موسوعة الأخلاق والسلوك

تاسعًا: مسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


ممَّا يُدعى به حالَ السَّفَرِ
يُسَنُّ أن يقولَ المقيمُ للمُسافِرِ إذا أراد أن يُوَدِّعَه: أستودِعُ الله دينَك وأمانتَك وخواتيمَ عَمَلِك .
قال الخطَّابيُّ: (الأمانةُ هاهنا أهلُه ومَن يَخلُفُه منهم، ومالُه الذي يودِعُه ويستحفِظُه أمينَه ووكيلَه ومَن في معناهما، وجرى ذِكرُ الدِّينِ مع الودائِعِ؛ لأنَّ السَّفَرَ مَوضِعُ خوفٍ وخَطَرٍ، وقد تصيبُه فيه المشقَّةُ والتَّعَبُ، فيكونُ سببًا لإهمالِ بعضِ الأمورِ المتعَلِّقةِ بالدِّينِ؛ فدعا له بالمعونةِ والتَّوفيقِ) . وقيل: (وأمانتَك) أي: حِفْظَ أمانتِك فيما تزاوِلُه من الأخذِ والإعطاءِ، ومعاشَرةِ النَّاسِ في السَّفَرِ؛ إذ قد يقَعُ منه هناك خيانةٌ .
العَمَلُ بالحِيَلِ مُخالِفٌ لأداءِ الأمانةِ:
 إنَّ العَمَلَ بالحِيَلِ يَفتَحُ بابَ الخيانةِ والكَذِبِ؛ فإنَّ كثيرًا من الحِيَلِ لا يتمُّ إلَّا أن يتَّفِقَ الرَّجُلانِ على عَقدٍ يُظهِرانِه، ومقصودُهما أمرٌ آخَرُ، كما في الحِيَلِ الرِّبَويَّةِ، وحِيَلِ المناكِحِ، وغيرِهما، وذلك الذي اتَّفَقا عليه إن لزم الوفاءُ به كان العقدُ فاسِدًا. وإنْ لم يلزَمْ فقد جُوِّزَت الخيانةُ والكَذِبُ في المعاملاتِ، وفي الحديثِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((المؤمِنُ مَن أَمِنَه النَّاسُ على دِمائِهم وأموالِهم)) . والمحتالُ غيرُ مأمونٍ، وفي حديثِ ابنِ عُمَرَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لعبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ: ((كيف بِك يا عَبدَ اللهِ إذا بَقِيتَ في حُثالةٍ مِنَ النَّاسِ قد مَرِجَت عُهودُهم وأمانَتُهم واختَلَفوا فصاروا هكذا -وشَبَّك بَيْنَ أصابِعِه-؟ قال: فكيف أفعَلُ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: تأخُذُ ما تَعرِفُ وتَدَعُ ما تُنكِرُ، وتُقبِلُ على خاصَّتِك، وتَدَعُهم وعوامَّهم)) . والحِيَلُ توجِبُ مَرَجَ العهودِ والأماناتِ، وهو قلَقُها واضطرابُها، فإنَّ الرَّجُلَ إذا سوَّغ له من يعاهِدُ عَهدًا، ثمَّ لا يفي به، أو أن يُؤمنَ على شيءٍ، فيأخُذَ بعضَه بنوعِ تأويلٍ؛ ارتفَعَت الثِّقةُ به وأمثالِه، ولم يؤمَنُ في كثيرٍ من الأشياءِ أن يكونَ كذلك، ومن تأمَّل حِيَلَ أهلِ الدِّيوانِ وولاةِ الأُمورِ التي استحَلُّوا بها المحارِمَ، ودخَلوا بها في الغُلولِ والخيانةِ، ولم يَبْقَ لهم معها عهدٌ ولا أمانةٌ- عَلِمَ يقينًا أنَّ الاحتيالَ والتَّأويلاتِ أوجَبَ عُظْمَ ذلك، وعَلِمَ خُروجَ أهلِ الحِيَلِ من قولِه: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8] ، وقَولِه: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان: 7] ، ومخالفتَهم لقولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] ، وقَولِه تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ) .
الحاجةُ إلى القوَّةِ والأمانةِ في تولِّي الأعمالِ:
قال اللهُ تعالى: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص: 26] ، فهذان الوصفانِ ينبغي اعتبارُهما في كُلِّ من يتولَّى للإنسانِ عَمَلًا بإجارةٍ أو غيرِها؛ فإنَّ الخَلَلَ لا يكونُ إلَّا بفَقدِهما أو فَقدِ إحداهما، وأمَّا باجتماعِهما فإنَّ العَمَلَ يَتِمُّ ويَكمُلُ؛ فقَولُها: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ كلامٌ جامِعٌ للمقصودِ؛ لأنَّ مَن اجتَمَعت فيه الكَفاءةُ والأمانةُ جديرٌ بتفويضِ الأشغالِ إليه، والتَّعويلِ في النُّهوضِ بأعبائِها عليه .
قال الذَّهَبيُّ في ترجمةِ أبي المعالي هِبةِ اللهِ بنِ الصَّاحِبِ أبي عليٍّ الحسَنِ بنِ هِبةِ اللهِ بنِ الحَسَنِ بنِ الدَّواميِّ البغداديِّ: (وليَ هِبةُ اللهِ واسِطَ، ثمَّ صُرِفَ للِينِه وجَودتِه، فكَتَب فيه الخليفةُ: يُلحَقُ الثِّقةُ العاجِزُ بالخائِنِ الجَلْدِ! فلَزِمَ دارَه في تعَبُّدٍ وخيرٍ وبِرٍّ) .
متى يُختَبَرُ ذو الأمانةِ:
(يقالُ: إنَّما يُختَبَرُ النَّاسُ عندَ البلاءِ، وذو الأمانةِ عِندَ الأخذِ والعطاءِ، والأهلُ والوَلَدُ عندَ الفاقةِ) .
الأمانةُ عِندَ الفاسِقِ:
قيل: (الأمانةُ عندَ الفاسِقِ خَفيفةُ المحمَلِ على العاتِقِ) .
اليَدُ ثمينةٌ حالَ كَونِها أمينةً:
قال ابنُ القَيِّمِ: (أمَّا قَطعُ اليدِ في رُبُعِ دينارٍ وجَعْلُ دِيَتِها خمسَمائةِ دينارٍ، فمِن أعظَمِ المصالِحِ والحِكمةِ؛ فإنَّه احتاط في الموضِعَينِ للأموالِ والأطرافِ؛ فقَطَعها في رُبُعِ دينارٍ حِفظًا للأموالِ، وجَعَل دِيَتَها خمسَمائةِ دِينارٍ حِفظًا لها وصيانةً، وقد أورد بعضُ الزَّنادقةِ هذا السُّؤالَ وضَمَّنَه بيتينِ، فقال:
يدٌ بخَمْسِمِئي من عَسجَدٍ وُدِيَتْ
ما بالُها قُطِعَت في رُبعِ دِينارِ
تناقُضٌ ما لنا إلَّا السُّكوتُ له
ونستجيرُ بمولانا من العارِ
فأجابه بعضُ الفُقَهاءِ بأنَّها: كانت ثمينةً لَمَّا كانت أمينةً، فلمَّا خانت هانت!) .

