفَعُ العِلمُ))
. وفي روايةٍ:
((ويظهَر الجَهلُ))
. وفي روايةٍ أُخرى:
((يكثُر الجَهلُ))
، والتَّعبيرُ بقَبض أو رَفع فيه إشارةٌ إلى أنَّ الْمُرادَ أنَّه لا يَبقى إلَّا الجَهْلُ الصِّرفُ، ولَكِنَّ ذلك لا يَمنَعُ مِن وُجودِ طائِفةٍ مِن أهلِ العِلمِ؛ لأنَّهم يَكونونَ مَغمورين في أولَئِكَ. ويَتَأيَّدُ بحَديثِ:
((يَدرُسُ الإسلامُ كما يَدرُسُ وَشْيُ الثَّوبِ حَتَّى لا يُدرى ما صيامٌ ولا صَلاةٌ ولا نُسُكٌ ولا صَدَقةٌ، ويُسرى على الكِتابِ في لَيلةٍ فلا يَبقى في الأرضِ مِنه آيةٌ، ويَبقى طَوائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيخُ الكَبيرُ والعُجوزُ الكَبيرةُ يَقولونَ: أدرَكنا آباءَنا على هَذِه الكَلِمةِ: لا إلَه إلَّا اللهُ، فنَحنُ نَقولُها))، وفيه قَولُ صِلةَ لحُذَيفةَ صَحابِيه: ما تُغني عَنهم لا إلَهَ إلَّا اللهُ وهم لا يَدرونَ ما ذُكِرَ؟ وأنَّه أعرَضَ عَنه حَتَّى كَرَّر القَولَ عليه ثَلاثًا، ثُمَّ قال لَه حُذَيفةُ في الثَّالِثةِ: يا صِلةُ، تُنجيهم مِنَ النَّارِ، ثَلاثًا. وأمَّا قَولُه:
((ويُسرى على الكِتابِ)) فجاءَ بلَفظٍ آخَرَ، وهو:
((ليُنزَعَنَّ القُرآنُ مِن بين أظهُرِكم، يُسرى عليه لَيلًا فيَذهَبُ مِن أجوافِ الرِّجالِ، فلا يَبقى في الأرضِ مِنه شَيءٌ))
... والصَّحيحُ أنَّ هذا وخَرابَ البَيتِ إنَّما يَكونُ بَعدَ مَوتِ عيسى عليه السَّلامُ)
.
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (يُسرى به في آخِرِ الزَّمانِ مِنَ الْمَصاحِفِ والصُّدورِ، فلا يَبقى في الصُّدورِ مِنه كلِمةٌ، ولا في الْمَصاحِفِ مِنه حَرفٌ)
.
وقال
ابنُ عُثَيمين في اعتِقادِ أهلِ السُّنةِ في القُرآنِ: (وأمَّا قَولُهم: «وإليه يَعودُ» فيَحتَمِلُ مَعنيَينِ:
أحَدُهما: أنَّه تَعودُ صِفةُ الكَلامِ بالقُرآنِ إليه، بمَعنى أنَّ أحَدًا لا يُوصَفُ بأنَّه تَكَلَّمَ به غَيرُ اللهِ؛ لأنَّه هو الْمُتَكَلِّمُ به، والكَلامُ صِفَةٌ للمُتَكَلِّمِ.
الثَّاني: أنَّه يُرفَعُ إلى اللهِ تعالى كما جاءَ في بَعضِ الآثارِ أنَّه يُسرى به مِنَ الْمَصاحِفِ والصُّدورِ، وذلك إنَّما يَقَعُ -واللهُ أعلَمُ- حينَ يُعرِضُ النَّاسُ عَنِ العَمَلِ بالقُرآنِ إعراضًا كُلِّيًّا، فيُرفَعُ عَنهم تَكريمًا لَه. واللهُ الْمُستَعانُ)
.
وعَن
أنسٍ رَضِيَ الله عَنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى لا يُقالَ في الأرضِ: اللهُ اللهُ ))
.
