المَبحَثُ الحادي عَشَرَ: المُوَكَّلُ بقَبضِ الأرواحِ
الموكَّلُ بقَبضِ الأرواحِ هو ملَكُ الموتِ.
ولم يثبُتْ بدليلٍ صحيحٍ أنَّ اسمَه
عِزرائيلُ، كما هو مشتهِرٌ بين النَّاسِ
.
قال اللهُ تعالى:
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11] .
وقد جاء أنَّ له أعوانًا من المَلائِكةِ.
قال اللهُ سُبحانَه:
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 61- 62] .
قال
ابنُ جريرٍ: (فإنْ قال قائِلٌ: أوَلَيسَ الذي يَقبضُ الأرواحَ ملَكُ الموتِ، فكيف قيل: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا، والرُّسلُ جملةٌ، وهو واحِدٌ؟ أوَليس قد قال:
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة: 11] ؟ قيل: جائزٌ أنْ يكونَ اللهُ تعالى أعان ملَكَ الموتِ بأعوانٍ من عنده، فيتولَّوْن ذلك بأمْرِ ملَكِ الموتِ، فيكونُ (التوفِّي) مُضافًا -وإنْ كان ذلك من فِعل أعوانِ ملَكِ الموتِ- إلى ملَكِ الموتِ؛ إذ كان فِعلُهم ما فعلوا من ذلك بأمْره، كما يُضاف قتْلُ مَن قتَلَ أعوانُ السُّلطانِ، وجَلْدُ مَن جَلَدوه بأمْرِ السُّلطانِ، إلى السُّلطانِ، وإنْ لم يكُنِ السُّلطانُ باشرَ ذلك بنَفْسِه ولا وَلِيَه بيَدِه. وقد تأوَّل ذلك كذلك جماعةٌ من أهلِ التأويلِ)
.
وقال ابنُ أبي زمنين: (بابٌ في الإيمانِ بقَبضِ مَلَكِ الموتِ الأنفُسَ. وأهلُ السُّنَّةِ يُؤمِنون بأنَّ مَلَكَ الموتِ يَقبِضُ الأنفُسَ. وقال عَزَّ وجَلَّ:
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة: 11] فإذا قبض نفسًا مُؤمِنةً دفعها إلى مَلائِكةِ الرحمةِ، وإذا قبض نفسًا كافِرةً أو فاجِرةً دفعها إلى مَلائِكةِ العذابِ، وهو قَولُه:
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ [الأنعام: 61] ، بل يَقبِضونها من مَلَكِ الموتِ ثم يصعَدون بها إلى اللهِ، وذلك قَولُه:
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ)
.
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 28-32] .
قال
الشنقيطي: (أسند هنا جَلَّ وعلا التوفِّيَ للمَلائِكةِ في قَولِه:
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وأسنده في السَّجدةِ لِمَلَكِ الموتِ في قَولِه:
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ، وأسنده في الزُّمَرِ إلى نَفْسِه جَلَّ وعلا في قَولِه:
اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا الآية، وقد بَيَّنَّا في كتابِنا «دفع إيهامِ الاضطرابِ عن آياتِ الكِتابِ» في سورةِ السَّجدةِ: أنَّه لا معارَضةَ بين الآياتِ المذكورةِ، فإسنادُه التوَفِّيَ لنَفْسِه؛ لأنَّه لا يموتُ أحدٌ إلَّا بمشيئتِه تعالى، كما قال:
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران: 145] ، وأسنده لملَكِ الموتِ؛ لأنَّه هو المأمورُ بقَبضِ الأرواحِ، وأسنده إلى المَلائِكةِ؛ لأنَّ لِمَلَكِ الموتِ أعوانًا من المَلائِكةِ يَنزِعون الرُّوحَ من الجسَدِ إلى الحُلقومِ فيأخُذُها مَلَكُ الموتِ، كما قاله بعضُ العُلَماءِ. والعِلمُ عند اللهِ تعالى)
.
وعن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِي اللهُ عنه قال: خرَجْنا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جِنازةِ رَجُلٍ من الأنصارِ، فانتَهَينا إلى القبرِ ولَمَّا يُلحَدْ، فجلس رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجلَسْنا حولَه كأنَّ على رُؤوسِنا الطيرَ، وفي يَدِه عودٌ يَنكُتُ في الأرضِ، فرفع رأسَه، فقال:
((استعيذوا باللهِ من عذابِ القَبرِ، مَرَّتينِ أو ثلاثًا، ثمَّ قال: إنَّ العبْدَ المؤمِنَ إذا كانَ في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنْيا، وإقْبالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نزَلَ إليه مَلائكةٌ مِنَ السَّماءِ بِيضُ الوُجوهِ، كَأنَّ وُجوهَهُمُ الشَّمْسُ، معَهُم كَفَنٌ مِن أَكْفانِ الجَنَّةِ، وحَنُوطٌ
مِن حَنُوطِ الجَنَّةِ، حتَّى يَجْلِسوا مِنه مَدَّ البَصَرِ، ثمَّ يَجيءُ مَلَكُ المَوْتِ علَيه السَّلامُ، حتَّى يَجْلِسَ عندَ رَأْسِه، فيَقُولُ: أَيَّتُها النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجي إِلى مَغْفرةٍ مِنَ اللهِ ورِضْوانٍ. فتَخْرُجُ تَسِيلُ كَما تَسِيلُ القَطْرةُ مِن فِي السِّقَاءِ، فيَأْخُذُها، فإذا أخَذَها لم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عينٍ حتَّى يَأخُذوها، فيَجْعَلوها في ذَلِك الكَفَنِ، وفي ذَلِك الحَنُوطِ، ويَخْرُجُ مِنها كَأَطْيبِ نَفْحةِ مِسْكٍ وُجِدَت على وَجْهِ الْأَرْضِ. فيَصْعَدونَ بِها... وإنَّ العبدَ الكافِرَ إذا كان في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنيا، وإقبالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَل إليه مِن السَّماءِ مَلائكةٌ سُودُ الوُجوهِ، مَعَهمُ المُسُوحُ
، فيَجْلِسونَ منه مَدَّ البَصَرِ، ثُمَّ يَجيءُ مَلَكُ المَوتِ حتَّى يَجْلِسَ عِندَ رَأسِه، فيَقولُ: أيَّتُها النَّفْسُ الخبيثةُ، اخْرُجي إلى سَخَطٍ مِن اللهِ وغَضَبٍ! فتَفَرَّقُ في جسَدِه، فيَنتَزِعُها كَما يُنتزَعُ السَّفُّودُ
مِنَ الصُّوفِ المَبْلولِ، فيَأْخُذُها، فإذا أخَذَها لَم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عينٍ حتَّى يَجْعَلوها في تِلك المُسوحِ، ويَخْرُجُ مِنها كأنْتَنِ رِيحِ جِيفةٍ وُجِدَت على وَجهِ الأرضِ. فيَصْعَدونَ بها...))
.
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أُرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إلى مُوسَى عليهما السَّلام، الحديث... ))
.
وقال
ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: (إنَّ لِمَلَكِ الموتِ أعوانًا من المَلائِكةِ)
.
وعن مجاهدٍ قال: (جُعِلَت له أعوانٌ يَتوَفَّون الأنفُسَ، ثمَّ يَقبِضُها منهم)
.