موسوعة التفسير

سُورة الأنفالِ
الآيات (12-14)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ

غريب الكلمات:

الرُّعْبَ: أي: الجَزَعَ والهَلَع والخوفَ، وقيل: الرُّعب هو الخوفُ الذي يملأُ الصَّدرَ والقلبَ، وقيل: إنَّه أشدُّ الخوفِ، وأصلُ الرُّعب: يدلُّ على الخوفِ، والملءِ، والقَطع [161] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/127)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/410)، ((المفردات)) للراغب (ص: 356)، ((تاج العروس)) للزبيدي (2/504). .
بَنَانٍ: أي: أطرافِ أصابِعِ اليَدينِ والرِّجلَينِ، واشتِقاقُه مِن قَولِهم: أبَنَّ بالمكانِ: إذا أقام، فالبَنانُ به يُعْتَمَدُ كلُّ ما يكونُ للإقامَةِ والحَياةِ [162] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 177)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 121)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/191)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 126)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 217)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 251). .
شَاقُّوا: أي: حَاربُوا، أو خَالَفُوا وجانبوا، وأصلُ (شقق): يدلُّ على انصداعٍ في الشَّيءِ [163] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 286)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/170)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 126)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 217)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 542). .

مشكل الإعراب :

قوله تعالى: ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ
ذلكم فَذُوقُوهُ: يجوزُ في ذَلِكُمْ عدةُ أوجُهٍ؛ أحدُها: أن يكونَ خبرًا لِمُبتدأٍ محذوفٍ، أي: العِقابُ ذَلِكم، أو الأمرُ ذلِكم. الثاني: أن يكون مبتدأً، والخبرُ محذوفٌ، أي: ذلِكم واقعٌ أو مُستحَقٌّ، أو ذَلِكم العِقابُ. الثالث: أن يكون مفعولًا به لفعلٍ محذوفٍ، يُفَسِّره ما بعده، أيْ: ذُوقُوا ذلكم، وهو على هذا من بابِ الاشتِغالِ.
وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ: (أنَّ) واسمُها وخبَرُها مصدرٌ مُؤولٌ، في إعرابِه أوجُهٌ؛ منها: أنَّه في محلِّ رَفعٍ مُبتدأٌ، والخبرُ محذوفٌ، تقديرُه: حَتْمٌ، أي: كونُ عذابِ النَّارِ للكافرينَ حتْمٌ. والثاني: أنَّه خبرُ مُبتدأٍ محذوفٍ، أي: الواجِبُ كونُ عذابِ النَّارِ للكافرينَ. وجملةُ المصدرِ المؤوَّلِ معطوفةٌ على جُملةِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ. وقيل غيرُ ذلك.
- وقُرئ وإنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النارِ بكسرِ همزةِ إنَّ على أنَّها جملةٌ استئنافِيَّة، لا محلَّ لها من الإعرابِ [164] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/313)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/619-620)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/581-583)، ((المجتبى من مشكل إعراب القرآن)) للخرَّاط (1/364). .

المعنى الإجمالي:

اذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حينَ أوحَى رَبُّك إلى الملائكةِ أنَّه معهم، وأمرَهم أن يُثَبِّتوا الذينَ آمنوا، وأعلَمَهم تعالى أنَّه سيُلقي في قلوبِ الكُفَّار الخوفَ الشَّديدَ، وأمَرَهم أن يضرِبوا فوقَ أعناقِ المُشركينَ، ويَضرِبوا كلَّ طَرَفٍ ومَفصِلٍ مِن أطرافِ أصابِعِ أيديهم وأرجُلِهم.
وذلك بسببِ أنَّهم خالفوا أمرَ اللهِ ورسولِه، وحارَبُوهما، ومَن يفعلْ ذلك، فإنَّ اللهَ يُعاقِبُه، وهو سبحانه شديدُ العِقابِ.
هذا العذابُ والنَّكالُ، فذوقوه أيُّها الكافرونَ مُعجَّلًا في الدُّنيا، وأيقِنُوا أنَّ لكم ولِغَيرِكم مِن الكَفَرةِ عذابَ النَّارِ مُؤجَّلًا في الآخرةِ.

