الموسوعة العقدية

المطلبُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قِتالُ المَلائِكةِ مع المُؤمِنين وتثبيتُهم في حُروبِهم

قال اللهُ تعالى في أهلِ بَدرٍ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12] .
قال القرطبيُّ: (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي: بَشِّروهم بالنَّصرِ أو القتالِ معهم، أو الحُضورِ معهم من غيرِ قِتالٍ) .
وقال السَّعْديُّ: (إنَّ اللهَ أوحى إلى المَلائِكةِ أَنِّي مَعَكُمْ بالعَونِ والنَّصرِ والتأييدِ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي: ألْقُوا في قلوبهم وألهِموهم الجراءةَ على عَدُوِّهم، ورَغِّبوهم في الجِهادِ وفَضْلِهـ) .
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في يومِ بَدرٍ: ((هذا جِبريلُ آخِذٌ برأسِ فَرَسِه، عليه أداةُ الحَربِ )) .
قال تَقِيُّ الدِّينِ السُّبكيُّ: (سُئِلْتُ عن الحِكمةِ في قتالِ المَلائِكةِ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مع أنَّ جِبريلَ قادِرٌ على أن يدفَعَ الكُفَّارَ برِيشةٍ مِن جَناحِه! فقُلتُ: وقع ذلك لإرادةِ أن يكونَ الفِعلُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه، وتكونَ المَلائِكةُ مَدَدًا على عادةِ مَدَدِ الجُيوش؛ِ رِعايةً لصُورةِ الأسبابِ وسُنَّتِها التي أجراها اللهُ تعالى في عبادِه، واللهُ تعالى هو فاعِلُ الجَميعِ. واللهُ أعلَمُ) .
وقد بَيَّن اللهُ تعالى الحِكمةَ من هذا الإمدادِ، فقال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 10] .
قال ابنُ كثيرٍ: (أي: وما جعل اللهُ بَعْثَ المَلائِكةِ وإعلامَه إيَّاكم بهم إلَّا بُشرَى، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وإلَّا فهو تعالى قادِرٌ على نَصْرِكم على أعدائِكم بدون ذلك؛ ولهذا قال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) .
وقال اللهُ سُبحانَه: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال: 12] .
قال السَّعْديُّ: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ أي: على الرِّقابِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ أي: مِفصَلٍ. وهذا خِطابٌ، إما للمَلائِكةِ الذين أوحى الله إليهم أن يُثَبِّتوا الذين آمنوا، فيكونُ في ذلك دليلٌ أنَّهم باشروا القِتالَ يَومَ بَدرٍ، أو للمُؤمِنين يُشَجِّعُهم اللهُ، ويُعَلِّمُهم كيف يَقتُلون المُشرِكين، وأنهم لا يرحمونَهم؛ وذلك لأنَّهم شاقُّوا اللهَ ورسولَه، أي: حارَبُوهما وبارَزُوهما بالعَداوةِ) .
وقد سمع بعضُ الصَّحابةِ يَومَ بَدرٍ صَوتَ ضَربةِ مَلَكٍ، ضرب بها أحَدَ الكُفَّارِ، وصَوتَه وهو يَزجُرُ فَرَسَه؛ فعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: بينما رجلٌ من المُسلِمين يومَئذٍ يشتدُّ في أثَرِ رَجُلٍ من المشركين أمامَه إذ سمع ضربةً بالسَّوطِ فوقَه، وصوتَ الفارِسِ يقولُ: أَقْدِمْ حَيزُومُ! فنظَرَ إلى المشرِكِ أمامه، فخَرَّ مُستلقيًا، فنظر إليه، فإذا هو قد خُطِمَ أنفُه، وشُقَّ وَجهُه، كضربةِ السَّوطِ، فاخضَرَّ ذلك أجمَعَ، فجاء الأنصاريُّ، فحَدَّث بذلك رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ((صدَقْتَ، ذلك من مَدَدِ السَّماءِ الثَّالثةِ )) .
قال النَّوويُّ: (قَولُه ((أَقْدِمْ حَيزومُ))... وهو اسمُ فَرَسِ الملَكِ، وهو منادًى بحَذفِ حَرفِ النِّداءِ، أي: يا حَيزومُ) .
وقال أبو العَّباسِ القُرطبيُّ: (قَولُه: ((ذلك من مَدَدِ السَّماءِ الثَّالثةِ))، أي: من مَلائِكةِ السَّماءِ الثَّالثة التي أمِدُّوا بهم. وهذا يدُلُّ على أنَّهم كانوا أُمِدُّوا بمَلائِكةٍ مِن كُلِّ سماءٍ، ويدُلُّ هذا الخبرُ على أنَّ المَلائِكةَ قاتلت يومَئذٍ، وهو قَولُ أكثَرِ أهلِ العِلمِ) .
وفي غزوةِ الخَندقِ أرسل اللهُ مَلائِكتَه، كما قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا [الأحزاب: 9] .
قال البغَويُّ: (قَولُه تعالى: وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا، وهم المَلائِكةُ، ولم تقاتِلِ المَلائِكةُ يَومَئذٍ، فبعث اللهُ عليهم تلك الليلةَ رِيحًا باردةً فقَلَعت الأوتادَ وقَطَعت أطنابَ الفَساطيطِ وأطفَأَت النيرانَ، وأكفَأَت القُدورَ، وجالت الخَيلُ بَعضُها في بعضٍ، وكَثُر تكبيرُ المَلائِكةِ في جوانِبِ عَسكرِهم، حتى كان سَيِّدُ كُلِّ حَيٍّ يقولُ: يا بني فلانٍ هَلُمَّ إليَّ، فإذا اجتمعوا عنده قال: النَّجاءَ النَّجاءَ، لِما بعث اللهُ عليهم من الرُّعبِ، فانهزموا من غيرِ قِتالٍ) .
وقال ابنُ القَيِّمِ في غَزَواتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (قاتلت معه المَلائِكةُ، منها في بَدرٍ وحُنَينٍ، ونزلت المَلائِكةُ يومَ الخَندَقِ، فزلزلت المُشرِكين وهزمَتْهم) .
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((فَلَمَّا رَجَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الخَنْدَقِ وَضَعَ السِّلَاحَ، فَاغْتَسَلَ فأتَاهُ جِبْرِيلُ وَهو يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنَ الغُبَارِ، فَقالَ: وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ واللهِ ما وَضَعْنَاهُ اخْرُجْ إليهِم، فَقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فأيْنَ؟ فأشَارَ إلى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَاتَلَهُمْ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَنَزَلُوا علَى حُكْمِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَرَدَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحُكْمَ فيهم إلى سَعْدٍ )) .
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كأني أنظُرُ إلى الغُبارِ ساطعًا في زُقاقِ بني غَنمٍ، مَوكِبَ جِبريلَ حين سار رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بني قُرَيظةَ )) .
قال ابنُ الملَقِّن في حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (فيه: قِتالُ المَلائِكةِ بسِلاحٍ.
وفيه: دَلالةٌ على أنَّ المَلائِكةَ تَصحَبُ المجاهِدينَ في سَبيلِ اللهِ، وأنَّها في عَونِهم ما استقاموا، فإن خانوا وغَلُّوا فارقَتْهم) .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (7/ 378).
  2. (2) يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 316).
  3. (3) رواه البخاري (3995).
  4. (4) يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/ 313).
  5. (5) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 21).
  6. (6) يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 316).
  7. (7) رواه مسلم (1763).
  8. (8) يُنظر: ((شرح مسلم)) (12/ 85).
  9. (9) يُنظر: ((المفهم)) (3/ 577).
  10. (10) يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/ 611).
  11. (11) يُنظر: ((زاد المعاد)) (1/ 125).
  12. (12) رواه البخاري (4117)، ومسلم (1769) واللَّفظُ له.
  13. (13) رواه البخاري (4118).
  14. (14) يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (17/ 401).