ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
- عن النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن البِرِّ والإثمِ، فقال:
((البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ، والإثمُ: ما حاك في صَدْرِك، وكَرِهْتَ أن يطَّلِعَ عليه النَّاسُ))
.
قال
ابنُ دقيقِ العيدِ: (أمَّا البِرُّ فهو الذي يَبَرُّ فاعِلُه، ويُلحِقُه بالأبرارِ، وهم المطيعون لله عزَّ وجَلَّ. والمرادُ بحُسنِ الخُلُقِ: الإنصافُ في المعاملةِ، والرِّفقُ في المحاوَلةِ، والعَدلُ في الأحكامِ، والبَذلُ في الإحسانِ، وغيرُ ذلك من صفاتِ المؤمِنين)
.
وقال
علي القاري: (...
((فقال: البِرُّ)) أي: أعظَمُ خِصالِه، أو البِرُّ كُلُّه مُجمَلًا
((حُسنُ الخُلُقِ)) أي: مع الخلقِ بأمرِ الحَقِّ أو مداراةِ الخَلقِ، ومراعاةِ الحَقِّ. قيل: فُسِّر البِرُّ في الحديثِ بمعانٍ شَتَّى:
ففسَّره في موضِعٍ بما اطمأنَّتْ إليه النَّفسُ، واطمأنَّ إليه القَلبُ.
وفسَّره في موضِعٍ بالإيمانِ، وفي موضِعٍ بما يُقَرِّبُك إلى اللَّهِ، وهنا بحُسنِ الخُلقِ، وفُسِّر حُسنُ الخُلُقِ باحتمالِ الأذى، وقِلَّةِ الغَضَبِ، وبَسطِ الوَجهِ، وطِيبِ الكلامِ، وكُلُّها متقارِبةٌ في المعنى.
وقال بعضُ المحَقِّقين: تلخيصُ الكلامِ في هذا المقامِ أن يقالَ: البِرُّ اسمٌ جامعٌ لأنواعِ الطَّاعاتِ والأعمالِ المُقَرِّباتِ، ومنه بِرُّ الوالِدَينِ، وهو استرضاؤهما بكُلِّ ما أمكن، وقد قيل: إنَّ البِرَّ من خواصِّ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، أي: كمالُ البِرِّ؛ إذ لا يُستبعَدُ أن يوجَدَ في الأمَّةِ من يوصَفُ به، وقد أشار إليهما من أُوتيَ جوامِعَ الكَلِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقولِه: حُسنُ الخُلُقِ؛ لأنَّه عبارةٌ عن حُسنِ العِشرةِ والصُّحبةِ مع الخَلقِ، بأن يَعرِفَ أنَّهم أُسَراءُ الأقدارِ، وإن كان ما لهم من الخَلقِ والخُلُقِ والرِّزقِ والأجَلِ بمقدارٍ، فيُحسِنُ إليهم حَسَبَ الاقتدارِ، فيأمنون منه، ويحبُّونه بالاختيارِ. هذا مع الخَلقِ، وأمَّا مع الخالِقِ فبأن يشتَغِلَ بجميعِ الفرائِضِ والنَّوافِلِ، ويأتيَ لأنواعِ الفضائِلِ، عالِمًا بأنَّ كُلَّ ما أتى منه ناقِصٌ يحتاجُ إلى العُذرِ، وكُلَّ ما صدَر من الحَقِّ كامِلٌ يوجِبُ الشُّكرَ)
.
- وعن ثوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا يزيدُ في العُمُرِ إلَّا البِرُّ، ولا يَرُدُّ القَدَرَ إلَّا الدُّعاءُ))
.