قال عِياضٌ في حَديثِ:
((لا تَزالُ طائِفةٌ مِن أمَّتى ظاهِرينَ على الحَقِّ... )): (ولا يُعارِضُه قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى لا يَقولَ أحَدٌ: اللهُ اللهُ))، و
((لا تَقومُ السَّاعةُ إلَّا على شِرارِ الخَلقِ))، وما جانسَه مِنَ الأحاديثِ، وقَد قال
الطَّبَريُّ: إنَّه لا تَعارُضَ بينَهما؛ لأنَّ الْمُرادَ بهذا الخُصوصُ، ومَعناه: لا تَقومُ السَّاعةُ على أحَدٍ يوَحِّدُ اللهَ إلَّا في مَوضِعِ كذا، الَّتى بها الطَّائِفةُ الْمَذكورةُ، وقيلَ: بَل هذا في وقتٍ دونَ وقتٍ، وأنَّ هَذِه الطَّائِفةَ تَبْقَى إلى حينِ قيامِ السَّاعةِ التي تُقبَضُ روحُ كُلِّ مُؤمِنٍ، كما جاءَ في الحَديثِ في البابِ في كِتابِ
مُسْلِمٍ:
((ثُمَّ يَبعَثُ اللهُ ريحًا فلا تَترُكُ نَفسًا في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةٍ مِن إيمانٍ إلَّا قَبَضتْه، ثُمَّ يَبقى شِرارُ النَّاسِ، عليهم تَقومُ السَّاعةُ ))، فقَد فَسَّرَ في الحَديثِ نَفسِه القِصَّة، وجَمعَ الحَديثينِ، وأنَّ أولَئِكَ يَموتونَ بينَ يَدَيها، فلا تَقومُ حينَئِذٍ إلَّا على شِرارِ الخَلقِ، ومَن لا يُؤمِنُ باللهِ)
.
وقال
ابنُ كثيرٍ: (في مَعنى قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((حَتَّى لا يُقالَ في الأرضِ: اللهُ اللهُ)) قَولانِ:
أحَدُهما: أنَّ مَعناه أنَّ أحَدًا لا يُنكِرُ مُنكَرًا، ولا يَزجُرُ أحَدٌ أحَدًا إذا رَآه قَد تَعاطى مُنكَرًا، وعَبَّر عَن ذلك بقَولِه:
((حَتَّى لا يُقالَ: اللهُ اللهُ))... والقَولُ الثَّاني: حَتَّى لا يُذكَرَ اللهُ في الأرضِ، ولا يُعرَفَ اسمُه فيها، وذلك عِندَ فسادِ الزَّمانِ، ودَمارِ نَوعِ الإنسانِ، وكَثرةِ الكُفرِ والفُسوقِ والعِصيانِ)
.
وعَن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ شماسةَ المهريِّ قال: كُنتُ عِندَ مَسْلَمةَ بنِ مخلَدٍ، وعِندَه
عَبدُ اللهِ بنُ عَمرِو بنِ العاصِ، فقال
عَبدُ اللهِ: لا تَقومُ السَّاعةُ إلَّا على شِرارِ الخَلقِ، هم شَرٌّ مِن أهلِ الجاهِليَّةِ، لا يَدعونَ اللهَ بشَيءٍ إلَّا رَدَّه عليهم، فبينَما هم على ذلك أقبَلَ عُقبةُ بنُ عامِرٍ، فقال لَه مَسْلَمةُ: يا عُقْبةُ، اسمَع ما يَقولُ
عَبدُ اللهِ، فقال عُقْبةُ: هو أعلَمُ، وأمَّا أنا فسَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَقولُ:
((لا تَزالُ عُصابةٌ مِن أمَّتي يُقاتِلونَ على أمرِ الله، قاهِرينَ لعَدُوِّهم، لا يَضُرُّهم مَن خالَفَهم، حَتَّى تَأتيَهم السَّاعةُ وهم على ذلك))، فقال
عَبدُ الله: أجَلْ،
((ثُمَّ يَبعَثُ اللهُ ريحًا كريحِ الْمِسْكِ مَسُّها مَسُّ الحَريرِ، فلا تَترُكُ نَفسًا في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةٍ مِنَ الإيمانِ إلَّا قَبَضَتْه، ثُمَّ يَبقى شِرارُ النَّاسِ، عليهم تَقومُ السَّاعةُ ))
.
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ الله يَبعَثُ ريحًا مِنَ اليَمنِ ألينَ مِنَ الحَريرِ، فلا تَدَعُ أحَدًا في قَلبِه -قال أبو عَلقَمةَ: مِثقالُ حَبَّةٍ، وقال عَبدُ العَزيزِ: مِثقالُ ذَرَّةٍ- مِن إيمانٍ إلَّا قَبضَتْه ))
.