انظر أيضا:

  1. (1) أخرجه أبو داود (2600)، والترمذي (3443)، وابن ماجه (2826) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه الترمذي، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (1617)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2600)، وحسَّنه ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/780)، وابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/116).
  2. (2) يُنظَر: ((معالم السنن)) للخطابي (2/ 258).
  3. (3) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (4/ 1690).
  4. (4) أخرجه الترمذي (2627)، والنسائي (4995)، وأحمد (8931) مطوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (180)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2627)، وقوَّى إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8931).
  5. (5) أخرجه أبو يعلى (5593) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابن تيمية في ((إقامة الدليل)) (306). وتشبيكُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصابِعَه، أخرجه البخاري (478). والحديث أخرجه أبو داود (4342)، وابن ماجه (3957)، وأحمد (7063) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4342)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4342)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/10)، وحسَّنه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/291)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/42): (جاء من طرُقٍ بعضُها صحيحُ الإسنادِ). وأصلُه في صحيحِ البخاريِّ موصولًا (479)، ومعلَّقًا (480) مختَصَرًا.
  6. (6) يُنظَر: ((إقامة الدليل على إبطال التحليل)) لابن تيمية (303-306).
  7. (7) يُنظَر: ((رموز الكنوز)) للرسعني (5/527)، ((تيسير الكريم المنان)) للسعدي (ص: 614).
  8. (8) ((سير أعلام النبلاء)) (23/ 230).
  9. (9) يُنظَر: ((كليلة ودمنة)) لابن المقفع (ص: 198).
  10. (10) يُنظَر: ((زهر الآداب)) للحصري القيرواني (2/ 118).
  11. (11) العسجَدُ: الذَّهَبُ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 208).
  12. (12) ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) (2/ 48).