موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


والأمثِلةُ من السُّنَّةِ على الجِدالِ المحمودِ كثيرةٌ، ونذكُرُ منها على سبيلِ المثالِ:
1- المُجادَلةُ التي دارت بَيْنَ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، والنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبَينَه وبَينَ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، في صُلحِ الحُدَيبيَةِ: فعن شَقيقِ بنِ سَلَمةَ قال: ((قام سَهلُ بنُ حُنَيفٍ يومَ صِفِّينَ، فقال: أيُّها النَّاسُ، اتَّهِموا أنفُسَكم! لقد كُنَّا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الحُدَيبيَةِ، ولو نرى قتالًا لقاتَلْنا، وذلك في الصُّلحِ الذي كان بَيْنَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَينَ المُشرِكين، فجاء عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فأتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألَسْنا على حَقٍّ وهم على باطِلٍ؟ قال: بلى، قال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النَّارِ؟ قال: بلى. قال: ففيمَ نُعطي الدَّنيَّةَ في دينِنا [2368] الدَّنِيَّةُ: النَّقيصةُ والحالةُ الخَسيسةُ، أي: نَرُدُّ مَن استجار بنا من المُسلِمين إلى المُشرِكين. يُنظَر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (8/ 131)، ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (6/ 155). ، ونرجِعُ ولَمَّا يحكُمِ اللهُ بَينَنا وبَيْنَهم؟! فقال يا ابنَ الخطَّابِ، إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضَيِّعَني اللهُ أبدًا! قال: فانطَلَق عُمَرُ فلم يصبِرْ متغَيِّظًا، فأتى أبا بكرٍ فقال: يا أبا بَكرٍ، ألَسْنا على حَقٍّ وهم على باطِلٍ؟ قال: بلى، قال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النَّارِ؟ قال: بلى. قال: فعلامَ نُعطي الدَّنيَّةَ في دينِنا، ونرجِعُ ولَمَّا يحكُمِ اللهُ بَينَنا وبَيْنَهم؟! فقال: يا ابنَ الخطَّابِ، إنَّه رسولُ اللهِ ولن يُضَيِّعَه اللهُ أبَدًا! قال: فنَزَل القرآنُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالفتحِ. فأرسَلَ إلى عُمَرَ فأقرأه إيَّاه. فقال: يا رَسولَ اللهِ، أو فَتحٌ هو؟ قال: نعَمْ، فطابت نفسُه ورَجَع)) [2369] رواه البخاري (3182)، ومسلم (1785) واللفظ له. .
2- الجِدالُ الذي دار بَيْنَ سَعدِ بنِ مُعاذٍ وسَعدِ بنِ عُبادةَ رَضِيَ اللهُ عنهما وبَينَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوةِ الأحزابِ. عن عاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ قتادةَ: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعَث إلى عُيَينةَ بنِ حِصنٍ والحارِثِ بنِ عَوفٍ، وهما قائِدَا غَطَفانَ، فأعطاهما ثُلُثَ ثمارِ المدينةِ على أن يَرجِعَا ومَن معهما عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه؛ فجرى بينَه وبَيْنَهم الصُّلحُ، حتَّى كَتَبوا الكِتابَ، ولم تَقَعِ الشَّهادةُ ولا عزيمةُ الصُّلحِ إلَّا المراوضةُ [2370] المراوَضةُ: المداراةُ. يُنظَر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 644). . وفي ذلك ففَعَلا. فلمَّا أراد رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يفعَلَ بعَث إلى سَعدِ بنِ عُبادةَ، وسَعدِ بنِ مُعاذٍ، وذكَرَ ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا: يا رسولَ اللهِ، أمرٌ تُحِبُّه فنصنَعُه، أو شيءٌ أمَرَك اللهُ به لا بُدَّ لنا مِن عَمَلٍ به، أم شيءٌ تصنَعُه لنا؟ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا، بل لكم -واللهِ- ما أصنعُ ذلك، إلَّا أنِّي رأيتُ العَرَبَ قد رمَتْكم عن قوسٍ واحدةٍ، وكالَبوكم [2371] كالَبوكم: تواثَبوا عليكم، وأظهَروا عداوَتَكم، وناصَبوكم وجاهَروكم بها. ((المصباح المنير)) للفيومي (2/537). مِن كُلِّ جانبٍ، فأردْتُ أن أكسِرَ عنكم شوكَتَهم، فقال سعدُ بنُ مُعاذٍ: يا رسولَ اللهِ، قد كُنَّا نحن وهؤلاءِ القومُ على الشِّركِ باللهِ وعبادةِ الأوثانِ، لا نعبُدُ اللهَ ولا نَعرِفُه، وهم لا يطمَعون أن يأكُلوا منها ثَمَرةً إلَّا قِرًى [2372] القِرى: الإحسانُ إلى الضَّيفِ. ((العين)) للخليل بن أحمد الفراهيدي (5/204). أو شِراءً، فحينَ أكرَمَنا اللهُ بالإسلامِ، وهدانا له، وأعَزَّنا بك، نُعطيهم أموالَنا، ما لنا بهذا حاجةٌ، فواللهِ لا نُعطيهم إلَّا السَّيفَ حتَّى يَحكُمَ اللهُ بَينَنا وبَيْنَهم! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فأنتَ وذاك. فتناوَلَ سعدٌ الصَّحيفةَ فمحاها، ثمَّ قال: لِيَجهَدوا علينا، فأقام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعَدُوُّهم محاصِروهم)) [2373] رواه الطبري في ((التاريخ)) (11/350)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (3/430) واللفظ له. .
3- مُجادَلةُ ابنِ عبَّاسٍ للخوارِجِ؛ فعن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ قال: ((لَمَّا اعتَزَلَتِ الحَرُوريَّةُ فكانوا في دارٍ على حِدَتِهم، فقُلت لعَليٍّ: يا أميرَ المُؤمنين، أبرِدْ عنِ الصَّلاةِ لَعَلِّي آتي هؤلاء القَومَ فأكَلِّمَهم، قال: إنِّي أتخوَّفُهم عليك، قُلتُ: كَلَّا إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى، قال: فلَبِستُ أحسَنَ ما أقدِرُ عليه من هذه اليَمانيةِ، قال: ثُمَّ دَخَلتُ عليهم وهم قائِلونَ في نَحرِ الظَّهيرةِ [2374] هو حينَ تبلُغُ الشَّمسُ منتهاها من الارتفاعِ، كأنَّها وصلَت إلى النَّحرِ، وهو أعلى الصَّدرِ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/ 27). ، قال: فدَخَلْتُ على قَومٍ لم أرَ قَومًا قَطُّ أشَدَّ اجتِهادًا منهم، أيديهم كأنَّها ثَفِنُ [2375] الثَّفِنةُ: ما وَلِيَ الأرضَ من كُلِّ ذاتِ أربَعٍ إذا بَرَكَت، كالرُّكبَتَينِ وغيرِهما، ويحصُلُ فيه غِلَظٌ من أثَرِ البُروكِ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/215). الإبلِ، ووُجوهُهم مُعَلَّمةٌ من آثارِ السُّجودِ، قال: فدَخَلْتُ فقالوا: مَرحَبًا بكَ يا ابنَ عَبَّاسٍ، ما جاء بك؟ قُلتُ: جِئتُ أحدِّثُكم عن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، عليهم نَزلَ الوَحيُ، وهم أعلمُ بتَأويلِه، فقال بَعضُهم: لا تُحَدِّثوهُ، وقال بَعضُهم: واللَّهِ لنُحَدِّثَنَّه، قال: قُلتُ: أخبِروني ما تَنقِمونَ على ابنِ عَمِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وخَتَنِه وأوَّلِ من آمن به، وأصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معه؟ قالوا: نَنقِمُ عليه ثَلاثًا، قال: قُلتُ: وما هُنَّ؟ قالوا: أوَّلُهن أنَّه حَكَّمَ الرِّجالَ في دينِ اللهِ، وقد قال اللَّهُ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 57] ، قال: قُلتُ: وماذا؟ قالوا: وقاتَلَ ولم يَسْبِ ولم يَغنَمْ، لَئِن كانوا كفَّارًا لَقد حَلَّتْ له أموالُهم، ولَئِن كانوا مُؤمِنين لقد حَرُمَتْ عليه دِماؤُهم. قال: قُلتُ: وماذا؟ قالوا: مَحا نَفسَه من أميرِ المُؤمنينَ، فإن لم يَكُنْ أميرَ المُؤمِنين فهو أميرُ الكافِرينَ. قال: قُلتُ: أرأيتُم إن قَرَأتُ عليكم من كِتابِ اللهِ المُحكَمِ وحَدَّثْتُكم من سُنَّةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما لا تُنكِرونَ، أترجِعونَ؟ قالوا: نَعَم، قال: قُلتُ: أمَّا قَولُكم: حَكَّمَ الرِّجالَ في دينِ اللهِ، فإنَّ اللهَ تعالى يَقولُ: يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 95] إلى قَولِه: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم [المائدة: 95] ، وقال في المَرأةِ وزَوجِها: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء: 35] أنشُدُكم اللَّهَ أحُكْمُ الرِّجالِ في حَقنِ دِمائِهم وأنفُسِهم وإصلاحِ ذاتِ بينِهم أحَقُّ أم في أرنَبٍ ثَمنُها رُبُعُ دِرهمٍ؟ قالوا: اللَّهمَّ بَل في حَقنِ دِمائِهم وإصلاحِ ذاتِ بينِهم، قال: أخرَجْتُ مِن هذه؟ قالوا: اللَّهُمَّ نَعَم، قال: وأمَّا قَولُكم: إنَّه قاتَلَ ولم يَسْبِ ولم يَغنَمْ، أتسْبونَ أُمَّكُم عائِشةَ أم تَستَحِلُّونَ منها ما تَستَحِلُّونَ من غيرِها! فقد كفَرتُم، وإن زَعَمْتُم أنَّها ليسَت أمَّ المُؤمنين فقد كفَرتُم وخَرجْتُم من الإسلامِ، إنَّ اللهَ يَقولُ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6] فأنتم مُتَرَدِّدونَ بينَ ضَلالَتين، فاختاروا أيَّتَهما شِئتُم، أخرَجْتُ من هذه؟ قالوا: اللَّهمَّ نَعَم، قال: وأمَّا قَولُكم: مَحا نَفسَه من أميرِ المُؤمنينَ، فإنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَعا قُرَيشًا يَومَ الحُدَيبيَةِ على أن يَكتُبَ بينَه وبينَهم كِتابًا، فقال: اكتُبْ: هذا ما قاضَى عليه مُحَمَّدٌ رَسولُ اللَّهِ. فقالوا: واللَّهِ لو كُنَّا نَعلمُ أنَّك رَسولُ اللهِ ما صَدَدناك عنِ البيتِ ولا قاتَلْناكَ، ولكِنِ اكتُب: مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ، فقال: واللهِ إني لرَسولُ اللهِ حَقًّا وإن كذَّبتُموني، اكتُبْ يا عَليُّ: مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللَّهِ. فرَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أفضَلَ من عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، أخرَجْتُ من هذه؟ قالوا: اللَّهمَّ نَعَم، فرَجَع منهم عِشرونَ ألفًا، وبَقِيَ منهم أربَعةُ آلافٍ فقُتِلوا)) [2376] رواه أبو داود (4037) مختَصَرًا بذِكرِ "لباسُ ابنِ عبَّاسٍ أحسَنَ ما يكونُ من حُلَلِ اليمَنِ"، وأحمد (3187) مختصرًا بذكر "كتابةُ محمَّدٍ رسولِ اللهِ ومحوُها"، وعبد الرزاق (18678) واللَّفظُ له. صحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (2/ 495) وقال: على شرط مسلم، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (115)، وحسَّنه الوادعي على شرط مسلم في ((الصَّحيح المسند)) (638)، وصحَّح إسنادَه ابن تَيميَّةَ في ((منهاج السنة)) (8/ 530)، وابن حجر في ((الدراية)) (2/ 138)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (5/ 67)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3187). .

انظر أيضا: