موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نماذِجُ مِن التَّودُّدِ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتودَّدُ إلى أصحابِه وأزواجِه، ومَن هم حَولَه، ويتحبَّبُ إليهم، ويستعمِلُ في ذلك الوسائِلَ كافَّةً، ومِن ذلك:
1- ما روَته عائِشةُ رضِي اللهُ عنها: أنَّ رجُلًا استأذَن على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا رآه قال: ((بئس أخو العَشيرةِ، وبئس ابنُ العَشيرةِ، فلمَّا جلَس تطلَّق النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في وَجهِه وانبسَط إليه، فلمَّا انطلَق الرَّجلُ قالت له عائِشةُ: يا رسولَ اللهِ، حين رأَيتَ الرَّجلَ قُلْتَ له كذا وكذا، ثُمَّ تطلَّقْتَ في وَجهِه، وانبسطْتَ إليه. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا عائِشةُ، متى عهِدْتِني فحَّاشًا؟ إنَّ شرَّ النَّاسِ عندَ اللهِ منزِلةً يومَ القيامةِ مَن ترَكه النَّاسُ اتِّقاءَ شرِّهـ)) .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (هذا إنَّما فعَله رسولُ اللهِ على وَجهِ المُداراةِ، فسنَّ ذلك لأمَّتِه، فيجوزُ أن يُستعمَلَ مِثلُ هذا في حقِّ الشِّرِّيرِ والظَّالِمِ) .
وقال ابنُ بَطَّالٍ: (المُداراةُ مِن أخلاقِ المُؤمِنينَ، وهي خَفضُ الجَناحِ للنَّاسِ، ولينُ الكلمةِ، وتَركُ الإغلاظِ لهم في القولِ، وذلك مِن أقوى أسبابِ الأُلفةِ وسلِّ السَّخيمةِ) .
2- عن عائِشةَ رضِي اللهُ عنها قالت: ((رجَع رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن البَقيعِ، فوجَدني وأنا أجِدُ صُداعًا في رأسي، وأنا أقولُ: وارأساه! فقال: بل أنا يا عائِشةُ وارأساه! ثُمَّ قال: ما ضرَّكِ لو مِتِّ قَبلي، فقُمتُ عليك، فغسَّلْتُكِ، وكفَّنْتُكِ، وصلَّيتُ عليكِ، ودفنْتُكِ؟!)) .
قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك مِن بابِ التَّحبُّبِ، يعني: أنَّه يتولَّاها عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو بنَفسِه حتَّى بَعدَ مماتِها، ويُستفادُ مِن الحديثِ: بيانُ منزِلةِ عائِشةَ عندَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانت أحَبَّ نِسائِه اللاتي معَه، ويُستفادُ منه أيضًا: أنَّه ينبغي للإنسانِ أن يتودَّدَ إلى زوجتِه، كما ينبغي لها أيضًا أن تتودَّد إلى زَوجِها .
3- عن أنسٍ رضِي اللهُ عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكنْ يدخُلُ بَيتًا بالمدينةِ غَيرَ بَيتِ أمِّ سُلَيمٍ إلَّا على أزواجِه، فقيل له، فقال: إنِّي أرحَمُها؛ قُتِل أخوها معي)) ، خلَف أخاها في أهلِه بخيرٍ بَعدَ وفاتِه، وكفى بجَبرِ الخاطِرِ والتَّودُّدِ خيرًا، لا سيَّما مِن سيِّدِ الخَلقِ صَلواتُ اللهِ عليه وسلامُه .
4- ومِن ذلك تودُّدُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَن حَولَه، بتبسُّمِه في وُجوهِ أصحابِه، ودُعائِه لهم؛ فعن جَريرٍ رضِي اللهُ عنه قال: ((ما حجَبني النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منذُ أسلَمْتُ، ولا رآني إلَّا تبسَّم في وجهي، ولقد شكَوتُ إليه أنِّي لا أثبُتُ على الخيلِ، فضرَب بيدِه في صدري، وقال: اللَّهمُّ ثبِّتْه، واجعَلْه هاديًا مَهدِيًّا)) .
