الدُّعاءُ للكُفَّارِ والمُشْرِكين بالهِدايةِ سُنَّةٌ نَبويَّةٌ أنْقَذَتْ وأسْعَدَت الكَثيرينَ، وهذا يُوضِّحُ مَدى عَظمَتِه ورَحمتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للمُخالِفينَ في غيرِ بأسٍ منهم بأذًى أو قِتالٍ يَستلزِمُ دَفْعَه، ولوْ بالدُّعاءِ عليهم.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أبو هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه كان يَدعو أُمَّه إلى الإسلامِ وهي مُشركةٌ، فتَرفُضُ وتَمتنِعُ عن الدُّخولِ فيه، ويُكرِّرُ عليه دَعْوتَه تلك، فَدعاها يومًا فَأسمعَتْه في رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ «ما يَكرَهُ»، أي: أنَّها أساءتْ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حُضورِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، فَأتى أبو هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عنه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَبكي مِنَ الحزنِ، وإساءةِ أُمِّه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذكَرَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما فَعَلَتْ، وطَلَبَ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَدعوَ اللهَ لها بِالهدايةِ، فأجابَهُ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في طَلبِهِ ودَعا لها قائلًا: «اللَّهمَّ اهْدِ أُمَّ أبي هُرَيْرَةَ» فَخَرَجَ أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه مِن عندِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتلك الدَّعوةِ مُستبشِرًا، مَسروًرا مُنشرِحًا؛ وذلك لعِلمِه أنَّ دَعوةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُستجابةٌ، ورَجَع إلى بَيتِه، فَلمَّا وَصَلَ إلى بابِ أُمِّه فإذا البابُ «مُجافٌ» أي: مَردودٌ مُغلَقٌ، فَسَمِعَتْ أُمُّه خَشَفَ قَدمِه، أي: مَشْيتَه، فعَرَفَت أنَّه وَلَدُها، فقالت له: «مَكانَكَ»، أي: لا تَدخُلْ، وسَمِعَ أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه «خَضْخَضَةَ الماءِ»، أي: تَحريَكَه، أو صَوْتَه، وهذا كلُّه كِنايةٌ عن استعمالِها الماءَ واغتِسالِها به، فلمَّا أنِ اغتَسَلَت ولَبِستْ «دِرعَها»، أي: مَلابِسَها، وتركَتْ خِمارَها مِنَ العَجَلِة، فلمْ تَلْبَسْه على رَأسِها، والمعنى: أنَّها بَادرَتْ إلى فتحِ البابِ بعدَ لُبْسِها الثِّيابَ قبْلَ أنْ تَلبَسَ خِمارَها لتُبشِّرَ ابْنَها وتُفرِّحَه بإسلامِها، فقالتْ رَضيَ اللهُ عنها: «يا أبا هُرَيْرَةَ، أشهدُ أنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه» فنَطَقَت الشَّهادتينِ ودخَلَت في الإسلامِ، فلمَّا سَمِع أبو هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه ذلك منها رجَعَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يَبكي مِنَ الفرَحِ، وقالَ: «يا رَسُولَ اللهِ، أبْشِرْ» بالخيرِ، وأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قَدِ اسْتَجَابَ دَعْوتَه، فحَمِدَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اللهَ وأثْنَى عليه، وقال كلامًا يَتضمَّنُ خيرًا، ثُمَّ طَلَبَ أبو هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَدعُوَ اللهَ أنْ يُحبِّبَه هو وأمَّه إلى عِبادِه المؤمِنينَ، ويُحبِّبَهم إليهما، فدعا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائلًا: «اللَّهمَّ حَبِّبْ عُبيدَك هذا -يعني أبا هُرَيْرةَ- وأُمَّه إلى عِبادِكَ المؤمِنينَ وحَبِّبْ إليهمُ المؤمِنينَ» فاستجابَ اللهُ دُعاءَ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حتَّى قال أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه: «فما خُلقَ مُؤمنٌ يَسمعُ بي» بذِكرِ اسْمي «ولا يَراني» في حَياتِي «إلَّا أحبَّنِي» ببَرَكةِ دَعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحديثِ: فضْلُ أبي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عنه ومَنقبةٌ له ولأُمِّه رَضيَ اللهُ عنها.
وفيه: البِرُّ بِالوالدَيْنِ والتأدُّبُ معهم ولو كانَا كافِرَيْنِ.
وفيه: استجابةُ دُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الفَورِ بِعينِ المسؤولِ وهو مِن أعلامِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: أنَّ مِن هدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حمْدَ اللهِ عندَ حُصولِ النِّعمِ.