موسوعة الأخلاق والسلوك

د- نماذِجُ من الإحسانِ عِندَ الصَّحابةِ


- إحسانُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه:
من صُوَرِ إحسانِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه إنفاقُه على قرابتِه، ومنهم مِسطَحٌ، لكِنَّه لمَّا تكلَّم في عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قطَع عنه أبو بكرٍ هذه النَّفَقةَ، ثمَّ عَفا عنه امتثالًا لأمرِ اللهِ، وأعاد إليه النَّفقةَ التي كان يُجريها عليه؛ ففي الحديثِ الذي روته عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها عن حادثةِ الإفكِ قالت: (قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه -وكان يُنفِقُ على مِسطَحِ بنِ أُثاثةَ لقرابتِه منه-: واللهِ لا أُنفِقُ على مِسطَحٍ شيئًا أبدًا بعدَ ما قال لعائشةَ، فأنزل اللهُ تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا [النور: 22] إلى قولِه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22] ، فقال أبو بكرٍ: بلى واللهِ، إني لأحِبُّ أن يغفِرَ اللهُ لي، فرجَع إلى مِسطَحٍ الذي كان يُجري عليه) [273] أخرجه مطوَّلًا البخاري (2661) واللفظ له، ومسلم (2770). .
- إحسانُ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه إلى أمِّه:
 يخبرُ أبو هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه عن حالِه مع أمِّه فيقولُ: (كنتُ أدعو أمِّي إلى الإسلامِ وهي مُشرِكةٌ، فدعوتُها يومًا، فأسمعَتْني في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أكرَهُ! فأتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أبكي، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ إنِّي كنتُ أدعو أمِّي إلى الإسلامِ، فتأبى عليَّ، فدعوتُها اليومَ فأسمعَتْني فيك ما أكره، فادْعُ اللهَ أن يهدِيَ أمَّ أبي هُرَيرةَ، فقال: اللهمَّ اهْدِ أمَّ أبي هُرَيرةَ، فخرجتُ مُستبشِرًا بدعوةِ نَبيِّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا جِئتُ فصِرْتُ إلى البابِ، فإذا هو مُجافٌ، فسمعَتْ أمِّي خَشْفَ قَدَميَّ، فقالت: مكانَك يا أبا هُرَيرةَ، وسمعتُ خَضخَضةَ الماءِ، قال: فاغتسلَتْ، ولبسَتْ دِرْعَها، وعَجِلَت عن خمارِها، ففتَحَت البابَ، ثُمَّ قالت: يا أبا هُرَيرةَ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه! فرجعتُ إلى رَسولِ اللهِ فأتيتُه وأنا أبكي من الفَرَحِ! قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أبشِرْ، قد استجاب اللهُ دعْوَتَك، وهدى أمَّ أبي هُرَيرةَ، فحَمِدَ اللهَ، وأثنى عليه، وقال خَيرًا، قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أن يحبِّبَني أنا وأمِّي إلى عبادِه المُؤمِنين، ويحِبِّبَهم إلينا، قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبيدَك هذا -يعني أبا هُرَيرةَ- وأمَّه إلى عبادِك المُؤمِنين، وحَبِّبْ إليهم المُؤمِنينَ؛ فما خُلِق مُؤمِنٌ يسمَعُ بي ولا يَراني إلَّا أحَبَّني) [274] أخرجه مسلم (2491). .
- إحسانُ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما إلى صديقِ أبيه:
عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّه كان إذا خرج إلى مكَّةَ، كان له حمارٌ يتروَّحُ عليه إذا مَلَّ ركوبَ الرَّاحلةِ، وعمامةٌ يَشُدُّ بها رأسَه، فبينا هو يومًا على ذلك الحمارِ إذ مرَّ به أعرابيٌّ، فقال: ألستَ ابنَ فلانِ بنِ فلانٍ؟ قال: بلى، فأعطاه الحِمارَ وقال: اركَبْ هذا، والعمامةَ، قال: اشدُدْ بها رأسَك، فقال له: بعضُ أصحابِه: غَفَر اللهُ لك! أعطَيتَ هذا الأعرابيَّ حمارًا كنتَ تَرَوَّحُ عليه، وعمامةً كنتَ تَشُدُّ بها رأسَك! فقال: إنِّي سمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ مِن أبَرِّ البرِّ صِلةَ الرَّجُلِ أهلَ وُدِّ أبيه بعد أن يُوَلِّيَ))، وإنَّ أباه كان صديقًا لعُمَرَ [275] أخرجه مسلم (2552). . فأحسَن عبدُ اللهِ برَّ أبيه عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهما بعد مماتِه بهديَّتِه لهذا الأعرابيِّ؛ فمن أفضَلِ أنواعِ البرِّ إحسانُ الرَّجُلِ لأهلِ وُدِّ أبيه، وهم أهلُ محبَّةِ أبيه وصداقتِه، بعدَ أن «يولِّيَ» وهو كنايةٌ عن الموتِ، وإنَّما كانت الوصيَّةُ بأولياءِ الوالِدِ بعدَ موتِه أبَرَّ؛ لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى كَسبِ الدُّعاءِ له وبقاءِ المودَّةِ [276] يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/110)، ((البحر المحيط الثجاج)) للإتيوبي (40/264). .