قال السِّنديُّ: (قولُه:
((لا يزيدُ في العُمُرِ إلَّا البِرُّ)) إمَّا لأنَّ البارَّ ينتَفِعُ بعُمُرِه وإن قَلَّ أكثَرَ ممَّا ينتَفِعُ به غيرُه وإن كَثُر، وإمَّا لأنَّه يُزادُ له في العُمُرِ حقيقةً، بمعنى: أنَّه لو لم يكُنْ بارًّا لقَصُرَ عُمُرُه عن القَدْرِ الذي كان إذا بَرَّ، لا بمعنى أنَّه يكونُ أطوَلَ عُمُرًا من غيرِ البارِّ، ثمَّ التَّفاوُتُ إنَّما يظهَرُ في التَّقديرِ المُعَلَّقِ، لا فيما يَعلَمُ اللهُ تعالى أنَّ الأمرَ يصيرُ إليه؛ فإنَّ ذلك لا يقبَلُ التَّغيُّرَ، وإليه يشيرُ قولُه تعالى:
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39] )
.
- وعن
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((عليكم بالصِّدقِ؛ فإنَّ الصِّدقَ يهدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَصدُقُ ويتحرَّى الصِّدقَ حتَّى يُكتَبَ عند اللهِ صِدِّيقًا. وإيَّاكم والكَذِبَ؛ فإنَّ الكَذِبَ يهدي إلى الفُجورِ، وإنَّ الفُجورَ يهدي إلى النَّارِ، وما يزالُ الرَّجُلُ يَكذِبُ، ويتحَرَّى الكَذِبَ حتَّى يُكتَبَ عِندَ اللهِ كَذَّابًا))
.
قال
القاري: (...
((عليكم بالصِّدقِ)) أي: الزَموا الصِّدقَ، وهو الإخبارُ على وَفقِ ما في الواقِعِ؛
((فإنَّ الصِّدقَ)) أي: على وَجهِ ملازمتِه ومداومتِه
((يهدي)) أي: صاحِبَه.
((إلى البِرِّ)) وهو جامِعُ الخيراتِ من اكتسابِ الحَسَناتِ واجتنابِ السَّيِّئاتِ، ويُطلَقُ على العمَلِ الخالصِ الدَّائمِ المُستَمِرِّ معه إلى الموتِ.
((وإنَّ البِرَّ يهدي)) أي: يوصِلُ صاحِبَه
((إلى الجنَّةِ)) أي: مراتِبِها العاليةِ ودَرَجاتِها)
.
- وعن
ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((النَّاسُ رَجُلانِ: بَرٌّ تَقيٌّ كريمٌ على اللَّهِ، وفاجِرٌ شَقيٌّ هَيِّنٌ على اللَّهِ))
.
فالبَرُّ تَقيٌّ كريمٌ على اللَّهِ، ومَن كان كريمًا على اللهِ كان كريمًا على عبادِه الصَّالِحين والعُقَلاءِ
.
- وعن
أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((عليكم بالصِّدقِ؛ فإنَّه مع البِرِّ، وهما في الجنَّةِ، وإيَّاكم والكَذِبَ؛ فإنَّه مع الفُجورِ، وهما في النَّارِ))
.
قال
الصَّنعانيُّ: («عليكم بالصِّدقِ؛ فإنَّه مع البِرِّ» أي: مُصاحِبٌ له وملازِمٌ دائِرٌ معه حيث دار، والبِرُّ: الإحسانُ وهو عامٌّ للإحسانِ مع الخالِقِ والمخلوقِ والنَّفسِ. «وهما في الجنَّةِ» أي: الصِّدقُ والإحسانُ من صفاتِ أهلِ الجنَّةِ وأخلاقِهم، أو هما وصاحِبُهما المتَّصِفُ بهما فيها)
.
- عن
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((سألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ العمَلِ أحَبُّ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ؟ قال: الصَّلاةُ على وقتِها. قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: بِرُّ الوالِدَينِ. قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: الجهادُ في سبيلِ اللهِ))
.
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسنِ صَحابتي؟ قال: أمُّك، قال: ثمَّ مَن؟ قال: أمُّك، قال: ثمَّ مَن؟ قال: أمُّك، قال: ثمَّ مَن؟ قال: أبوك))
.
في هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ محبَّةَ الأمِّ والشَّفَقةَ عليها ينبغي أن تكونَ ثلاثةَ أمثالِ محبَّةِ الأبِ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كرَّر الأمَّ ثلاثَ مرَّاتٍ، وذكَر الأبَ في المرَّةِ الرَّابعةِ فقط، وإذا تُؤُمِّلَ هذا المعنى شَهِد له العِيانُ، وذلك أنَّ صُعوبةَ الحَملِ، وصعوبةَ الوَضعِ، وصُعوبةَ الرَّضاعِ: تنفَرِدُ بها الأمُّ، وتشقى بها دونَ الأبِ فهذه ثلاثُ منازِلَ يخلو منها الأبُ
.
قال
ابنُ حَجَرٍ: (وقد وقَعَت الإشارةُ إلى ذلك في قَولِه تعالى:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان: 14] ، فسوَّى بينهما في الوصايةِ، وخَصَّ الأمَّ بالأمورِ الثَّلاثةِ)
.
وقال القُرطبيُّ : (وقولُه: «أمُّك» ثلاثَ مرَّاتٍ، وفي الرَّابعةِ: «أبوك» يدُلُّ على صِحَّةِ قولِ من قال: إنَّ للأمِّ ثلاثةَ أرباعِ البِرِّ، وللأبِ رُبُعُه، ومعنى ذلك: أنَّ حَقَّهما -وإن كان واجِبًا- فالأمُّ تستَحِقُّ الحَظَّ الأوفَرَ من ذلك، وفائدةُ ذلك المبالغةُ في القيامِ بحَقِّ الأمِّ، وأنَّ حَقَّها مُقَدَّمٌ عند تزاحُمِ حَقِّها وحَقِّهـ)
.
ومذهبُ الجُمهورِ أنَّ الأمَّ تفضُلُ في البِرِّ على الأبِ
.
- وعن أبي هُرَيرةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((رَغِمَ أنفُ، ثمَّ رَغِمَ أنفُ، ثمَّ رَغِمَ أنفُ! قيل: مَن يا رسولَ اللهِ؟ قال: من أدرك أبَوَيه عندَ الكِبَرِ؛ أحَدَهما أو كِلَيهما، فلم يَدخُلِ الجنَّةَ))
.
قال
النَّوويُّ: (وفيه الحثُّ على بِرِّ الوالِدَينِ، وعِظَمُ ثوابِه، ومعناه: أنَّ بِرَّهما عندَ كِبَرِهما وضَعْفِهما بالخِدمةِ أو النَّفَقةِ أو غيرِ ذلك: سَبَبٌ لدُخولِ الجنَّةِ، فمَن قَصَّر في ذلك فاته دخولُ الجنَّةِ، وأرغَمَ اللهُ أنْفَهـ)
.
- وعن
عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال:
((أقبل رجُلٌ إلى نبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أبايِعُك على الهِجرةِ والجِهادِ أبتغي الأجرَ مِنَ اللهِ تعالى. قال: فهل من والِدَيك أحدٌ حَيٌّ؟ قال: نعَمْ، بل كِلاهما، قال: فتبتغي الأجرَ من اللهِ تعالى؟ قال: نعَمْ، قال: فارجِعْ إلى والِدَيك، فأحسِنْ صُحْبَتَهما))
.
وفي روايةٍ: قال رجلٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أجاهِدُ، قال: لك أبوانِ؟ قال: نعَمْ، قال: ففيهما فجاهِدْ))
.
والحديثُ فيه دليلٌ لعِظَمِ فضيلةِ بِرِّهما، وأنَّه آكَدُ من الجهادِ، وفيه حُجَّةٌ لِما قاله العُلَماءُ: إنَّه لا يجوزُ الجهادُ إلَّا بإذنِهما إذا كانا مُسلِمَينِ أو بإذنِ المُسلِمِ منهما
.