5- ومِن تودُّدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّه مرَّ على صِبيانٍ، فسلَّم عليهم)) .
وحمَل عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أثقالَ النَّاسِ، واعتنى بمصالِحِهم، وعفا عنهم وصفَح؛ قال عبدُ اللهِ بنُ شقيقٍ لعائِشةَ رضِي اللهُ عنها: (هل كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصلِّي وهو قاعِدٌ؟ قالت: نعَم، بَعدَما حَطَمه النَّاسُ) ، كأنَّهم بما حمَّلوه مِن أثقالِهم صيَّروه شيخًا محطومًا .
وكان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يعودُ المرضى، ويشهَدُ الجنائِزَ، ويقبَلُ الهديَّةَ، ويزورُ الضُّعفاءَ، ويُجيبُ الدَّعوةَ، ويقولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((لو دُعيتُ إلى ذِراعٍ أو كُراعٍ لأجَبتُ، ولو أُهدِي إليَّ ذِراعٌ أو كُراعٌ لقبِلْتُ)) ، فيتودَّدُ إلى النَّاسِ بالتَّواضُعِ وقَبولِ اليَسيرِ والإجابةِ إليه؛ لأنَّ الهديَّةَ تُؤكِّدُ المحبَّةَ. والمُؤاكَلةُ وإجابةُ الدَّعوةِ تبعثانِ على سُرورِ الدَّاعي، وتُؤكِّدانِ الذِّمامَ والوُدَّ بَينَهما ، وقال أبو بكرٍ رضِي اللهُ عنه بَعدَ وفاةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعُمرَ: (انطلِقْ بنا إلى أمِّ أيمَنَ نزورُها، كما كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يزورُها) .
7- ودخَل النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على سَعدِ بنِ عُبادةَ يعودُه، فقال له: ((يا سَعدُ، ألم تسمَعْ ما قال أبو حُبابٍ؟)) يُريدُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ ، وإنَّما كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكنِّي عُظماءَ المُشرِكينَ وأهلَ الكتابِ على سبيلِ الاستِئلافِ والتَّودُّدِ لهم ولمَن وراءَهم مِن عشائِرِهم . والأمثلةُ على صَبرِه على قومِه وحِلمِه وصَفحِه وعَفوِه كثيرةٌ.

انظر أيضا:

  1. (1) أخرجه البخاري (6032) واللفظ له، ومسلم (2591).
  2. (2) ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) (4/348).
  3. (3) ((شرح صحيح البخاري)) (9/305).
  4. (4) أخرجه أحمد (25908) وابن ماجه (1465) والنسائي في الكبرى (7079) وابن حبان (6586). صحَّحه ابن حبان، وحَّسنه الألباني في ((إرواء الغليل)) (3/160) وشعيب في تخريج ((المسند)) (25908). وهو في البخاري (7217) بنحوِه.
  5. (5) ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (2/ 536، 537).
  6. (6) أخرجه البخاري (2844) واللفظ له، ومسلم (2455).
  7. (7) ((مصابيح الجامع)) للدماميني (6/ 255).
  8. (8) أخرجه البخاري (3035، 3036)، ومسلم (2475).
  9. (9) أخرجه البخاري (6247) واللفظ له، ومسلم (2168) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
  10. (10) أخرجه مسلم (732).
  11. (11) ((مشارق الأنوار)) للقاضي عياض (1/ 192).
  12. (12) ما دونَ الرُّكبةِ من السَّاقِ. ((النهاية)) لابن الأثير (4/ 165).
  13. (13) أخرجه البخاري (2568) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
  14. (14) ((شرح البخاري)) لابن بطال (7/ 290).
  15. (15) أخرجه مسلم (2454) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
  16. (16) أخرجه البخاري (4566) من حديثِ أسامةَ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما.
  17. (17) ((تفسير الموطأ)) للقنازعي (1/ 358).