تفسير الآيات:

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12).
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ.
أي: اذكُرْ- يا مُحمَّدُ- وقتَ أن أوحَى رَبُّك إلى الملائكةِ [165] قيل: يُمكِنُ أن يكونَ وَحيَ إلهامٍ، ويمكِنُ أن يكونَ وَحيَ إعلامٍ. يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/548). - الذينَ أمدَّ بهم حِزبَه المؤمنين- أنِّي مَعَكم بِالعَونِ والنَّصرِ والتَّأييدِ [166] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/69)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/447)، ((تفسير ابن كثير)) (4/25)، ((تفسير السعدي)) (ص: 316). وقيل: العاملُ في إِذْ، «يُثَبِّت» أي يُثَبِّت به الأقدامَ ذلك الوقتَ. وقيل: العاملُ «ليربط» أي: وليربط إذ يُوحِي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (7/378)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/548). .
فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ.
أي: فقَوُّوا عزمَ المُؤمنينَ يومَ بَدرٍ، وصَحِّحوا نيَّاتِهم في قتالِ عَدُوِّهم، وجَرِّئوهم عليهم، وألْقُوا في قلوبِهم الأمنَ والطُّمأنينةَ، وأعينُوهم على القتالِ، وبَشِّروهم بالنَّصرِ [167] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/69)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 433)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/249)، ((تفسير ابن كثير)) (4/25)، ((تفسير السعدي)) (ص: 316)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/548-549). .
سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ.
أي: سأُرعِبُ قلوبَ الذينَ كفَروا بي، فخالَفُوا أمري، وكذَّبُوا رسولي، وأملَؤُها خوفًا شديدًا حتى ينهزِموا [168] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/69)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 433)، ((تفسير ابن كثير)) (4/25)، ((تفسير السعدي)) (ص: 316)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/549). .
كما قال تعالى في سياقِ الحديثِ عن غَزوةِ أحُدٍ: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151] .
وقال سبحانه: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا [الأحزاب: 26] .
وقال عزَّ وجلَّ: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر: 2] .
وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُعطِيتُ خمسًا، لم يُعطَهنَّ أحدٌ منَ الأنبياءِ قَبلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ [169] نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ: أي: أنَّ الأعداءَ يَخافونَني ويقَعُ في قُلوبِهم الفَزَعُ وبيني وبينهم مسيرةُ مَسافةِ شهرٍ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (6/91)، ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (3/41). ...)) الحديث [170] رواه البخاري (438)، ومسلم (521). .
فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ.
أي: فاضربوا أيُّها الملائكةُ [171] هذا اختيارُ الواحديِّ، والقرطبيِّ، وابنِ عاشورٍ، والشنقيطيِّ. يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/448)، ((تفسير القرطبي)) (7/378)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/283)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/550). وقيل: هذا الأمرُ مِن اللهِ تعالى موجَّهٌ إلى المؤمنينَ، يُعَلِّمُهم كيفيَّةَ قَتلِ المُشركينَ وضَربِهم. وهذا اختيارُ ابنِ جريرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/71). رؤوسَ المُشركينَ، فحُزُّوها، وأعناقَهم فاقْطَعُوها [172] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/71)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/448)، ((تفسير ابن كثير)) (4/25)، ((تفسير السعدي)) (ص: 316)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/550-553). واختلف المفسِّرون في معنى قولِه تعالى: فَوْقَ الْأَعْنَاقِ فقيل: معناه: اضرِبوا الرُّؤوسَ. وهذا اختيارُ الواحديِّ. يُنظر: ((التفسير الوسيط)) (2/448). وممن ذهب إليه مِن السَّلف عكرمةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/71). وقيل معنى: فَوْقَ الْأَعْنَاقِ أي: على الأعناقِ، وهي الرِّقابُ. وهذا اختيارُ ابنِ عاشورٍ، والسعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 316)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/283). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/25). وممَّن ذهب من السَّلف إلى أنَّ المعنى اضْرِبوا الأعناقَ عَطِيَّةُ والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/70). ورجَّحَ ابنُ جريرٍ القَولَ بالعُمومِ، وأنَّ المُرادَ: الرُّؤوسُ والأعناقُ. فقال: (قَولُه: فَوْقَ الْأَعْنَاقِ مُحتَمِلٌ أن يكونَ مرادًا به الرُّؤوسُ، ومُحتَمِلٌ أن يكونَ مُرادًا به فوقَ جِلدةِ الأعناقِ، فيكون معناه: على الأعناقِ، وإذا احتمَلَ ذلك صَحَّ قَولُ مَن قال: معناه الأعناقُ، وإذا كان الأمرُ مُحتَمِلًا ما ذكَرْنا من التَّأويلِ، لم يكُنْ لنا أن نُوجِّهَه إلى بعضِ معانيه دون بعضٍ إلَّا بحُجَّةٍ يجِبُ التَّسليمُ لها، ولا حُجَّةَ تَدُلُّ على خُصوصِه، فالواجِبُ أن يُقالَ: إنَّ اللهَ أمَرَ بِضَربِ رُؤوسِ المُشركينَ وأعناقِهم وأيديهم وأرجُلِهم، أصحابَ نَبِيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، الذين شَهِدوا معه بَدرًا). ((تفسير ابن جرير)) (11/71). وقال الزمخشري: (أراد أعالىَ الأعناقِ التي هي المذابحُ؛ لأنَّها مفاصلُ، فكان إيقاعُ الضربِ فيها حزًّا وتطييرًا للرؤوسِ). ((تفسير الزمخشري)) (2/204). وقال ابنُ عطيةَ: (ويحتملُ عندي أن يريدَ بقولِه: فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وصفَ أبلغِ ضرباتِ العنقِ وأحكمِها، وهي الضربةُ التي تكونُ فوقَ عظمِ العنقِ، ودونَ عظمِ الرأسِ في المفصلِ). ((تفسير ابن عطية)) (2/508). وقال الشنقيطيُّ: (وأظهَرُ الأقوالِ وأقرَبُها للصَّوابِ ما قالَه بعضُ العُلَماءِ: أنَّ الله علَّمَ الملائكةَ أو أصحابَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم حَزَّ الرُّؤوسِ، وبيَّنَ لهم مَفصِلَ الرَّأسِ الذي يُطيرُ الرَّأسَ عن الجُثَّةِ، وأنَّه فَوقَ الأعناقِ؛ لأنَّ الرَّقبةَ المحِلُّ الذي تُركَّبُ منه في الرأسِ هو مَفصِلٌ للحَزِّ، إذا ضَرَبَه الإنسانُ طار الرَّأسُ بِسُرعةٍ، وكان ذلك أهونَ لإبانةِ الرَّأسِ). ((العذب النمير)) (4/552). .
قال تعالى للمؤمنين: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد: 4] .
وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ.
أي: واضرِبُوا مِن المُشركينَ كُلَّ طَرَفٍ ومَفصِلٍ مِن أطرافِ أصابِعِ أيديهم وأرجُلِهم [173] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/71-72)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 433)، ((تفسير السعدي)) (ص: 316)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/553). .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ هذا تعليلٌ لِتسليطِ اللهِ تعالى المؤمنينَ على المُشركينَ [174] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/238)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/283-284). .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ.
أي: هذا الفِعلُ مِن ضَربِ هؤلاءِ المُشركينَ فَوقَ الأعناقِ، وضَربِ كُلِّ بنانٍ منهم، وتسليطِ أوليائِه عليهم، وإلقاءِ الرُّعبِ في قُلوبِهم- إنَّما هو جزاءٌ وعقابٌ لهم؛ لأنَّهم فارَقُوا أمرَ اللهِ ورسولِه، وحارَبُوهما وخالَفُوهما، فساروا في شِقٍّ، وتَرَكوا الحَقَّ في شِقٍّ آخَرَ [175] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/73)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 433)، ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 28)، ((تفسير ابن كثير)) (4/26)، ((تفسير السعدي)) (ص: 316)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/554-555). .
وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: ومَن يخالِفْ أمرَ اللهِ وأمْرَ رَسولِه، ويفارِقْ طاعَتَهما؛ فإنَّ اللهَ يُعاقِبُه، وهو سبحانَه شَديدُ العقابِ لِمَن أراد عِقابَه، ومِن ذلك تسليطُ أوليائِه عليه في الدُّنيا [176] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/73)، ((تفسير ابن كثير)) (4/26)، ((تفسير السعدي)) (ص: 316)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/555-556). .
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ أنَّه مَن يُشاقِقِ اللهَ ورَسولَه فإنَّ اللهَ شديدُ العِقابِ؛ بيَّنَ مِن بَعدِ ذلك صِفةَ عِقابِه، وأنَّه قد يكونُ مُعجَّلًا في الدُّنيا، وقد يكون مؤجَّلًا في الآخرةِ [177] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/464). ، فقال:
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ.
أي: هذا هو العذابُ والنَّكالُ الذي جعَلْتُه لكم- أيُّها الكافِرونَ المُشاقُّونَ للهِ ورَسولِه- فذوقوه مُعجَّلًا في الدُّنيا [178] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/74)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 433)، ((تفسير ابن كثير)) (4/26)، ((تفسير السعدي)) (ص: 317). .
وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ.
أي: واعلموا أنَّ لكم ولِغَيرِكم مِن الكفَّارِ أيضًا عذابًا مُؤجَّلًا في النَّارِ، في الدَّارِ الآخِرةِ [179] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/74)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/448)، ((تفسير ابن كثير)) (4/26)، ((تفسير السعدي)) (ص: 317). .

الفوائد التربوية:

1- مِن لُطفِ اللهِ بِعبدِه أن يُسهِّلَ عليه طاعَتَه، ويُيَسِّرَها بأسبابٍ داخليَّةٍ وخارجيَّةٍ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [180] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 316). .
2- العَبدُ لا يستَغني عن تثبيتِ اللهِ له طَرْفةَ عَينٍ، فإنْ لم يُثبِّتْه وإلَّا زالت سماءُ إيمانِه وأرضِه عن مَكانِهما، وقد قال تعالى لأكرَمِ خَلْقِه عليه؛ عَبدِه ورَسولِه: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء: 74] وقال تعالى لأكرَمِ خَلِقْه: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا فالخَلقُ كُلُّهم قِسمانِ: مُوَفَّقٌ بالتَّثبيتِ، ومخذولٌ بِتَركِ التَّثبيتِ [181] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/136). .
3- قولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ التَّصريحُ بسبَبِ الانتقامِ تعريضٌ للمُؤمنينَ؛ لِيَستزيدوا مِن طاعةِ اللهِ ورَسولِه؛ فإنَّ المُشاقَّةَ لَمَّا كانت سبَبَ هذا العِقابِ العَظيمِ، فيُوشِكُ ما هو مخالفةٌ للرَّسولِ بدونِ مُشاقَّةٍ، أن يوقِعَ في عذابٍ دون ذلك، وخليقٌ بأن يكون ضِدُّها- وهو الطَّاعةُ- مُوجِبًا للخَيرِ [183] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/284). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- ما يحصُلُ في القَلبِ مِن العِلمِ والقوَّةِ ونَحوِ ذلك، قد يجعَلُه اللهُ بواسطةِ فِعل ِالملائكةِ، كما قال الله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [184] يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 507). .
2- قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا هذه نِعمةٌ خَفيَّةٌ أظهَرَها اللهُ تعالى لهم؛ ليشكُرُوه عليها [185] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/25). .
3- في قَولِه تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا إن قيل: ما الحِكمةُ في قتالِ الملائكةِ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مع أنَّ جِبريلَ قادِرٌ على أن يَدفَعَ الكُفَّارَ بِريشةٍ مِن جَناحِه؟! فالجوابُ: أنَّ ذلك وقع لإرادةِ أن يكونَ الفِعلُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه، وتكونَ الملائكةُ مَدَدًا على عادَةِ مَدَدِ الجيوشِ؛ رعايةً لِصورةِ الأسبابِ وسُنَّتِها التي أجراها اللهُ تعالى في عبادِه، والله تعالى هو فاعِلُ الجَميعِ [186] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/313). .
4- قولُ اللهِ تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ لم يُسنِدْ إلقاءَ الرُّعبِ في قلوبِ الذينَ كَفَروا إلى الملائكةِ، بل أسنده الله إلى نفسه وحده؛ لأنَّ أولئك الملائكةَ المخاطبينَ كانوا ملائكةَ نصرٍ وتأييدٍ، فلا يليقُ بقواهم إلقاءَ الرُّعبِ [187] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/282). .
5- قولُ اللهِ تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فيه أنَّ كُلَّ ما يقَعُ في العالَم هو من تقديرِ اللهِ على حسَبِ إرادَتِه [188] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/282). .
6- قولُ اللهِ تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ التَّعبيرُ بإلقاءِ الرُّعبِ في القَلبِ أبلَغُ مِن التَّعبيرِ بـ (رَعَبْتُه) أو (أرعَبْتُه)؛ لِما في التَّعبيرِ بإلقاءِ الرُّعبِ مِن الإشعارِ بأنَّه يُصَبُّ في القلوبِ دَفعةً واحدةً [189] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/509). .
7- قولُ اللهِ تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ لَمَّا كان العُنقُ يُستَرُ في الحَربِ غالبًا، عبَّرَ بقولِه: فَوْقَ الْأَعْنَاقِ أي: الرُّؤوسَ أو أعاليَ الأعناقِ منهم؛ لأنَّها مفاصِلُ ومذابِحُ [190] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/238). .
8- قولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ عبَّر بالمضارعِ ندبًا إلى التوبةِ بتقييدِ الوعيدِ بالاستمرارِ [191] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/238). .
9- قولُ اللهِ تعالى: ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك مُبَالغَةً في التعذيبِ والانتقامِ، والعربُ تَقولُ للعَدوِّ إذا أصابه المكروهُ: ذُقْ [192] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (2/253). ، وقيل: سمَّاه ذَوقًا؛ لأنَّ الذَّائِقَ أشدُّ إحساسًا بالطَّعمِ مِن المُستمِرِّ على الأكلِ، فكأنَّ حالهم أبدًا حالُ الذَّائِقِ، في إحساسِهم العَذابَ [193] يُنظر: ((باهر البرهان)) لبيان الحق الغزنوي (1/559). ، وقيل: لَمَّا كان ما وقَعَ للمُشركينَ في وقعةِ بَدرٍ مِن القَتلِ والأسْرِ والقَهرِ، يَسيرًا جدًّا بالنِّسبةِ إلى ما لهم في الآخرةِ- سمَّاه ذَوقًا؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ يُعْرَفُ بِهِ طَعْمُ اليسيرِ؛ لِيُعرَفَ به حالُ الكَثيرِ، فعاجلُ ما حصَل لهم مِن الآلامِ في الدُّنيا كالذَّوقِ القليلِ بالنسبةِ إلى الأمرِ العظيمِ المعدِّ لهم في الآخرةِ [194] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/464)، ((تفسير أبي حيان)) (5/288)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/239). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ
- تعريفُ اللهِ باسْمِ الرَّبِّ، وإضافَتِه إلى ضَميرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَولِه: رَبُّكَ؛ فيه تنويهٌ بِقَدْرِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإشارةٌ إلى أنَّه فَعلَ ذلك لُطفًا به، ورَفعًا لشأنِه [195] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/280). .
- وعُرِّفَ المُثبَّتونَ بالموصولِ في قَولِه: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا؛ لما تُومِئُ إليه الصِّلةُ آمَنُوا مِن كَونِ إيمانِهم هو الباعِثَ على هذه العِنايةِ، فتكونُ الملائكةُ بِعِنايةِ المُؤمنينَ؛ لأجْلِ وَصفِ الإيمانِ [196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/281). .
- قولُه: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ جملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ إخبارًا لهم بما يقتضي التَّخفيفَ عليهم في العَملِ الذي كلَّفَهم اللهُ به [197] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/282). .
- قوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ فيه تكريرُ الأمرِ بالضَّربِ؛ لِمَزيدِ التَّشديدِ، والاعتناءِ بِأمرِه [198] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/11). .
- قوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ خُصَّتِ الأعناقُ والبَنانُ؛ لأنَّ ضَرْبَ الأعناقِ إتلافٌ لأجسادِ المُشركينَ، وضَربَ البنانِ يُبطِلُ صلاحيَّةَ المضروبِ للقِتالِ، لأنَّ تَناوُلَ السِّلاحِ إنما يكونُ بالأصابِعِ [199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/283). .
2- قولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
- تعليلٌ لِما قبله؛ لأنَّ الباءَ في بِأَنَّهُمْ باءُ السَّببيَّةِ، فهي تفيدُ معنى التَّعليلِ؛ ولِهذا فُصِلَت الجُملةُ [200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/283-284). .
- قولُه: وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ تذييلٌ يَعُمُّ كلَّ مَن يُشاقِقُ اللهَ، ويعُمُّ أصنافَ العَقائِدِ [201] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/284). .
- وفيه إظهارٌ في موضعِ الإضمارِ- حيث لم يقُل: ومَن يُشاقِقْهما- لتربيةِ المَهابةِ، وإظهارِ كمالِ شَناعةِ ما اجتَرَؤوا عليه، والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ [202] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/11)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/284). .
- قولُه: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ المراد منه الكنايةُ عَن عِقابِ المُشاقِّينَ، وبذلك يظهَرُ الارتباطُ بين الجزاءِ والشَّرطِ، باعتبارِ لازِمِ الخَبَر، وهو الكنايةُ عن تعَلُّقِ مَضمونِ ذلك الخبَرِ بمَن حصَلَ منه مَضمونُ الشَّرطِ [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/284). .
3- قَولُه تعالى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ
- الخطابُ فيه مَع الكَفَرةِ على طريقةِ الالتفاتِ [204] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/205) . .
- وتفريعُ فَذُوقُوهُ على جُملةِ: ذَلِكُمْ بما قُدِّرَ فيها؛ تفريعٌ للشَّماتةِ على تحقيقِ الوَعيدِ؛ فصيغةُ الأمرِ مُستعمَلةٌ في الشَّماتةِ والإهانةِ [205] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/285). .
- قولُه: وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ وُضِعَ فيه الظَّاهِرُ موضِعَ الضَّميرِ- حيثُ لم يَقُلْ: وأنَّ لَكُم- لِتَوبيخِهم بالكُفرِ، وتَعليلِ الحُكم ِبه [206] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/11). .