ب- مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
- عن أبي أُمامةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليه، إلَّا أُوتُوا الجَدَلَ. ثمَّ قرأ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذه الآيةَ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 58] ))
.
قال
القاريُّ: (والمعنى: ما كان ضلالتُهم ووقوعُهم في الكُفرِ إلَّا بسَبَبِ الجِدالِ، وهو الخصومةُ بالباطِلِ مع نبيِّهم، وطَلَبُ المعجزةِ منه عنادًا أو جُحودًا، وقيل: مقابَلةُ الحُجَّةِ بالحُجَّةِ، وقيل: المرادُ هنا العِنادُ، والمِراءُ في القرآنِ ضَربُ بعضِه ببَعضٍ؛ لترويجِ مذاهِبِهم، وآراءِ مشايخِهم، من غيرِ أن يكونَ لهم نُصرةٌ على ما هو الحَقُّ، وذلك محَرَّمٌ، لا المناظَرةُ لغَرَضٍ صَحيحٍ، كإظهارِ الحقِّ؛ فإنَّه فَرضُ كِفايةٍ)
.
وقال
المُناويُّ: (أي: الجِدالُ المؤَدِّي إلى مِراءٍ ووقوعٍ في شَكٍّ، أمَّا التَّنازُعُ في الأحكامِ فجائِزٌ إجماعًا، إنَّما المحذورُ جِدالٌ لا يرجِعُ إلى عِلمٍ، ولا يُقضى فيه بضِرسٍ قاطِعٍ
، وليس فيه اتِّباعٌ للبُرهانِ، ولا تأوُّلٌ على النَّصَفةِ، بل يَخبِطُ خَبْطَ عَشواءَ غيرَ فارقٍ بَيْنَ حَقٍّ وباطِلٍ)
.
وقال
البَيضاويُّ: (المرادُ بهذا الجَدَلِ العنادُ، والمِراءُ، والتَّعصُّبُ)
.
- وعن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ أبغَضَ الرِّجالِ إلى اللهِ الألَدُّ الخَصِمُ))
.
قال
الصَّنعانيُّ: (أي: الشَّديدُ المِراءِ، أي: الذي يَحُجُّ صاحِبَهـ)
.
وقال المُهَلَّبُ: (لمَّا كان اللَّدَدُ حامِلًا على المَطْلِ بالحُقوقِ، والتَّعريجِ بها عن وجوهِها، واللَّيِّ بها عن مُستَحقِّيها، وظُلمِ أهلِها؛ استَحَقَّ فاعِلُ ذلك بِغْضةَ اللهِ وأليمَ عِقابِهـ)
.
وقال
النَّوويُّ: (والألَدُّ: شديدُ الخُصومةِ، مأخوذٌ من لديدَيِ الوادي، وهما جانباه؛ لأنَّه كلَّما احتُجَّ عليه بحُجَّةٍ أخَذ في جانِبٍ آخَرَ، وأمَّا الخَصِمُ فهو الحاذِقُ بالخُصومةِ، والمذمومُ هو الخصومةُ بالباطِلِ في رَفعِ حَقٍّ، أو إثباتِ باطِلٍ)
.
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((المِراءُ في القُرآنِ كُفرٌ))
.
قال
البَيضاويُّ: (المرادُ بالمِراءِ فيه التَّدارُؤُ، وهو أن يرومَ تكذيبَ القرآنِ بالقُرآنِ؛ ليَدفَعَ بعضَه ببَعضٍ، فيَطرُقَ إليه قَدحًا وطَعنًا)
.
وقال
الخَطَّابيُّ: (اختلف النَّاسُ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معنى المِراءِ هنا الشَّكُّ فيه، كقولِه:
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [هود: 17] ، أي: في شَكٍّ... وتأوَّله بعضُهم على المِراءِ في قرآنِه دونَ تأويلِه ومعانيه، مِثلُ أن يقولَ قائِلٌ: هذا قُرآنٌ قد أنزله اللهُ تبارك وتعالى، ويقولَ الآخَرُ: لم يُنزِلِ اللهُ هكذا، فيَكفُرَ به من أنكَرَه، وقد أنزل سُبحانَه كتابَه على سَبعةِ أحرُفٍ كُلُّها شافٍ كافٍ، فنهاهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن إنكارِ القراءةِ التي يَسمَعُ بعضُهم بعضًا يقرَؤُها، وتوَعَّدهم بالكُفرِ عليها لينتَهوا عن المِراءِ فيه والتَّكذيبِ به؛ إذ كان القرآنُ مُنَزَّلًا على سبعةِ أحرُفٍ، وكُلُّها قرآنٌ مُنزَّلٌ يجوزُ قراءتُه، ويجِبُ علينا الإيمانُ به.
وقال بعضُهم: إنَّما جاء هذا في الجِدالِ بالقُرآنِ في الآيِ التي فيها ذِكرُ القَدَرِ والوعيدِ، وما كان في معناهما، على مذهَبِ أهلِ الكلامِ والجَدَلِ، وعلى معنى ما يجري من الخوضِ بَيْنَهم فيها دونَ ما كان منها في الأحكامِ وأبوابِ التَّحليلِ والتَّحريمِ والحَظرِ والإباحةِ؛ فإنَّ أصحابَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد تنازعوها فيما بَيْنَهم، وتحاجُّوا بها عِندَ اختلافِهم في الأحكامِ، ولم يتحَرَّجوا عن التَّناظُرِ بها وفيها، وقد قال سُبحانَه:
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] ؛ فعُلِم أنَّ النَّهيَ منصَرِفٌ إلى غيرِ هذا الوَجهِ. واللهُ أعلَمُ)
.
- وعن أبي أُمامةَ الباهِليِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَضِ الجنَّةِ لِمَن ترَك المِراءَ وإن كان مُحِقًّا، وببَيتٍ في وَسَطِ الجنَّةِ لِمَن تَرَك الكَذِبَ وإن كان مازِحًا، وببَيتٍ في أعلى الجنَّةِ لِمَن حَسُنَ خُلُقُهـ))
.
قال السِّنديُّ: (ومَن تَرَك المِراءَ، أي الجِدالَ؛ خوفًا من أن يقَعَ صاحِبُه في اللَّجاجِ الموقِعِ في الباطِلِ)
.