ب- عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
في تبليغِ الرِّسالةِ:لقد لَقِيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سبيلِ تبليغِه للرِّسالةِ أشَدَّ الأذى والمحَنِ، فصَبَر، مع عزمٍ لا يَلينُ، ممتثلًا لأمرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ له:
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُسُلِ [الأحقاف: 35] ، وقد تجلَّت عزيمةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مثابرتِه وجهادِه ودعوتِه إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ.
قال
ابنُ جريرٍ الطَّبريُّ: (يقولُ تعالى ذِكرُه لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مثَبِّتَه على المضِيِّ لمَا قَلَّده من عِبءِ الرِّسالةِ، وثِقَلِ أحمالِ النُّبُوَّةِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وآمِرَه بالائتساءِ في العَزمِ على النُّفوذِ لذلك بأولي العَزمِ مِن قَبلِه من رُسُلِه الذين صبَروا على عظيِم ما لَقُوا فيه من قومِهم من المكارِهِ، ونالهم فيه منهم من الأذى والشَّدائِدِ)
.
وقال ابنُ عجيبةَ: (فإنَّك من جملتِهم، بل من أكمَلِهم وأفضَلِهم)
.
والنَّماذِجُ في تحمُّلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مشاقَّ الدَّعوةِ، وقُوَّةِ عزيمتِه: كثيرةٌ، ومن ذلك ما رَوَتْه
عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يا رسولَ اللهِ، هل أتى عليك يومٌ كان أشَدَّ مِن يومِ أحُدٍ؟ قال: لقد لَقِيتُ مِن قومِك ما لقيتُ، وكان أشَدُّ ما لقيتُ منهم يومَ العَقَبةِ؛ إذ عرضْتُ نَفسي على ابنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عَبدِ كُلالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أردْتُ، فانطلقْتُ وأنا مهمومٌ على وَجهي، فلم أستفِقْ إلَّا وأنا بقَرنِ الثَّعالِبِ، فرفعْتُ رأسي فإذا أنا بسَحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرْتُ فإذا فيها جِبريلُ، فناداني، فقال: إنَّ اللهَ قد سمِع قولَ قومِك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعَث اللهُ إليك ملَكَ الجِبالِ لتأمُرَه بما شئْتَ فيهم، فناداني ملَكُ الجِبالِ، فسلَّم عليَّ، ثُمَّ قال: يا مُحمَّدُ، فقال: ذلك فيما شئْتَ، إن شئْتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشَبَينِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهم مَن يعبُدُ اللهَ وَحدَه لا يُشرِكُ به شيئًا))
.
عن البراءِ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الخَندَقِ وهو ينقُلُ التُّرابَ حتَّى وارى التُّرابُ شَعرَ صَدْرِه، وكان رجلًا كثيرَ الشَّعرِ، وهو يرتجِزُ برَجَزِ عبدِ اللهِ:
واللهِ لولا اللهُ ما اهتدَينا
ولا تصدَّقْنا ولا صَلَّينا
فأنزِلَنْ سكينةً علينا
وثَبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقَينا
إنَّ الأُلى قد بَغَوا علينا
إذا أرادوا فِتنةً أَبَينا))
.
فيه: تحريضٌ وتنشيطٌ وإثارةُ النِّيَّةِ، والعَزمُ على العَمَلِ والطَّاعةِ
.
وقال
البخاريُّ: (وشاور النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه يومَ أحُدٍ في المُقامِ والخروجِ، فرَأَوا له الخروجَ، فلمَّا لَبِس لأْمَتَه وعزَم، قالوا: أقِمْ، فلم يَمِلْ إليهم بعد العَزمِ، وقال : لا ينبغي لنبيٍّ يلبَسُ لأمَتَه فيضَعَها حتَّى يحكُمَ اللهُ)
.
في الجِهادِ والشَّجاعةِ والإقدامِ:إنَّ (الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الأُسوةُ الحَسَنةُ، والقُدوةُ الرَّائِعةُ في عُلوِّ الهمَّةِ والشَّجاعةِ والإقدامِ، وقد ثَبَتَ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا حَمِيَ الوطيسُ في الحَربِ
، كان أكثَرَ النَّاسِ شَجاعةً، وأعظَمَهم إقدامًا، وأعلاهم همَّةً، وقد قادَ صَلَواتُ اللَّهِ عليه بنَفسِه خِلالَ عَشرِ سِنينَ سَبعًا وعِشرينَ غَزاةً، وكان يتَمَنَّى أن يقومَ بنَفسِه كُلَّ البُعوثِ التي بَعَثَها والسَّرايا التي سَيَّرَها، ولَكِنْ أقعَدَه عن ذلك أنَّه كان لا يجِدُ ما يُزَوِّدُ به جَميعَ أصحابِه للخُروجِ مَعَه في كُلِّ بَعثٍ، وكان أكثَرُهم لا تَطيبُ نَفسُه أن يقعُدَ ورَسولُ اللَّهِ قد خَرَجَ إلى الجِهادِ!
رَوى
البُخاريّ ومُسلم عن أبي هُرَيرةَ قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((والذي نَفسي بيدِه، لَولا أنَّ رِجالًا مِنَ المُؤمِنينَ لا تَطيبُ أنفُسُهم أن يتَخَلَّفوا عنِّي، ولا أجِدُ ما أحمِلُهم عليه، ما تَخَلَّفتُ عن سَريَّةٍ تَغزو في سَبيلِ اللَّهِ، والذي نَفسي بيدِه لَودِدتُ أنِّي أُقتَلُ في سَبيلِ اللَّهِ ثُمَّ أحيا، ثُمَّ أُقتَلُ ثُمَّ أحيا، ثُمَّ أُقتَلُ ثُمَّ أحيا، ثُمَّ أُقتَلُ!))
. فأيَّةُ همَّةٍ عاليةٍ أعلى مِن هذه الهمَّةِ النَّبَويَّةِ!)
.
في العِبادةِ:كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القُدوةَ في الهمَّةِ العاليةِ في العِبادةِ؛ فعن
عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها: أنَّ نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقومُ مِن اللَّيلِ حتى تتَفَطَّرَ قدَماه، فقالت
عائِشةُ: لم تصنَع هذا يا رَسولَ اللهِ، وقد غَفَرَ اللهُ لك ما تقدَّمَ مِن ذَنبِك وما تأخَّرَ؟ قال:
((أفَلا أُحِبُّ أن أكونَ عَبدًا شَكورًا؟!))
.
- وعن
عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال:
((صَلَّيتُ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأطالَ، حتَّى هَمَمتُ بأمرٍ سوءٍ، قال: قيلَ: وما هَمَمتَ به؟ قال: هَمَمتُ أن أجلِسَ وأدَعَه!))
.