- إحسانُ سعيدِ بنِ العاصِ:
- باع أبو الجَهمِ العَدَويُّ دارَه بمائةِ ألفِ دِرهَمٍ، ثمَّ قال: فبكم تشتَرون جوارَ سعيدِ بنِ العاصِ؟ قالوا: هل يُشترى جوارٌ قَطُّ؟! قال: ردُّوا عليَّ داري وخُذوا مالَكم، ما أدَعُ جوارَ رَجُلٍ إن قعَدْتُ سأل عنِّي، وإن رآني رحَّب بي، وإن غِبتُ حَفِظَني، وإن شَهِدتُ قَرَّبني، وإن سألتُه قضى حاجتي، وإنْ لم أسأَلْه بدَأَني، وإن نابَتْني جائحةٌ فرَّج عني. فبلغ ذلك سعيدًا فبعَث إليه مائةَ ألفِ دِرهَمٍ [277] ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (1/393). !
- إحسانُ أبي اليَسَرِ رَضِيَ اللهُ عنه:
-عن عُبادةَ بنِ الوليدِ بنِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ قال: ((خرجتُ أنا وأبي نطلُبُ العلمَ في هذا الحيِّ من الأنصارِ قبل أن يَهلِكوا، فكان أوَّلُ مَن لَقِينا أبا اليَسَرِ صاحِبَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعه غلامٌ له، معه ضِمامةٌ من صُحُفٍ، وعلى أبي اليَسَرِ بُردةٌ ومَعافِريٌّ [278] هي بُرودٌ باليَمَنِ منسوبةٌ إلى معافِر، وهي قبيلةٌ باليَمَنِ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/262). ، وعلى غُلامِه بُردةٌ ومَعافِريٌّ...، قال: فقُلتُ له أنا: يا عَمِّ، لو أنَّك أخَذْتَ بُردةَ غُلامِك، وأعطيتَه مَعافِرِيَّكَ، وأخَذْتَ معَافِرِيَّه وأعطَيتَه بُرْدَتَك، فكانت عليك حُلَّةٌ وعليه حُلَّةٌ، فمسَح رأسي، وقال: اللهُمَّ بارِكْ فيه، يا ابنَ أخي، بَصَرُ عينيَّ هاتينِ، وسَمعُ أذُنَيَّ هاتينِ، ووعاه قلبي هذا -وأشار إلى مناطِ قَلبِه- رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يقولُ: أطعِموهم ممَّا تأكُلون، وألبِسوهم ممَّا تَلبَسون، وكان أن أعطيتُه من متاعِ الدُّنيا أهونَ علَيَّ مِن أن يأخُذَ من حسَناتي يومَ القيامةِ!)) [279] أخرجه مسلم (3007). .
وعن عُبادةَ بنِ الوليدِ بنِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ قال: ((خرجتُ أنا وأبي نطلُبُ العلمَ في هذا الحيِّ من الأنصارِ قبل أن يَهلِكوا، فكان أوَّلُ مَن لَقِينا أبا اليَسَرِ صاحِبَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعه غلامٌ له، معه ضِمامةٌ من صُحُفٍ، وعلى أبي اليَسَرِ بُردةٌ ومَعافِريٌّ، وعلى غُلامِه بُردةٌ ومَعافِريٌّ، فقال له أبي: يا عَمِّ، إني أرى في وَجهِك سَفعةٌ من غَضَبٍ! قال: أجَلْ، كان لي على فلانِ بنِ فُلانٍ الحَراميِّ مالٌ، فأتيتُ أهلَه، فسَلَّمْتُ، فقُلتُ: ثَمَّ هو؟ قالوا: لا، فخرج علَيَّ ابنٌ له جَفْرٌ [280] الجفر: الصبيُّ إذا انتفخ لحمُه، وأكل، وصارت له كَرشٌ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (10/447). ، فقلتُ له: أين أبوك ؟ قال: سَمِع صوتَك فدَخَل أريكةَ أُمِّي! فقُلتُ: اخرُجْ إليَّ، فقد عَلِمتُ أين أنت، فخرج، فقُلتُ: ما حملك على أن اختبأتَ منِّي؟ قال: أنا -واللهِ- أحَدِّثُك ثُمَّ لا أَكذِبُك، خَشِيتُ -واللهِ- أن أحَدِّثَك فأَكذِبَك، وأن أعِدَك فأُخلِفَك، وكُنتَ صاحِبَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُنتُ واللهِ مُعسِرًا، قال: قُلتُ: آللهِ؟ قال: اللهِ. قُلتُ: آللهِ؟ قال: اللهِ. قُلتُ: آللهِ؟ قال: اللهِ. قال: فأتى بصحيفتِه فمحاها بيَدِه! فقال: إنْ وجَدْتَ قضاءً فاقْضِني، وإلَّا أنت في حِلٍّ، فأشهَدُ بَصَرُ عَيَنيَّ هاتينِ -ووَضع إصبَعَيه على عينَيه- وسَمْعُ أُذُنَيَّ هاتينِ، ووعاه قلبي هذا -وأشار إلى مَناطِ قَلبِه- رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يقولُ: مَن أنظَرَ مُعسِرًا أو وَضَع عنه، أظَلَّه اللهُ في ظِلِّه)) [281] أخرجه مسلم (3006). .
فقد أحسَن الصَّحابيُّ أبو اليَسَرِ رَضِيَ اللهُ عنه إلى المَدينِ، وجَعَله في حِلٍّ من السَّدادِ ما دام مُعسِرًا، ومِن إحسانِه أنَّه محا ما كان مكتوبًا في الصَّحيفةِ بيَدِه؛ لئلَّا يبقى الدَّينُ مُسَجَّلًا، وإنَّما فعل ذلك لأنَّه عزَم على ألَّا يُطالِبَه بالدَّينِ بعدَ ذلك إلَّا أن يَجِدَ سَعةً فيُؤدِّيَه بنَفسِه [282] يُنظَر: ((الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم)) لمحمد الأمين الهرري (26/467). .

انظر أيضا: