كان الصَّحابةُ والتَّابعونَ يَحرِصونَ على مَعرِفةِ هَديِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عِباداتِه وأحوالِه كُلِّها، كُلُّ ذلك حِرصًا مِنهم على الاقتِداءِ به والعَمَلِ كعَمَلِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولمَّا كان أعرَفُ النَّاسِ بأحوالِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أزواجَه، كانوا يَسألونَ زَوجاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن عِبادَتِه، ومِن ذلك أنَّ التَّابعيَّ الجَليلَ عبدَ اللهِ بنَ شَقيقٍ سَألَ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها فقال: أكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقرِنُ السُّوَرَ؟ أي: هَل كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا صَلَّى في اللَّيلِ يَقرِنُ السُّوَرَ، أي: يَجمَعُ ويَضُمُّ إلى السُّورةِ سورةً أُخرى في الرَّكعةِ الواحِدةِ؟ فقالت عائِشةُ: المُفصَّلُ، أي: كان يَقرِنُ بَينَ سُوَرِ المُفصَّلِ. والمُفصَّلُ يَبدَأُ مِن سورةِ ق إلى سورةِ النَّاسِ، وسُمِّيَ مُفصَّلًا لكَثرةِ الفَصلِ بَينَ سُوَرِه بالبَسمَلةِ، ولأنَّ سورَه قِصارٌ كُلُّ سورةٍ كَفَصلٍ مِنَ الكَلامِ. ثُمَّ سَألَها سُؤالًا آخَرَ فقال: أكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي قاعِدًا؟ أي: هَل كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي في قيامِه في اللَّيلِ قاعِدًا؟ فقالت عائِشةُ: نَعَم، أي: كان يُصَلِّي قاعِدًا، وذلك بَعدَما حَطَمَه النَّاسُ. يُقالُ: حَطَمَ فُلانًا أهلُه: إذا كَبِرَ فيهم كَأنَّه لِما حَمَلَه مِن أُمورِهم وأثقالِهم والاعتِناءِ بمَصالحِهم صَيَّروه شَيخًا مَحطومًا، والحَطمُ: الشَّيءُ اليابِسُ. ثُمَّ سَألَها سُؤالًا آخَرَ فقال: أكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي الضُّحى؟ أي: هل كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي صَلاةَ الضُّحى. فقالت عائِشة: لا، أي: لَم يَكُنْ يُصَلِّي الضُّحى، إلَّا أن يَجيءَ مِن مَغيبِه، أي: مِن سَفَرِه، فعِندَ ذلك يُصَلِّي الضُّحى. والمَعنى: أنَّه لَم يَكُنْ يواظِبُ عليها، بَل يَترُكُها بَعضَ الأحيانِ خَشيةَ أن تُفرَضَ؛ وذلك جَمعًا بَينَ الأحاديثِ الأُخرى الدَّالَّةِ على أنَّه كان يُصَلِّيها. ثُمَّ سَألَها عن صَومِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَصومُ شَهرًا سِوى رَمَضانَ؟ أي: هَل كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَصومُ شَهرًا كامِلًا غَيرَ رَمَضانَ أم أنَّه يَقتَصِرُ على شَهرِ رَمَضانَ؟ فقالت عائِشةُ: لا واللَّهِ، إن صامَ شَهرًا تامًّا سِوى رَمَضانَ، أي: ما صامَ شَهرًا كامِلًا غَيرَ رَمَضانَ. ولا أفطَرَه كُلَّه حَتَّى يَصومَ مِنه شَيئًا، أي: ولَم يَكُنْ يُفطِرُ الشَّهرَ كامِلًا، بَل كان يَصومُ أيَّامًا مِنه. ثُمَّ سَألَها عن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أيُّ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أحَبَّ إليه؟ أي: مَن أحَبُّ الصَّحابةِ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقالت عائِشةُ: أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أي: كان أحَبَّ النَّاسِ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال: ثُمَّ مَن؟ أي: بَعد أبي بَكرٍ مَن كان أحَبَّ إليه؟ فقالت عائِشةُ: ثُمَّ عُمَرُ، أي: عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه. فقال: ثُمَّ مَن؟ أي: مَن بَعدَ عُمَرَ. فقالت عائِشةُ: أبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ رَضِيَ اللهُ عنه. قال يَزيدُ، أي: أن يَزيدَ، وهو أحَدُ الرُّواةِ زادَ في رِوايَتِه: أنَّ عبدَ اللهِ بنَ شَقيقٍ قال أيضًا: ثُمَّ مَن؟ أي: مَن بَعدَ أبي عُبَيدةَ. فعِندَ ذلك سَكَتَت عائِشةُ ولَم تَتَكَلَّمْ.
وفي الحَديثِ حِرصُ السَّلَفِ على مَعرِفةِ كيفيَّةِ هَديِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عِباداتِه.
وفيه مَشروعيَّةُ سُؤالِ الرَّجُلِ للمَرأةِ.
وفيه مَشروعيَّةُ قِراءةِ أكثَرَ مِن سورةٍ في رَكعةٍ.
وفيه مَشروعيَّةُ صَلاةِ النَّافِلةِ قاعِدًا.
وفيه بَيانُ الأذى الذي وجَدَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ النَّاسِ في سَبيلِ دَعوتِهم إلى اللهِ.
وفيه بَيانُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان لا يواظِبُ على صَلاةِ الضُّحى.
وفيه بَيانُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يَصُمْ شَهرًا كامِلًا غَيرَ رَمَضانَ.
وفيه بَيانُ أحَبِّ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليه .