كانتْ غَزوةُ أُحُدٍ في السَّنةِ الثَّالثةِ مِن الهِجرةِ، وقدْ كان فيها دُروسٌ لا تُنسَى لجَميعِ المُسلِمينَ، وتَعلَّموا فيها أنَّ أوامِرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَجِبُ ألَّا تُخالَفَ، وقدِ استُشهِدَ في هذه الغَزْوةِ سَبْعونَ شَهيدًا مِن خِيرةِ المُسلِمينَ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخَذَ مِنَ الأَنْفالِ الَّتي تكونُ مِن غَنائمِ المشرِكينَ زِيادةً لنفْسِه واصطِفاءً واختِيارًا منها: «سيْفَه ذا الفَقارِ»، وسُمِّي بذلكَ؛ لأنَّ السَّيفَ كانتْ به خَرَزاتٌ في ظَهْرِه مِثلُ الفِقْراتِ، وهذا السَّيفُ كان للعاصِ بنِ مُنَبِّهٍ، وكان ذلكَ في غَزْوةِ بَدْرٍ الَّتي كانتْ في رَمضانَ مِنَ السَّنةِ الثَّانيةِ مِنَ الهِجْرةِ، وفي هذه الغَزْوةِ نصَرَ اللهُ فيها رَسولَه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم والصَّحابةَ على قُرَيشٍ.
وإنَّ هذا السَّيفَ كان للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معَه رُؤْيا في مَنامِه يَومَ أُحُدٍ. وأُحُدٌ: جبَلٌ مَشهُورٌ بالمَدينةِ في شِمالِيِّها الغرْبيِّ، بيْنَه وبيْنَ المدينةِ ثَلاثةُ أمْيالٍ.
ثُمَّ أخبَرَ ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا جاءَهُ مُشرِكو قُرَيشٍ يَومَ أُحُدٍ يَغْزونَه، ويَنتقِمونَ ليَومِ بَدْرٍ، كان رأْيُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَبْقَى بالمَدينةِ، فيُقاتِلَهم فيها، وكان رأْيُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على وَجْهِ الشُّورَى لأصْحابِه رضِيَ اللهُ عنهم، فكان رأْيُ بعْضِ النَّاسِ الَّذينَ لم يَسْبِقْ لهم شُهودُ غَزْوةِ بدْرٍ-وخاصَّةً الشَّبابَ- أنْ يَخرُجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالجَيشِ، فيُقاتِلَهم عندَ جبَلِ أُحُدٍ؛ طامِعِينَ أنْ يُصيبوا مِنَ الفَضيلةِ والأجْرِ ما أصابَ أهْلُ بَدْرٍ، وهُمُ الَّذينَ حارَبوا قُرَيشًا حِينئذٍ، ومِن أعظَمِ الثَّوابِ والأجْرِ الَّذي نال أصْحابُ بدْرٍ أنَّ اللهُ قدْ غفَرَ لهم؛ ففي الصَّحيحينِ مِن حَديثِ علِيِّ بنِ أبي طالبٍ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «لعلَّ اللهَ أنْ يكونَ قدِ اطَّلَعَ على أهْلِ بَدْرٍ فقالَ: اعْمَلوا ما شِئتُم؛ فقَدْ غفَرتُ لَكُم».
وظَلَّ أصْحابُ المَشورةِ يُرغِّبونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الخروجِ إلى أُحُدٍ، حتَّى «لبِسَ أداتَهُ» وهي عُدَّةَ الحَرْبِ؛ مِنَ الدِّرْعِ والسِّلاحِ ونَحوِهما، ولكنَّهم بعْدَ ذلكَ ظَنُّوا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إنَّما تَحرَّكَ على هذا النَّحْوِ تَحرُّجًا منهم، فنَدِموا، وقالوا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «يا رَسولَ اللهِ، أقِمْ؛ فالرَّأْيُ رأْيُكَ»؛ أيِ: ابْقَ في المَدينةِ، وقاتِلْ فيها، ولا تَخرُجْ منها، على النَّحْوِ الَّذي كُنتَ تُريدُ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ما يَنْبغي لنَبيٍّ أنْ يَضَعَ أداتَهُ بعْدَ أنْ لبِسَها، حتَّى يَحكُمَ اللهُ بيْنَه وبيْنَ عدُوِّه»؛ أي: ليس يَنبغي له إذا عزَمَ أنْ يَنصرِفَ؛ لأنَّه نقْضٌ للتَّوكُّلِ الَّذي شرَطَ اللهُ معَ العَزيمةِ، فلُبْسُه لعُدَّةِ الحرْبِ دالٌّ على العزيمةِ.
ثُمَّ أخبَرَ ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ مِمَّا قالَهُ لَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومئذٍ قبْلَ أنْ يَلبَسَ عُدَّةَ الحرْبِ: «إنِّي رأَيتُ» في المنامِ، ورُؤْيا الأنبياءِ صِدْقٌ وحَقٌّ كلُّها، «أنِّي في دِرْعٍ حَصينةٍ»؛ أي: أنَّ عُدَّةَ الحرْبِ الَّتي كان يَلْبَسُها قَويَّةٌ ومَنِيعةٌ؛ ففسَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الدِّرْعَبالمَدينةِ، «وأنِّي مُردِفٌ كَبْشًا»؛ وهو ذكَرُ الغنَمِ، يَسحَبُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن ورائِه؛ ففسَّرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالكَتيبةِ والجَيشِ الَّذي خرَجَ للقتالِ، «ورأَيتُ أنَّ سَيْفي ذا الفَقارِ فُلَّ»؛ أي: كُسِر، ففسَّره النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه للمُنهزِمِينَ مِنَ الجَيشِ، «ورأَيتُ بقَرًا تُذبَحُ»، وقدْ فسَّرَ البقَرَ في الرِّواياتِبأنَّه قَتْلُ الصَّحابةِ يَومَ أُحُدٍ.
وقَولُه: «فبَقَرٌ واللهِ خَيرٌ»؛ قيلَ: إنَّه سَمِعَ هذه الجُملةَ في الرُّؤْيا، وفسَّرَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقَولِه -كما في الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ أبي مُوسى الأشعريِّ:«وإذا الخَيرُ ما جاءَ اللهُ به مِن الخَيرِ بَعدُ، وثوابُ الصِّدقِ الَّذي آتانا بعْدَ يَومِ بدْرٍ» والمرادُ: بما بعْدَ بدْرٍ فتْحُ خَيْبرَ ثُمَّ مَكَّةَ، ويَحتمِلُ أنْ يُرادَ بالخَيرِالغَنيمةُ. وقيلَ: هي مِن قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ والمعنى: ما صنَعَ اللهُ تَعالَى بشُهَداءِ أُحُدٍ هو خَيرٌ لهم مِن بَقائِهم في الدُّنْيا.