قال
النَّوَويُّ: (أمَّا مَعنى الحَديثِ فقَد جاءَت في هذا النَّوعِ أحاديثُ؛ مِنها:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى لا يُقالَ في الأرضِ: اللهُ اللهُ ))، ومِنها:
((لا تَقومُ على أحَدٍ يَقولُ: اللهُ اللهُ))، ومِنها:
((لا تَقومُ إلَّا على شِرارِ الخَلقِ))، وهَذِه كُلُّها وما في مَعناها على ظاهِرِها، وأمَّا الحَديثُ الآخَرُ:
((لا تزالُ طائِفةٌ مِن أمَّتي ظاهِرينَ على الحَقِّ إلى يَومِ القيامةِ )) فلَيسَ مُخالِفًا لهَذِه الأحاديثِ؛ لأنَّ مَعنى هذا أنَّهم لا يَزالونَ على الحَقِّ حَتَّى تَقبِضَهم هَذِه الرِّيحُ اللَّيِّنةُ قُربَ القيامةِ، وعِندَ تَظاهُرِ أشراطِها؛ فأطلَقَ في هذا الحَديثِ بَقاءَهم إلى قيامِ السَّاعةِ على أشراطِها ودُنُوها الْمُتَناهي في القُربِ: والله أعلَمُ... قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ريحًا ألينَ مِنَ الحَريرِ))، ففيه -والله أعلَمُ- إشارةٌ إلى الرِّفقِ بهم والإكِرامِ لَهم. والله أعلَمُ. وجاءَ في هذا الحَديثِ:
((يَبعَثُ الله تعالى ريحًا مِنَ اليَمَنِ))، وفي حَديثٍ آخَرَ ذَكرَه
مُسْلِمٌ في آخِرِ الكِتابِ عَقِبَ أحاديثِ الدَّجَّالِ:
((ريحًا مِن قِبَلِ الشَّامِ)). ويُجابُ عَن هذا بوَجهينِ؛ أحَدُهما: يَحتَمِلُ أنَّهما ريحانِ شاميَّةٌ ويَمانيَةٌ. ويَحتَمِلُ أنَّ مَبدَأَها مِن أحَدِ الإقليمينِ، ثُمَّ تَصِلُ الآخَرَ وتَنتَشِرُ عِندَه. والله أعلَمُ)
.
وعَن أبي سَعيدٍ رَضِيَ الله عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى لا يُحَجَّ البَيتُ ))
.
قال
الصَّنعانيُّ: (
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى لا يُحَجَّ البَيتُ )) إمَّا لتَساهُلِ النَّاسِ في الطَّاعاتِ، أو لانقِطاعِ الطُّرُقاتِ، أو لأنَّه يَخرَبُ البَيتُ في آخِرِ الزَّمانِ، وأمَّا حَديثُ:
((ليُحَجَّنَّ هذا وليُعتَمَرَنَّ بَعدَ خُروجِ يَأجوجَ ومَأجوجَ ))
تَقَدَّمَ في حَرفِ اللَّامِ، فلا يُعارِضُ هذا؛ لأنَّ كونَه لا يُحَجُّ حينًا مِنَ الأحيانِ وزَمانًا مِنَ الأزمانِ لا يُنافي حَجَّه بَعدَ ذلك أو قَبلَه)
.
وقال
ابنُ بازٍ: (الحاصِلُ أنَّ الأصلَ أنَّ الإسلامَ تَشتَدُّ غُرْبَتُه عامًا بَعدَ عامٍ، وقَرنًا بَعدَ قَرنٍ في الجُملةِ، كما قال جَماعةٌ مِن أهلِ العِلمِ، وقَد يَأتي اللهُ بزَمانٍ يُنفِّسُ فيه اللهُ عَنِ الْمُسْلِمينَ، فيَحصُلُ فيه خَيرٌ كثيرٌ، وتَكونُ الحالةُ أحسَنَ مِنَ الزَّمَنِ الذي قَبلَه؛ رَحمةً مِنَ الله جَلَّ وعلا... واللهُ جَلَّ وعَلا أخبَرَنا أنَّ هذا الإسلام، يَنتَهي في آخِرِ الزَّمانِ، وأنَّ هناكَ ريحًا تَخرُجُ يُرسِلُها اللهُ عَزَّ وجَلَّ، يَقبِضُ بها أرواحَ الْمُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ، ثُمَّ يَبقى الأشرارُ فعلَيهم تَقومُ السَّاعةُ، وفي آخِرِ الزَّمانِ يُرفَعُ القُرآنُ، ويَقبِضُ الْمُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ، ويَبقى الأشرارُ، فعلَيهم تَقومُ السَّاعةُ)
.
وسُئِلُ
ابنُ عُثَيمين: كثيرًا ما نَسمَعُ أنَّ السَّاعةَ لا تَقومُ حَتَّى يَعُمَّ الإسلامُ الأرضَ، ونَسمَعُ مِن جِهةٍ ثانيةٍ أنَّها لا تَقومُ ويَبقى مَن يَقولُ: لا إلَه إلَّا اللهُ في الأرضِ، فكَيفَ نوَفِّقُ بينَ هَذينِ القَولينِ؟
فأجابَ: (التَّوفيقُ بينَهما سَهلٌ، وهو: أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما في زَمَنٍ غَيرِ زَمَنِ الآخَرِ؛ فالإسلامُ يَعُمُّ الأرضَ كُلَّها، ثُمَّ بَعدَ ذلك يَندَثِرُ هذا الإسلامُ ويَموتُ الْمُؤمِنونَ، ولا يَبقى إلَّا شِرارُ الخَلقِ، وعليهم تَقومُ السَّاعةُ)
.